بشار العيسى يكشف عن غرضه ويلخص السجال الدائر في دواخله

الفنان المفعم بالشروط الإنسانية بهيئاتها المختلفة يعتبر بحق من أهم الرموز التشكيلية السورية، منذ السبعينات القرن الماضي وإلى الآن، رغم أن الهم السياسي كان يشغله كثيراً وما يزال، وأبعده ولو جزئياً من الحراك الفني.

"في دار المعلمين تعلمت بفضل أستاذي ممدوح النابلسي أن الفن ليس رسم طبيعة صامتة، أو طبيعة، أو وجه، الفن هو إعادة بناء العالم، إن اللوحة يجب أن تؤدي دوراً في صياغة العلاقات بين البشر، في إعادة تثقيف العيون بالجميل.."، هذا ما يقوله بشار العيسى (1950- غنامية، درباسية، سورية ) الفنان المفعم بالشروط الإنسانية بهيئاتها المختلفة، المنبثق من الحكايات الكبرى للجزيرة السورية، الحكايات التي كانت تقمع بكل سردياتها، الفنان الذي كان يتحدى الشروط التي كانت تنتجها معايير المدى القريب، فكان منخرطاً في الوجع السياسي منذ طفولته.

 يكفي أن نقول بأنه نال نصيبه من الضرب وهو طفل لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره حين كان يحمل لافتة كتبت عليها " عاشت الأخوة الكردية العربية" مشاركاً في مظاهرات ضد الحراك العسكري عام 1963، فبشار العيسى الذي تفتق وعيه في هذه السن المبكرة من الطبيعي أن يرى بأن الفن هو إعادة بناء العالم، الطريق الأسمى للبناء والعدل، والأسلم والأنقى لخلق الإنسان، وهذه المقولة التي قالها في أحد لقاءاته تكاد تلخص فهمه للفن وللحياة، وبالتالي للإنسان، فهو بلا شك ليس مخطئاً في طرح هذه المقولة، بل هي الأصح على الإطلاق، وهو على الصواب التام، بل هي الحقيقة الباطنة والظاهرة والأمر الأهم في جعل الفن الركن الأول في إعادة بناء العالم وفق أغراض توصلنا إلى نفوسنا، وكل هذا سيتسنى لنا إدراك ذلك البناء وتفهمه بأشياء تجدي الإعتماد عليها وعلى مزاياها، وملمين بطبيعتها ووظيفتها التي تؤديها بقصد أو بغير قصد، فالحكم الذاتي هنا يعززه الحكم الموضوعي، والإلهام الذي يدفع الفنان نحو هذا البناء الجميل هو ذاته الذي يدفعه إلى خلق الإنسان بكامل مفرداته، بأخلاقه ومزاجه وذكائه وشخصيته.

 ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف تأتى لبشار العيسى أن يستلهم هذا القدر المكثف من الأعمال المستوحاة من وجع الناس ومما يدور في خلدهم وتراثهم، فمقولته الآنفةالذكر وعبر توسيعه لها يدفعه إلى ارتياد آفاق تخييلية بإيقاعات في المد والقطع والرفع والخفض، فهو ينبئنا على الغالب بالشيء الذي نطمئن إليه السبب الأهم الذي من أجله يوجد العمل الفني، والسبب الأهم الذي جعل العمل الفني الدعامة الأولى في إعادة بناء العالم، في إعادة بناء الإنسان، له الأثر الفعال في ذلك، ولهذا رأى بشار العيسى فيه آداته في الحضور، وفي السير في الطريق القويم والطويل نحو طموحاته وتحقيقها، رأى فيها القدرة على الاحتجاج على تلك القواعد العامة الجامدة المجردة من كل روح، وبعبارة أخرى وجد فيه ما يساعده في الكشف عن الغرض الذي يمشي إليه، وعن قيمته المعرفية والجمالية وبالتالي البنائية، ولعل كل عمل من أعماله هو خطوة نحو الهدف المنشود، نحو الإنسان، هو خطوة تحتوي في ثناياها المفاتيح التي بها ستفتح كل ما هو محكم من ناحيتي الحرية والمسؤولية، ستفتح بها كل الأسئلة التي يمكن إستنباط عالم جديد منها ومن الأجوبة التي رسمت لها، وهذا يساعد الفنان وأقصد هنا العيسى في أن يعرض موضوعه قي لونه وشكله، وفي أن يبلغ المدى الذي هو رهين أدواته التي يستخدمها بقواعده الخاصة به، لا بالقواعد التي قد تفرض عليه وفق صحة ما يمكن أن يعمل، وهذه حرية لا يمكن أن يستغنى عنها أي فنان، فكيف إذا كان هذا الفنان بشار العيسى عاشق هذه الحرية والمدافع العنيد عنها، والدافع والمضحي سنوات من عمره وريشته وألوانه وقلمه كي تكون .

أكثر من نصف قرن وبشار العيسى يمضي إلى مشهده البصري ليرسمه، متخذاً من نظرته الخاصة والتي هي نظرة أشد تحدياً وأقل تقبلاً لكل تقليد، فيتيح لنفسه تلك الطريقة التي بها يتواصل وبعناصر جلّها تكمن خارج التقليد مع ما يعزز تعاطفه المسبق لتناوله افتراضات موضوعية تقيم من خلالها مزيداً من الأرضية المشتركة، من الفعل التواصلي كعماد لعمله الفني المنتج، نصف قرن وأكثر والعيسى يرسم لوحته التي لم ينته منها بعد، وكأن حاله يقول لنا بأن الفنان الحقيقي لا يرسم على إمتداد عمره غير لوحة واحدة غير مكتملة، بدءاً من عمله الأول إلى عمله الذي بين يديه والذي لم ينجز بعد، ما هي إلا تفاصيل من لوحته الكبرى، لوحته الوحيدة، ويثبت لنا ذلك حين نراه يقول في أحد لقاءاته : " بعد عشرات المعارض، أكتشف أنني أرسم لوحة واحدة، لا تنتهي حين أنتهي منها، وإنما تتوالد في التي بعدها والتي تستولد من التي قبلها، أكتشف أنني أعيد إنتاج المشهد عينه، والشخوص ذاتهم، إن وجدوا، وآثارهم إن غابوا، بإضافة تفاصيل وحذف بعضها تتلون فضاءات بالأحمر والأصفر، وتعاد ثانية بالرمادي أو الأزرق، أو تذوب كلها في كثافة الأبيض، تخطط لها مسافات وخطوط ومشاهد بصرية برؤى مختلفة لكنها ذاتها . "، فعلى هذا النحو يتحدث العيسى وبأن ما يدفعه إلى قول ذلك هو تحقيق قدر من السيطرة على هذا الوجه من أوجه الواقع، والذي بات محتوماً إلى حد ما من ملامح الحياة البشرية، فلو لم تكن لديه مثل هذه المقدرة من الإبداع لما بقي على قيد الحياة، فالعمل المبدع هو روح الحياة، بل هو روح الفنان ذاته، به يتبارى الوقائع بكل معاييرها، ونتيجة لهذا الاحتدام العذب بينه وبين عمله الذي لم يكتمل بعد، والذي لن يكتمل على ما يبدو، سيبقى للمتلقي حيزه لملىء الفراغات بألوانه وخطوطه هو، وكأن اللوحة باتت عملاً تشاركياً بينهما، بين الفنان والمتلقي، عملاً تشاركياً في الخلق وفي القراءة على حد سواء، أقول نتيجة لهذا الإحتدام العذب بينهما سيتم عكس حاجاتهما ومطالبهما وفق قدرتهما على التحرك وتغيير الإتجاه تبعاً للطبيعة العابرة ولأهمية الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، فثمة لغة تجمعهم وتبدو مكتظة لدرجة عدم وجود أية هوة بين ما يقولون وما يفعلون، بين ما يرسمون وما يقرؤون .

رغم أن الحياة التشكيلية السورية في السبعينات من القرن الفائت كانت لها ما يميزها، مقارنة بالعقود الأخرى، سواء أكانت في غناها بالإتجاهات والتجارب، أو في مجموعة من الأفكار المتعالقة التي تتيح لها أن تتمازج أو تتنافذ واحدتها مع الأخرى دون أي اختزال لسيرورتها، ووجدت شيئاً فشيئاً حتى كادت أن تكون الزناد الذي يقدح ما تنطوي عليه من تغييرات حتى باتت تلفت الإنتباه بإستخدامهم لأبجديات جديدة إن كان في المناخ والألوان، أو في التقنيات، وكانت لهذه المرحلة الممتدة تاريخياً على عقدين قبلها، والمبنية عليها، كان لها أسماءها التي إستطاع كل منهم أن يأخذ حيزه من المشهد، وأن يؤثر فيه، نذكر منهم : فاتح المدرس (1922-1999 )، لؤي كيالي (1934-1978)، ممدوح قشلان (1929-2022 )، أسعد عرابي (1941 — — )، منذر كم نقش (1935-2019 )، غياث الأخرس (19— — )، نعيم اسماعيل (1930-1979 )، نشأت الزعبي (1939— — )، سامي برهان (1929-2021 )، غسان السباعي (1939-2015 )، عبدالقادر أرناؤوط (1928-2004 )، نذير نبعة (1938-2016 )، خزيمة علواني (1934— — )، وآخرين، بين هذا البحر الهائج إستطاع بشار العيسى إلى جانب توأمه عمر حمدي -مالفا - (1951-2015 )، فلا نكاد نذكر أحدهما حتى يحضر الآخر تلقائياً، توأمان في الإنتماء إلى المكان، وفي تلقي الصدمة من دمشق وفنانيها في المرة الأولى حين سافر كل منهما إليها على أمل تقديم تجربتهما، كل منهما على حدا، توأمان في المعاناة والإغتراب، تجربتان غنيتان استطاعتا أن تكونا أنموذجاً ناجحاً ومشرفاً لنا في أرجاء المعمورة، استطاع كل منهما أن يحتل حيزه الذي يليق به، ولا يمكن القفز فوقهما، فشاب ترعرع في الجزيرة السورية، بعيداً عن العاصمة المركز الصاخب للفن والفنانين ويحرز بينهم مكانة، تعتبر بحد ذاتها جزماً مبرراً على الحضور والنجاح، بيد أن الوقت كان ميالاً وعلى نحو ما إلى الأهمية التي تسبغها العلاقات بين الوقائع، تلك الوقائع التي تتكلم من تلقاء ذاتها.

 يكفي أن ندع أخاه حسين العيسى يروي لنا ما رواه لعامر أحمد والذي نشرها في مادة حملت عنوان "بشار العيسى وحكاية اللوحة الأم" في أواخر عام 2008، هذه الواقعة حتى ندرك التحدي الكبير الذي كان يحمله بشار كي يكون، يقول حسين وهو يروي حكاية دخول لوحات بشار العيسى أول مرة إلى دمشق : " ما زال ذلك الانكسار والتمزق يملآن حلق بشار حين رفض البواب أن يدخل لوحاته المغبرة إلى الصالة الأنيقة إلا بعد صراخ وجلبة أطل بعدها موظف أنيق، كان فناناً أنيقاً من فناني العاصمة، وسألناه ماذا تريد ومن تكون، وعلى مضض قبل بدخول لوحاته، منذ ذلك اليوم وإلى اليوم لم تقم أية صداقة بين لوحاته وفناني العاصمة ومسؤوليها .. "، فتلك هي القصة، تلك هي بدايتها، وقد تكون هي المنعطف بذاته، ويدخل العيسى مغامرة الرحلة، الرحلة الصعبة وكأنها صحراوية، يظهر في أوقات الشدة، يجمع ذبائحه، أقصد أعماله، ليحل ضيفاً على تجمع ما، على غاليري مثلاً، وبحدس مجهول يحاكي المكان وقبائلها، يبحث عن كائنات بشرية خالصة كان قد بعثرها على فضاءاته، كان يعرف أن تلك الكائنات تهمس بتمائم السحرة، وهو على يقين بأنه كسارد للمشهد سيحسم الأمر، وبأن الأرض ستحمله من أرض إلى أرض حتى يعود صبياً شقياً، يستيقظ في الصباح ليجد نفسه وحيداً في العراء، المنفى عراء، والغربة عراء، فيستبدل قصة الخلق بقصته التي بدأت ولما تنته، فثمة شخصية فيه ترافقه، من حقيقة إلى أخرى، شخصية إستثنائية قريبة من الوحي، تعلن عنه وعن خضوعه للعشق النائم فيه، لتحدث المعجزة بأبجديته هو فيضمن خلاصه، ويمضي في طريق غربته الأبدية دون أن يتحقق النذر، ودون أن تزف البشارة، ويدخل العيسى مغامرة الإغتراب القسري، يجد نفسه داخلها رغماً عنه، جريحاً يتخبط بين أزقتها، تهيمن عليه معالم مجهولة ،يخرج الموت من بين ملفاته، دون أن تثبط عزيمته، أو تعطله من السير نحو الحياة في مواجهة مباشرة، لا يسمح للأفكار المحبطة والسديمية أن تصادر منه عبق الحلم، صحيح أنه يمضي بأنفاسه وصخبها وتياراتها المتقاطعة، ويمسك دموعه ما استطاع إليها سبيلاً، وهو يدخل المتاهة، متاهة الرحلة القسرية، متاهة اللجوء والاغتراب، ففي عام 1980 غادر سورية مجبراً بإتجاه بيروت، ولكن في حصارها أقصد في حصار بيروت عام 1982، حاله كحال معظم المثقفين ركب سفينة الرحيل، ليستقر به لاحقاً في باريس، فرنسا حيث يعيش إلى الآن .

يعتبر بحق من أهم الرموز التشكيلية السورية، منذ السبعينات القرن الماضي وإلى الآن، رغم أن الهم السياسي كان يشغله كثيراً وما يزال، وأبعده ولو جزئياً من الحراك الفني، وربما هذا هو السبب، فلم نر له عملاً يهز هذا الحراك منذ زمن، أقول رغم ذلك، فما زرعه بات شامخاً ومثمراً على إمتداد العقود، وما أنتجه غدا حالة منها ينهل الكثير من الفنانين التشكيليين الشباب، فإذا كان يزاوج بين العيسى الفنان، والعيسى السياسي، وفي خضم حماسه لذلك فإنه في هذه التزاوج وفي هذه المحاكاة، يحاول أن يلخص السجال الدائر في دواخله، في جوهره بأن ذلك منفذه الوحيد للوصول إلى حقيقة الواقع، بمشاعره وتأكيداته يتعدى الأساس الذي عليه تبنى كل وجه من وجوه الحياة، فهو لا يعيد إنتاج الواقع بوصفها أسئلة تبحث عن إجابات، بل بوصفها ثمرة للجمال وما تتوق نفسه إليها، ولهذا جاءت رؤيته غير مقيدة، تهتم بالحقائق، وتأبه لها، وهذا ما يدفعه إلى رسم مشهده الفني، لا بوصفه أفكار مبعثرة يدفع منتجه إلى تشيؤ الذات بإلحاح، بل بوصفه قطعة من الحياة، يرمي جل مفرداته في الجزء العلوي من العمل الفني أو ما يمكن أن نسميه الأفق، ويدفع بزومه، وبعدسة تكبيره على بقعة منها يقدمها في الجزء المتبقي من العمل بكل تفاصيلها، فالعلاقة بين الجزء والكل تستمد وجودها من العلاقة بين المفردات، فثمة لغة عنده هي خارج اللغات المعروفة، متموضعة عميقاً وتعمل كعمل قوانين الطبيعة، وهي تلح عليه حين يتخذها أن تكون أشكاله متغيرة بوصفها نتاجاً للغته الخاصة، وهي تحتفي به بقدوم هذا النوع الجديد من الخلق، وما يلفت فيها أيضاً غياب الثبات عن معنى الأشياء، وبذلك يتجاوز النزعات المدرسية، مكتفياً بالإنحياز إلى الذات، وجعل هذه الذات غير عاجزة في تحريك الركود بغية الحفاظ على ذاتها بكل خصوصيتها والإبقاء عليها.

زوم صغير : 

1972 قدم معرضه الفردي الأول في صالة الشعب بدمشق .

 1975 في صالة الشعب بدمشق .

 1975 في المتحف الوطني بحلب .

 1977في صالة الشعب بدمشق .

 1989 في صالة الشعب بدمشق .

 1984 في غاليري أوليفيه بجنيف في سويسرا .

 1989 في مركز الأمم المتحدة بجنيف في سويسرا .

 1990 في غاليري كول غوبو بباريس في فرنسا .

 1991في أورو آرت المهرجان الدولي للفنون بفيرونا في إيطاليا .

 1991 في غاليري أم البرج بكنغشلوتر في ألمانيا .

 1993 في غاليري غي كرتييه بباريس في فرنسا .

 1994 في غاليري إيماج بنيس في فرنسا .

كما شارك بعشرات المرات في معارض جماعية على امتداد الخارطة.