بشرى صالح تقارب الحالة الشعرية في العراق وسوريا

الشعر العراقي ينبض بتحولات شعرية كبرى خاضتها الأجيال الشعرية السابقة، مع الأخذ في الاعتبار أن لكل جيل ملامحه المتميزة وعلاماته الفارقة.
مصطلح "الجيل" توقف العمل به لصعوبة الاشتقاق الزمني بعد عام 2000، ولشساعة التجربة الشعرية في المرحلة الآنية
تقديم رؤية موحدة في متن غير موحد ولا متجانس ضرب من الافتراض القسري غير المبرر
القانون المتحكم في الشعر العراقي الآن هو القانون الشعري الحواري الكرنفالي
الفيس بوك أدى الدور الذي تقوم به الصحافة الورقية بأعمدتها النقدية

ترى الباحثة د. بشرى موسى صالح أن واقع الشعر العراقي الآن لا يختلف عن الشعر السوري، على الرغم من أن الريادة كانت في العراق بما أنتجه من أجيال شعرية تقوم في منجزها على المغايرة والاختلاف وصولا إلى كسر الأسيجة الصلدة بين الأنواع الأدبية، وتداخل الفنون في الكتابة الشعرية، وانفتاحها على الزمن الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي.
وفي مقاربتها لأجيال الحداثة الشعرية العراقية - في بحثها المنشور في التقرير الأول لحالة الشعر العربي الصادر عن أكاديمية الشعر العربي 2019 بجامعة الطائف السعودية - تؤكد صالح أن الشعر العراقي ينبض بتحولات شعرية كبرى خاضتها الأجيال الشعرية السابقة، مع الأخذ في الاعتبار أن لكل جيل ملامحه المتميزة وعلاماته الفارقة، على الرغم من أن مصطلح "الجيل" توقف العمل به لصعوبة الاشتقاق الزمني من جانب، بعد عام 2000، ولشساعة التجربة الشعرية في المرحلة الآنية من جانب آخر، أو لأن المصطلح كفّ عن الحضور وفات زمن تداوله النقدي، ولم يعد صالحا للتداول، حيث وصلنا إلى أجيال يغاير بعضها بعضا، وربما ينقض بعضها بعضا، وهذا يعني – من وجهة نظر الباحثة – أن تقديم رؤية موحدة في متن غير موحد ولا متجانس ضرب من الافتراض القسري غير المبرر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ما تتسم به القصيدة (الآنية) من تنويعات أسلوبية وبنائية ونصية يصعب الانتهاء منها إلى محصلة معيارية، لأنها تنقض في بنيتها المعيار وتتفلت منه. وهذا يعني أننا بإزاء أجوبة صعبة ومعقدة نتيجة لتعقد المشهد الشعري وتنوع الإشكالات الجمالية والنقدية المحدقة به.
وتوضح الباحثة أن التحولات الشعرية العراقية الكبرى مرت بأربعة تحولات أو أربعة سياقات هي: السياق الثوري وتمثل بشعر الرواد، والسياق التجريبي ويتمثل بشعر التسعينيات العراقي، ونلحظ فيه سطوة التجريب اللغوي الشعري والانفتاح على التجربة الشعرية العالمية في إبداع الأجناس الأدبية، وغلبة النزعة الرؤيوية، وثالثا؛ السياق اليومي والنثري، وبدأ مع مرحلة السبعينيات عبورا نحو الثمانينيات حيث فجرت الحرب (بين العراق وإيران) مكامن التجريب الشكلي والرؤيوي.

ريادة الحداثة الشعرية كانت في العراق، ولم تشهد سوريا ما شهده العراق من ريادة حداثوية صارخة، مثلما كانت في العراق على يد رواد الحداثة الكبار

وتبين الباحثة أنه ظهرت أسماء شعرية نسوية مميزة في هذا الجيل من أمثال: أمل الجبوري، ودنيا ميخائيل، وريم قيس كبة، وسهام جبار .. وغيرهن.
أما رابع السياقات فهو سياق التلوينات العمودية حيث بدا مصطلح "قصيدة الشعر" هو المصطلح الموازي لـ "عمود الشعر الحديث" والمحاكي لعمود القصيدة (القديم). وتوضح أن سنة 1999 شهدت الولادة العلنية لمشروع "قصيدة الشعر" في ملتقى الرصافة الثاني للشعر العربي في السياقين الشعري والنقدي بوصفها ردة فعل على تهافت التجارب الشعرية التي كانت سائدة في العراق بنوعيها العمودي والتفعيلي. وتؤكد أن جيل التسعينيات امتاز بتنوعه الشكلي والأسلوبي وقبوله بالحداثة الشعرية، وتعدد الأصوات التعبيرية ليتجاور في أبنيته في علاقة تواز تعددية من العمودي والتفعيلي، وقصيدة النثر، وقصيدة النص، وقصيدة الومضة، والنزعة الدارمية، والسردية، والأشكال البصرية .. إلخ.
وتناقش الباحثة تأثير وسائل الاتصال الاجتماعي في ابتداع أشكال شعرية أسلوبية جديدة أطلق عليها الشاعر التسعيني مشتاق عباس معن "القصيدة التفاعلية"، وشاع المصطلح وتكرّس في مشروع له رؤيته وإجراءاته القائمة على العناية بحضور المتلقي (التقني) وإسهاماته في قراءة النص، وإعادة إنتاجه. وهي ترى أن "القصيدة التفاعلية" هي من أشد النصوص الشعرية التحاما بالوسيط الإلكتروني بما أتاحت من منافذ تلق متنوعة ومفتوحة: سمعية وبصرية وفنية ثرية، وكأنها بذلك تكرس مقولة التسعينيين بأنهم "جيل بلا آخر" إلا أن آخره هو "آخر نقدي".
وتتوقف د. بشرى صالح عند قصيدة الومضة، التي حققت حضورا لافتا للنظر في شعر التسعينيات وما تلاه، فهي عند التسعيين غيرها عند الثمانيين، على الرغم من أنها ابنة "قصيدة النثر" بامتياز، وتعد المفارقة حجرها الأساس، فهي ومضة مفارقة تعتمد على الضربة الشعرية الخاطفة، وهي على نحو عام نمط من القصائد القصار تقوم على اختصار الجملة، والضربة الشعرية، واختزالها، إلى أقصى حد ممكن من دون الإخلال بشرط المعنى، ووحدة القصيدة، وبلاغة القول الشعري، وهي تحقق اقتصادا في اللغة، وكثافة تعبيرية عالية تمنحها فاعلية القصيدة الطويلة المكتملة.
وتؤكد الباحثة على أن قصيدة الومضة لا تقتصر على "قصيدة النثر" بل تشمل "قصيدة التفعيلة" أيضا، وتوضح أنها لا يمكنها أن تدخل بناء القصيدة العمودية، بسبب من معماريتها المغايرة لما تتطلبه تقنية الومضة، ولكني أذكرها هنا بقصيدة البيت الواحد في الشكل البيتي أو الشكل العمودي، وأرى هذا البيت يعادل قصيدة الومضة في قصيدة النثر أو قصيدة التفعيلة.
وقصيدة البيت الواحد كما يعرفها خليفة التليسي في كتابه "قصيدة البيت الواحد" (1983) "هي قصيدة البيت الذي يعبر عن نفسية الشاعر وعن اللحظة الشعرية بتعبير عميق مقتضب". ويقول: "نشأت الحاجة لهذا النوع من القصائد من الولع بالإيجاز واعتماد العرب على الحفظ والرواية الشعرية وانعدام التدوين، فكانت الحاجة إلى بيت يلخص نفسية وشعور الشاعر أكثر منها إلى الدخول في الخيالات والتصورات. وهنا تتفوق قصيدة البيت على ما سواها من حيث إنها كلما قلت الأداة وزاد المحصول ارتفعت طبقة الفن والأدب وكلما زادت الأداة وقل المحصول مال إلى النزول والإسفاف". ومن ذلك قول المتنبي (من الطويل):
يحاذرني حتفي كأنيَ حتفه ** وتنكرني الأفعى فيقتلها سُمِّي
وقوله (من الطويل أيضا):
وكم من جبالٍ جبتُ تشهد أنني الـ ** جبالُ .. وبحرٍ شاهد أنني البحرُ
وهو لا شك بيت منتزع من قصيدة طويلة، ولكنه مكتف بذاته، ولا يشعر القارئ أنه في حاجة إلى قول آخر بعد ذلك. تماما مثله مثل قصيدة الومضة التي تتحدث عنها الباحثة، ولكنها لم تورد أمثلة ولم تدلل على قصيدة الومضة سواء في التفعيلة أو النثر، واكتفت بقولها عن قصيدة الومضة: "إنها تعادل في السرد القصة القصيرة جدا أو الأقصوصة". وهي ترى أن الواقع السياسي والاجتماعي العراقي الراهن يتجانس مع روح المفارقة لما تشتمل عليه من سخرية ونسق نقدي لاذع وتوريات عميقة.
وعن الحالة الشعرية العراقية بعد 2003 ترى الباحثة أنها حالة من الذهول التعبيري المرافق والناتج عن الصدمة الهائلة التي تعرض لها المجتمع العراقي بأطيافه شتى، ورافق هذا الواقع الانفتاح التقني على وسائل التواصل الاجتماعي والميديا، مما انعكس بقوة على التقانة التعبيرية، وعلى التلقي النقدي للفنون الجميلة بأجمعها وعلى الشعر خاصة، مما ساعد على اتساع مساحة "التناص الشكلي" و"الكولاج" المتنوع .. وغير ذلك من وسائل تعبيرية (تقنية).  

The case of Arabic poetry
شعراء تحت القصف

وتتساءل الباحثة عن القانون المتحكم في الشعر العراقي (الآن) وتكون الإجابة هو القانون الشعري الحواري (الكرنفالي) في أشكاله العمودية المحافظة على البناء الكلاسيكي للقصيدة العربية، وقصيدة النثر، وقصيدة التفعيلة التي لم تبتعد عن المشهد الشعري الراهن. وهي ترى أن هذا القانون أنتج الكثير من النصوص المثيرة والمدهشة والأخرى البسيطة أو الهابطة، مما أدى إلى تخصيب الوعي النقدي ومنح المتلقي فرصة التمييز والفرز تبعا لاختلاف الذائقة والوعي، وهو ما أدى إلى عدم السماح بتسيّد رؤية على أخرى، لنجد الرؤى العبثية تتجاور مع الرؤى العرفانية والصوفية والرؤى الثقافية والاجتماعية والسياسية .. الخ، وهذا بدوره انعكس على الإصدارات الشعرية ما بين دواوين غير مستوفية لشروط الإبداع،  وإصدارات شعرية ناضجة.
أما الدراسات النقدية في المشهد العراقي والخاصة بالشعر فتلاحظ الباحثة أنها قليلة نسبيا حتى في الرسائل والأطاريح الأكاديمية قياسا بالدراسات السردية، مشيرة إلى أثر الفيس بوك الشعري والنقدي في ملاحقة التجارب الشعرية، وتقديم الرأي النقدي بشأنها، وترى أن الفيس بوك أدى الدور الذي تقوم به الصحافة الورقية بأعمدتها النقدية، غير أنها تحذر من الدور السلبي للفيس بوك والذي أدى إلى شيوع نمط من التواصل الاجتماعي غير المختص في تشجيع الموهوبين والدخلاء على الإبداع عن طريق المجاملات والإعجاب غير العارف بقوانين الكتابة الشعرية، مما شجع هؤلاء على نشر دواوين لا تصلح للنشر ولا تستحقه. غير أنني أرى أن هذا الأمر غير مرتبط بالحالة العراقية فحسب ولكن أصبح أمرا شائعا في جميع المناطق أو الدول العربية وغير العربية.
أما عن الشعر في سوريا فلم تستطرد الباحثة د. بشرى صالح كثيرا في الحديث عنه، مؤكدة أن حال الشعر في سوريا مماثل إلى حد كبير في تفصيلاته وروحه مع حال الشعر العراقي، ولا سيما أن البلدين قد مرّا بظروف سياسية واجتماعية تكاد تكون واحدة، غير أن ريادة الحداثة الشعرية كانت في العراق، ولم تشهد سوريا ما شهده العراق من ريادة حداثوية صارخة، مثلما كانت في العراق على يد رواد الحداثة الكبار: نازك الملائكة، والسياب، وبلند الحيدري، ولكن كان لصدى الريادة الشعرية العراقية أثر كبير في سوريا ومصر.
وتؤكد الباحثة أن في حركة التجديد أو حركة الحداثة لم يبرز في سوريا سوى اسمين قدّم كل منهما أنموذجه التجديدي وهما: علي الجندي وخليل الخوري.
وهي توضح تأثير الحرب الدائرة في سوريا على الشعر، مشيرة إلى انطولوجيا بعنوان "شعراء تحت القصف" باللغتين العربية والألمانية للشاعر زيد قطريب، مؤكدة أن الحرب أيقظت الأسئلة الفكرية والفلسفية، وأفضت عمليا إلى استيقاظ أسئلة الشكل وأسلوب الكتابة الشعرية، دون أن تذكر أمثلة شعرية.
وتختتم الباحثة حديثها عن الحالة السورية؛ بأن الشعر السوري الآن لم يمل إلى الشعر العمودي، فالشعر الحر أو شعر التفعيلة هو الأكثر ذيوعا وانتشارا. مؤكدة أن التحولات الشعرية في العراق وسوريا اليوم خضعت لمناخ اجتماعي وسياسي فيه الكثير من التشابه والمشتركات، وأن واقع الشعر العراقي (الآن) لا يختلف عنه الشعر السوري.