تارا خليل تمتلك الخيارات الصعبة وتمضي فيها

العراقية تارا خليل ترسم بمسؤولية وتنقل بدقة رؤيتها لسحر الطبيعة وتستمد تجربتها من لغة الحياة اليومية ومن بيئة وطبيعة بلادها كما أنها تنشغل بالبورتريه.
أهمية البورتريه عند تارا خليل في تغيير الذائقة الجمالية

تارا خليل إبنة مدينة كركوك الغنية بثرواتها وبأبنائها وبفنانيها لا ترتوي من الرسم، تمارس عشقها الإبداعي بغزارة لونية تعتز بها، وتتقن مرارة قطع المسافات الطويلة، تمتلك الخيارات الصعبة وتمضي فيها محاولة التأكيد على ذاتها، محددة ملامحها، بأجنحتها، بوضوح ألوانها، بموجوداتها التشكيلية وقدرتها على تطويعها.
 وهي تحدد قيمها الفنية وتضعها في لوحتها لا كظاهرة فنية، بل كطوفان تنتشر في كل الإتجاهات، فتتحرك مؤثراتها الحسية على نحو متصل حينا، وحينا على نحو متقطع، لتبقي إشاراتها وما تقدمه من دلالات تفاعلات تجري في أقانيمها المرئية على نحو شبه صوفي بها تتوسل سطوحها وما تنساب عليها من ألوان تمتلك حركيّة توزيعها لتتحول إلى معطيات مشبعة بالتشخيص والحضور الإنساني، وفي الوقت نفسه مشبعة بلمساتها وخطوطها وألوانها وكأنها إيحاءات لذاكرة أمكنة لا يمكن الوصول إليها إلا بما تشمله من هواجسها وتطلعاتها، ولا يمكن ثقبها إلا بما يساعدها من إمتلاكها لرصيد يسمح لها بالظهور.
 فهي تحتاج دوما إلى قدر من الوقت لتضع خياراتها الكثيرة على المحك، الخيارات التي لا مستقر لها، لكن لها هروبها وغناها، لها فراغها ورؤياها  لها تكنيكها وإرهاصاتها، تضع خياراتها على نحو ما تفاجئك بالتأمل الشديد وبحاجتها الكبيرة إلى البحث بذاتها الملتهبة عن أفق باحتمالات مغايرة، باحتمالات تكون اللحظة فيها مبهرة، وفي مسار قد يستدعي زمكاناً آخر لها، وتحتمي بالأسئلة وتدافع عن حلمها الذي ما زال يهرب في الزحام.

حلمها الحاضر دائما في الذاكرة الإنسانية، والمختزل بحميمية في عودة الأشياء إلى ذواتها، إلى أشلائها الهاربة من خبايا ملمسها، إلى إنتماءاتها التي لا حدود لها، فكل المؤشرات وبعيداً عما تسكن في الذاكرة تتداخل على نحو فيه تتيه اللحظات مع التداعيات، لكن قدرتها على التعبير تمنحها مناخا يضمن قيمها المعرفية و الجمالية .
تارا خليل ترسم بمسؤولية وتترك أثر ذلك في كل ما ترسمه، فهي لا تفترض بيئة أو جغرافية معينة، ولا مناخاً مستوردا، ولا تصعد سلالم ليست لها، ولا تدخل واحة إن لم تلونها بشهيقها وزفيرها، أبجديتها التي يمكن تلخيصها بالإنسان والطبيعة حاشدة بسحر ملوناتها، بها تنقل حقيقة مشاعرها، ودقة رؤيتها ، وبأشرعتها العائمة في واقعها الموضوعي تقود أشكالها بدقائق أمورها، فتلفت الأنظار من حولها، فتبني لنفسها بمعطيات مباشرة طريقاً تكاد لا تجد نفسها إلا فيه.
 وبالفعل فوضوح أعمالها قد تكون أشبه بالإستراحات التي تثبت التوازنات للإنسان، وتثبت لها الرغبة بطموح يبدو لأول وهلة بعيد المنال، ولكن بقائها في حالة حالمة دائمة تجعله في متناول ريشتها.
فهي لا تترك حلمها ولا تخرج من جلدها، تقدم تركيباتها بما تحتمل، لا زوائد تثقل كاهلها، ولا قدراً يخفف حيويتها، تلك الحيوية بعنفها ورقتها تحدد ملامح تجربتها، التجربة المستمدة برمتها من مناخاتها وبيئاتها و طبيعة بلادها، فتسقط كل ما تعيشه وما تشاهده من عادات وتقاليد على فضاءاتها لتكون شاهدة عليها، وعلى السر المعلق بين جوانحها.
 فلوحاتها محطات زمنية مقتنصة من المكان الذي تعيش فيه، وبذلك تكتسب إحتكاكاً مباشراً مع إيقاعات لواقعية ما زالت تنبض بين أصابع أمثالها وأمثال شكران بلال التي تتقاطع تجربتهما في نقاط كثيرة، ضمن الأجواء ذاتها، وما تستعيدان من موضوعات بيئية، وعناوين محلية، ومضامين إجتماعية.
 فتارا بخصوصيتها تؤكد أن الفن مسؤولية لا تحيد عنها، وتمتلك كل مواصفات هذه المسؤولية، فهي مرتبطة بأبجدية المكان بكل مفاهيمها التاريخية والتراثية والإجتماعية، وتسقط كل ذلك على مفارق زمنية أعمالها، حتى تظهر ملامحها كملامح عاشقة مسافرة في الحلم أبداً .
تارا خليل لا تغادر أعمالها، ا أمكنة الإنجاب فيها ، فهي تتدفق بصمت وبكل وداعة من نبضات فرشاتها، ومن أقاليم حلمها الراقد بهدوء، وبثقة وطمأنينة بين بقعها اللونية التي تمددها في أنحاء اللوحة كلها، وتسيطر عليها لدرجة التلاشي فأمامها بناء وحشود ومفردات تشتغل عليها بالشكل الذي يضعها أمام نفسها لتواجه الحقيقة وخطورة لمسها ، الأمر الذي قد يجهض أحلامها.

 ولهذا فهي في أدق حذرها وهي تقترب من ذاتها، أو من الذات الإنسانية وفهمها، أو من التراث البيئي حيث الفصل في تثبيت الحقائق، والذي يجعلها تبحث عن المعلومات المرتبطة بأفكار جديدة وتلتقطها ثم تعالجها بأسلوب معرفي قائم على أساس من الإستكشاف والتنوع.
وفي ضوء ذلك فهي تختبر الواقع بمهارتها، وتكسبه قرابة زمنية، وإسهام خاص في صقل فهمها لخصائصه الشكلية، فهي تعطي أهمية قصوى للون والبهجة الإنفعالية فيه، لا كقيمة موضوعية، بل كقيمة جمالية لها أبعادها المعرفية والثقافية، لها إسهاماتها في جذب إهتمام عين المتلقي على نحو نشط وفعال، وتجعله يتلقى ويفسر ويتذوق تبعاً للمنحى التي تمضي فيها، فعمليات التلقي عندها مبني على تفاعلات لها تأثيراتها في أهمية اكتساب الخبرة الجمالية .
إضافة إلى حركة الناس المألوفة، والطبيعة المحاطة بمسافات خاصة فتارا خليل تلتقط ملامح من حولها، فإشتغالها على البورتريه تكاد تأخذ حيزا كبيرا من تجربتها، مؤكدة على أهميتها في تغيير الذائقة الجمالية، فهي تستأثر شكلاً خاصاً بها، بها تقترب من لغة الحياة اليومية، فلا وجود لإنزياحات لوجوهها بل تحيط بها بأشكال تمتلىء حيوية  وتزخر بالحياة، وكأنها تقتفي حركة الروح فيها، وتخفف من الضغط الممتد في أعمدتها الخاصة، وهي تميل إلى البساطة في إسقاط مشاعرها، وفي إخضاع نفسها لتأثيرات القوى التي تحدث في داخلها، فالشيء الحقيقي التي تلبسها خليل لإدراكاتها هي بالضرورة تعبيرات وصفية لعلاقات ضمنية/ داخلية لنشاطاتها المختلفة .