تاريخ الرسم الصحفي في مصر .. من علّم بيكار الرسم؟

تم رصد أكثر من 50 خبرًا وتقريرًا ومقالا عن كتاب "تاريخ الرسم الصحفي في مصر" في الصحف والمجلات المصرية والعربية.
كيف تعامل رسامو الصحف مع التقلبات السياسية العنيفة وما صاحبها من تغيرات حادة في الأوضاع الاجتماعية؟
بيكار: نشأتي في حي الأنفوشي بالإسكندرية أتاحت لي وأنا طفل رؤية الرسامين الأجانب الذين كانوا يقيمون بهذا الحي الشعبي الجميل
فكرة هذا الكتاب شغلتني ربع قرن، وكتبتها في سنتين!

انبثقت الفكرة ذات شتاء في منتصف سبعينيات القرن الماضي. كنت منهمكا كعادتي في محاكاة اللوحة البديعة التي رسمها الفنان الرائد المجدد حسين بيكار لتزيّن رواية "الآنسة هيام" التي يكتبها مصطفى أمين وتنشرها على حلقات جريدة "أخبار اليوم" كل سبت. لم تكن هذه المرة الأولى التي أضع فيها لوحة لبيكار أمامي وأحاول تقليدها في كراستي، إذ كنت، ومازلت، مفتونا بعبقرية الرجل في إنجاز لوحة عامرة بالرشاقة والأناقة والجمال. ولما تعرفت على الرجل شخصيًا فيما بعد، وأصبحت أزوره في بيته بالزمالك، سمعت منه الكثير عن موقفه من الفن وكيف يبدع ويرسم، ولكن تلك قصة أخرى قد أعود إليها يومًا.
المهم، وأنا أجاهد بالقلم الرصاص لأقتنص دقة بيكار ومهاراته، اقتحمني سؤال مفاجئ؟ من الذي علّم بيكار الرسم؟ ومتى؟ والرجل كما أعرف من مواليد 1913، وتوجهت بسؤالي إلى والدي الراحل الجليل عبدالفتاح عراق الذي كان مثقفا فذا ورسامًا متميزا، ولكن بالقلم فقط، وكان من المعجبين أيّما إعجاب ببيكار، فقال لي: "إن المصريين القدماء رسموا ونحتوا أعمالا مذهلة تبهر الناظرين حتى الآن، كما أن الرسامين الأجانب وفدوا إلى مصر في القرن الماضي - التاسع عشر – وظلوا يرسمون في الصحف والمجلات، وأظن أن بيكار ورث جينات العبقرية في الفن من أجدادنا العظام، كما تعلم أيضا من هؤلاء الأجانب"، ثم أضاف بحكمة الوالد الذي يشجع ابنه على البحث عن المعرفة: "على أية حال، ليس عندي معلومات دقيقة عن من هم الأساتذة المباشرين لبيكار... ابحث أنت لعلك تصل إلى نتيجة حاسمة".
جرى هذا الحديث في شتاء 1975 تقريبًا، حيث كنت طالبًا في الصف الثالث الإعدادي، ومن يومها كلما شاهدت لوحات مرسومة في صحيفة أو مجلة طاف في ذهني السؤال إياه، ومع مرور الأيام ارتفع معدل اهتمامي بالرسوم الصحفية بعدما تأملت واستمتعت بأعمال الأساتذة الكبار أمثال صاروخان والحسين فوزي ورخا وزهدي العدوي وعبدالغني أبو العينين وطوغان وحسن حاكم وحجازي وبهجت عثمان وصلاح جاهين وصلاح الليثي وجمال كامل وحسن فؤاد ومصطفى حسين وجورج البهجوري ومحمد حجي ومكرم حنين وإبراهيم عبدالملاك وناجي وحلمي التوني وعبدالعال وتاج وجمعة فرحات وجودة خليفة ومحمد أبوطالب وغيرهم عشرات من الفنانين المصريين المذهلين الذين أضاءوا برسومهم التوضحية أو أعمالهم الكاريكاتيرية صفحات جرائدنا ومجلاتنا منذ الثلاثينيات حتى التسعينيات.

طالبني آخرون باستكمال الرحلة حتى سنة 2000، لكني لم أفعل، فقد توصلت أخيرًا إلى إجابة السؤال الذي كان يؤرقني وأنا صبي: من علّم بيكار الرسم؟     

في عام 1979 التحقت بكلية الفنون الجميلة بالزمالك لأزيد من مهاراتي في الرسم، وأصدرت مع صديقيّ محمد القدوسي وسعيد شعيب في يناير/كانون الثاني من عام 1981 مجلة "أوراق" الشهرية التي كنت أرسم فيها كل عدد من الأعداد السبعة التي أصدرناها، ثم تخرجت في الكلية عام 1984 قسم التصوير الزيتي، (أي الرسم بألوان الزيت)، بعد أن درست قبسات من تاريخ الفن في مصر والعالم، لكن هذه الدراسة لم تجبني عن السؤال الذي يلح في خاطري؟ من علّم بيكار الرسم؟ ومتى؟ ثم تطور الأمر مع ازدياد قراءاتي في مجالات المعرفة المختلفة، لتتسع دائرة الأسئلة بعد أن عملت رسامًا ومحررًا ثقافيًا في صحف (مصر الفتاة وصوت الشعب والشعب والعربي وأخبار الأدب) فتصبح: متى بدأ الرسم في الصحافة المصرية؟ ومن هم الرواد الأوائل؟ بل متى عرفت مصر الصحافة أصلا؟ وما علاقتها بالحياة السياسية؟ وكيف تعامل رسامو الصحف مع التقلبات السياسية العنيفة وما صاحبها من تغيرات حادة في الأوضاع الاجتماعية؟ إلى آخر هذه الأسئلة المنطقية.
المسابقة الغريبة 
مات الوالد في 12 مارس/آذار 1995، دون أن نصل معًا إلى إجابات حاسمة بشأن من علّم بيكار الرسم، وتعرفت على بيكار شخصيًا للمرة الأولى في 26 ديسمبر/كانون الأول 1995 أيضا، وذلك عندما كان يفتتح أحد المعارض في قاعة "دروب" بجاردن سيتي، وأثمرت عدة لقاءات بعدها باقة من زهور المودة بين الفنان الرائد والشاب الطموح، فدعاني إلى زيارته في بيته (9 شارع حسن عاصم بالزمالك)، فانفجر في كياني شلال من الفرح، وقلت في خاطري، هأنذا أدخل عرين الفنان الأعظم، فتجرأت وسألته ونحن نتناول الشاي في منزله في مساء أحد الأيام: 
- يا أستاذ... من علّمك الرسم؟ 
فضحك كطفل جميل تجاوز الثمانين، وقال لي ولمعة العينين لم تغادر ذا الوجه المسالم: 
- يا ناصر يا حبيبي... إن نشأتي في حي الأنفوشي بالإسكندرية أتاحت لي وأنا طفل رؤية الرسامين الأجانب الذين كانوا يقيمون بهذا الحي الشعبي الجميل، فكنت أمرّ على مرسم أحدهم القريب من بيتنا، فأظل شاخصًا أتأمله وهو ينشئ لوحاته وأنا مبهور بأدائه في الرسم.
تذكرت آنذاك رأي الوالد، فأيقنت أن بيكار تلقى فنون الرسم عبر طريقين: الوراثة من أجدادنا الفنانين المصريين القدماء، والتعلم من الأجانب المقيمن في مصر، فلما حلّ صيف 1998، فوجئت ذات نهار بإعلان في جريدة الأهرام عن مسابقة جديدة أطلقتها جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين باسم (جائزة أحمد بهاء الدين)، وقد أسست هذه الجائزة أسرة الكاتب الصحفي الكبير الذي رحل عام 1996. قرأت شروط المسابقة، وكانت موجهة للشباب تحت الأربعين، وتتلخص في (تأليف كتاب متميز في الفن أو الأدب أو التاريخ أو العلوم وغيرها شريطة أن يصلح للقارئ العام).
قرأت الإعلان مرتين وأنا ألهث، إذن فكرة تأليف كتاب يتناول تاريخ الرسم الصحفي في مصر أمر وارد الحدوث، حيث لم يسبق لأحد أن استعرض هذا الموضوع من قبل. وأعدت قراءة الإعلان للمرة الثالثة، فكان المطلوب تقديم فصل أو جزء من الكتاب لا يقل عدد كلماته عن خمسة آلاف كلمة، فإذا رأت اللجنة التحكيم أن هذا الفصل يمكن أن يكون جذابًا وأن يُبنى فوقه بقية فصول الكتاب، تم اجتياز المرحلة الأولى بنجاح، على أن اللجنة لن تختار سوى ثلاثة متسابقين فقط من المتميزين، لتمنح كل واحد منهم مبلغ خمسة آلاف جنيه ليواصل استكمال الكتاب لمدة عام، وبعدها تختار اللجنة كتابًا واحدًا فقط للفوز بجائزة أحمد بهاء الدين، وتمنح صاحبه خمسة آلف جنيه أخرى، وتعمل على نشر الكتاب.
لا تسلني كيف غمرتني الثقة بأنني سأجتاز المرحلة الأولى بيسر، وأنني سأعبر المرحلة الثانية بسلاسة لأفوز بجائزة بهاء الدين بجدارة، فقد استحوذت فكرة الكتاب على مخيلتي، وبدأت أنصت بتركيز لحزمة الأسئلة التي انهمرت في عقلي: من أين أبدأ؟ وكيف أتعامل مع تاريخنا الصحفي الزاخر؟ وما الأسلوب الأصح الذي سأربط به بين الصحافة والسياسة والمجتمع لأنني كنت موقنا بأن الصحافة جزء من - وتعبير عن - المجتمع بأطيافه وظلاله، بحكامه وناسه؟ ثم أن الرسم الصحفي ينقسم إلى جزءين: رسوم الكاريكاتير، والرسوم التوضيحية التي ترافق القصص والقصائد وبعض المقالات وغيرها.
بعد تفكير عميق قررت أن أدرس تاريخ الرسم الصحفي ككل، أي الرسوم التوضيحية والكاريكاتير. ومن حسن الطالع أنني أحتفظ في مكتبتي بكتاب (فجر الصحافة في مصر) للدكتور أحمد حسين الصاوي الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1975. أعدت قراءته مرة أخرى بروح جديد.. روح مختلف.. روح الباحث المدقق، ففتح لي آفاقا أخرى للبحث والتنقيب.
على الفور شرعت في تجميع الكتب التي أحتاجها في بحثي، وبقيت مشكلة العثور على الرسوم نفسها التي تؤكد قناعاتي، فذهبت إلى أرشيف المؤسسات الصحفية الكبرى من أول الأهرام والأخبار ودار الهلال حتى روز اليوسف والجمهورية ومكتبة المجلس الأعلى للصحافة. وقد قررت أن أبحث عن الرسوم في السنوات الفاصلة في تاريخنا. وهكذا عدت إلى أول صحيفة صدرت في مصر، وقد أصدرها نابليون بونارت عندما قاد حملته العسكرية واحتل بلادنا عام 1798، ثم الوقائع المصرية التي أصدرها محمد علي باشا عام 1928، بعد أن اختفت تماما أي نسخة من (جورنال الخديو) التي أصدرها محمد علي باشا قبل الوقائع بثماني سنوات، أي في 1820، والتي ذكرها الدكتور إبراهيم عبده في كتابه المدهش "تاريخ الوقائع المصرية" التي صدرت طبعته الثالثة عن مؤسسة سجل العرب عام 1983.
هكذا إذن توقفت باهتمام أمام فترة حكم الخديو إسماعيل، حيث صدرت صحيفتا وادي النيل والأهرام، ثم سنة الاحتلال الإنجليزي 1882، ووفاة مصطفى كامل 1908، والحرب العالمية الأولى 1914، وثورة 1919، وإعلان أول دستور مصري 1922، ووفاة سعد زغلول 1927، وسنوات ازدهار الرسوم الصحفية في الثلاينيات والأربعينيات، والحرب العالمية الثانية 1939، وحرب فلسطين 1948 وثورة يوليو 1952، والعدوان الثلاثي 1956، والوحدة مع سوريا 1958، وهزيمة يونيو 1967، وحرب الاستنزاف ووفاة عبد الناصر 1970، وحرب أكتوبر 1973، وآثار الانفتاح الاقتصادي ومقتل السادات 1981، ثم أنهيت كتابي عند عام 1990.
لقد حاولت في كل هذه الأعوام التاريخية رصد أبرز الرسوم الصحفية وأجملها وكيف تعاملت مع الأحداث العنيفة سياسيًا واجتماعيًا، ووجدتني بعد أن اخترت 1000 رسم من أرشيف دور الصحف والمجلات المختلفة، أفرزها وأصفيها وأكتفي بنحو 350 رسمًا فقط. وهنا أتذكر بمودة الشاعرة المصرية المقيمة حاليًا بفرنسا زهرة يسري التي ساعدتني في البحث في أرشيف المؤسسات الصحفية لاختيار الرسوم المعبرة عن المراحل التاريخية المتنوعة.
المهم.. قدمت أول فصل وفقا لشروط الجائزة بقلب يخفق بالقلق، وفجأة تلقيت يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1998عقدًا موقعا من الأستاذ سيف المري رئيس التحرير للعمل في (دار الصدى للصحافة) بدبي لأغادر إلى الإمارات وأستلم مهام عملي فورًا، فترددت كثيرًا لمدة شهرين، فزوجتي على وشك ولادة طفلتي الأولى، ومشروع الكتاب يطاردني في صحوي ونومي، كما أنني اقتربت من عامي الثامن والثلاثين، وهو سن لا يحبذ كثيرًا المغامرة والسفر من أجل العمل ما دامت أمور المرء مستقرة في بلده، خاصة وأنني ابن القاهرة، لم أبرحها ولا أريد، فكيف أترك هذا كله وأحمل أمتعتي وأرحل إلى بلد لا أكاد أعرف عنه شيئا تقريبًا. وسألت الكاتب جمال الغيطاني، حيث كنت أعمل معه ساعتها في "أخبار الأدب"، فشجعني على السفر ممتدحًا دبي وأهل الإمارات عمومًا. 

Story book
350 رسمًا متنوعًا 

هكذا غادرت القاهرة إلى دبي للمرة الأولى في مساء 23 يناير/كانون الثاني 1999 لأشارك في تأسيس دار الصدى للصحافة، ولأتولى رئاسة القسم الثقافي في مجلة "الصدى" الأسبوعية، بينما عقلي منشغل بالمسابقة وما جرى فيها، وبعد نحو شهرين تلقيت اتصالا من إدارة الجائزة بالقاهرة يهنئني باختيار فكرة البحث التي تقدمت بها ويطالبني بضرورة الحضور للمثول أمام أعضاء لجنة التحكيم لأنهم يريدون مناقشتك في بعض الأمور بشأنها.
لا يمكن وصف السعادة التي انهمر نهرها العذب في أوردتي وشراييني، وكم كان سيف المري كريمًا معي عندما شرحت له الأمر، فوافق على منحي إجازة سريعة، رغم أننا ما زلنا في مرحلة تأسيس المجلة، ولم يصدر منها سوى عدد تجريبي واحد. وعلى الفور شددت الرحال إلى القاهرة في 25 مارس/آذار لأرى ابنتي هديل ذات الأربعين يومًا للمرة الأولى، ولأمثل أمام لجنة التحكيم في اليوم التالي.
أجل.. المفاجأة كانت مذهلة، فاللجنة مكونة من أساتذة كبار أصحاب سمعة ناصعة في عالم الفكر والثقافة والإبداع، وهم المستشار طارق البشري رئيسًا، وعضوية كل من د. جلال أمين ود. أحمد مستجير ودة. رضوى عاشور ومصطفى نبيل رئيس تحرير الهلال وقتئذ. كما فوجئت بأنهم اختاروا خمسة متسابقين وليس ثلاثة كما ذكروا في الإعلان. المهم سألونا باستفاضة وأثنوا على الأجزاء المقدمة من البحوث، ثم منحوا كل واحد منا شيكا بمبلغ خمسة آلاف جنيه، وقالوا لنا: انطلقوا وعودوا بعد عام وكل واحد منكم كتابه في يمينه لنختار أفضلكم.
الجائزة الأولى والأستاذ هيكل
عدت إلى عملي في دبي محملا بعشرات الكتب والمراجع ومئات الصور من الرسوم الصحفية، وفي منتصف ليلة 20 مايو/آيار 1999 استقبلتُ زوجتي في مطار دبي وهي تحمل في حضنها طفلتنا الجميلة هديل بعد أن أكملت شهرها الثالث.
عام كامل من العذاب اللذيذ، حيث أنهمك تمامًا في عملي الصحفي في مجلة "الصدى" من التاسعة صباحًا حتى الثامنة مساءً تقريبًا، وحين أعود إلى بيتي أواصل القراءة والبحث والكتابة بقدر طاقتي، وفي أيام الإجازات أتفرغ معظم الوقت لاستكمال كتابي الذي اخترت له عنوان (تاريخ الرسم الصحفي مصر). وأشهد أن دبي منحتني الهدوء والسكينة، فاستطعت أن أنجز مهمتي على أكمل وجه.
أرسلت الكتاب برسومه الصحفية في الموعد المحدد، وتلقيت خبر فوزي بالجائزة الأولى وأنا مشمول بسعادة لا حدود لها، وعدت إلى القاهرة لأحضر حفل إعلان الفائز بالجائزة الذي أقيم في مكتبة القاهرة بالزمالك في 22 مايو/آيار عام 2000، وفوجئت بأن المنصة يتصدرها الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، وعن يمينه وعن شماله كل من د. زياد بهاء الدين ابن الأستاذ بهاء وأمين عام الجائزة، ومدير المكتبة ودة. رضوى عاشور عضو لجنة التحكيم التي قرأت حيثيات فوزي بهذه الجائزة المرموقة، أما الحضور فكان عبارة عن كوكبة معتبرة من كبار مثقفي مصر ومبدعيها المتفردين أذكر منهم الأساتذة الكبار كامل زهيري ود. أحمد مستجير عضو لجنة التحكيم وجمال الغيطاني وصافيناز كاظم وفاروق جويدة ومحمود بقشيش ويوسف القعيد ومريد البرغوثي ومصطفى عبدالله والفنان التشكيلي الكبير حلمي التوني والفنان الدكتور الصديق محمد عرابي وزملائي وأصدقائي محمد القدوسي وسعيد شعيب وعماد الدين حسين وعادل السنهوري وغيرهم.
بعد أن أنهت دة. رضوى قراءة الحيثيات، فوجئت بالأستاذ هيكل شخصيًا يعلن اسمي لألقي كلمتي كما هو مدرج في برنامج الحفل، فتوجهت نحو (البوديوم) الذي يقع على يمين المنصة، ولا أخفي عليك أنني كنت مرتبكا جدًا، فقررت أن أعلن ارتباكي هذا للحضور عسى أن يغفر لي أي عثرة، وقلت: "معذرة أيها السيدات والسادة لأي اضطراب، فكيف أملك أعصابي وأنا فائز بجائزة كبرى تحمل اسم الراحل الجليل أحمد بهاء الدين، ويقدمني الأستاذ العظيم محمد حسنين هيكل"، فضجت القاعة بالتصفيق، فتراجع معدل الارتباك داخلي بشكل واضح، وشرعت، خلال ربع ساعة فقط وهو الوقت المخصص لي، في تقديم موجز لمحتوى الكتاب. 
وما إن أنهيت كلمتي المرتجلة حول نشاة الصحافة وعلاقة الرسوم الصحفية بأوضاعنا السياسية والاجتماعية وأبرز الرسامين الأجانب والمصريين طوال قرنين من الزمان تقريبًا، حتى انتشت نفسي بالتصفيق الحاد المتواصل لأكثر من دقيقتين كما قال لي شقيقي الأصغر الراحل المهندس صلاح الذي حضر الحفل، ثم توجهت نحو المنصة لأصافح الأستاذ هيكل وأستلم جائزتي، ففاجأني الرجل بعتاب وهو يسدد بصره في عينيّ: "جيد يا ناصر، لكنك نسيت سانتيس".
فاشتعل اضطرابي، وقلت بسرعة مدافعًا عن جهدي وإنجازي: "لم أنسه يا أستاذ، لقد ذكرته في كتابي، لكنه سقط مني في بحر الارتجال"، فابتسم وشدّ على يدي وقال مهنئا: "ما دام ذكرته...يبقى برافو عليك... ممتاز... ألف مبروك يا ناصر"، وبالمناسبة سانتيس هذا رسام إسباني هبط أرض مصر في عام 1921 ومضى يرسم في مجلة "اللطائف المصورة" وغيرها.
وفي لحظات التف حولي الحضور مهنئين والفرح يشرق في وجوههم، وطلب مني الناقد والفنان التشكيلي الأستاذ محمود بقشيش نسخة من البحث ليطلع عليه، وقد تفضل مشكورًا بكتابة مقال مدهش عنه في مجلة "الهلال"، حيث جاء في هذا المقال الذي أعتز به كثيرًا هذه الفقرة: "يعد الفنان والناقد ناصر عراق من أكثر أبناء جيله ولعًا بالصحافة - أو بدقة - إيمانا بها وبدورها التنويري وبقدرتها على خلق ذهنية عربية تستطيع الإسهام في الحيوية الثقافية العالمية. فاز مؤخرًا بالجائزة الأولى في مسابقة جائزة أحمد بهاء الدين في دورتها الأولى عن بحث شائق بعنوان (تاريخ الرسم الصحفي في مصر)، ويعد هذا البحث الأول من نوعه، فلم يسبقه إلى هذا الموضوع أحد. اختار ناصر بحس الصحفي الذي يتعقب الحقائق وبوعي المؤرخ الوطني مساحة زمنية مفعمة بالأحداث الجسام، وقد أتاحت له تلك الأحداث مادة ثرية نسج من خيوطها صورة باهرة لنضال الشعب المصري من أجل الحرية ومن أجل تألق مواهب مبدعيه في آن واحد". 
بقي أن يصدر البحث في كتاب، وذهبت وفقا للاتفاق مع إدارة الجائزة، إلى دار ميرت للنشر والمعلومات التي يديرها محمد هاشم، وتقع في شارع قصر النيل بالقاهرة رقم (6 ب). وتم الاتفاق، وتولى الفنان أحمد اللباد تصميم الغلاف الجميل مستعينا بلوحة للفنان حسن فؤاد كان قد رسمها مصاحبة لرواية "الأرض" لعبدالرحمن الشرقاوي، وقد وضعنا الفقرة السابقة للأستاذ بقشيش على ظهر الغلاف الأخير أو الخلفي، وبالفعل صدر الكتاب في 18 يونيو/حزيران 2002، وهو مكون من 348 صفحة مقسمة إلى خمسة فصول ومقدمة وخاتمة، علاوة على 350 رسمًا متنوعًا من أول الرسم الذي كان يعلو البيانات والقرارات التي يصدرها نابليون بونابرت في مصر وتعلق على جدران الحارات والأزقة في القاهرة والإسكندرية، حتى أبرز ما كان ينشر في الصحف والمجلات في عام 1990.
استقبل الجمهور والصحفيون والنقاد الكتاب عند صدوره بحفاوة بالغة أسعدتني كثيرًا، حيث تم رصد أكثر من 50 خبرًا وتقريرًا ومقالا عنه في الصحف والمجلات المصرية والعربية، واستعان به بعض طلاب الدراسات العليا في الجامعات المصرية الذين تخصصوا في الفنون أو الصحافة، بوصفه مرجعًا مهمًا، وطالبني آخرون باستكمال الرحلة حتى سنة 2000، لكني لم أفعل، فقد توصلت أخيرًا إلى إجابة السؤال الذي كان يؤرقني وأنا صبي: من علّم بيكار الرسم؟