تحرير شيعة العراق من طائفية الحكم

ما يُقال اليوم عن مقتدى (الأميركي) هو انعكاس لعجز مناوئيه عن اللحاق به بسبب إيرانيتهم.

سبق رجل الدين العراقي مقتدى الصدر جميع رموز العملية السياسية المتعثرة في العراق في الخروج من الخندق العقائدي.

وهو ما يعني أن الرجل لم يتحرر من شيعيته حسب بل تخلى أيضا عن أن تكون العقيدة مقياسا لبناء تحالفات سياسية عابرة للطوائف والاعراق.

هو تحول في فهم السياسة لم يكن أحد يتوقع وقوعه في عراق الملل والنحل.

سيشك الكثيرون في أن الصدر يقف وحده وراء ذلك التحول. غير أن في تاريخ الرجل وهو المعروف بانعطافاته الكبرى ما يمهد لذلك.

غير مرة بدا الصدر كما لو أنه مقبل على اعتزال العمل السياسي. لقد تخلى عن جيش المهدي وعن نواب تياره ووزرائه غير أن الفقراء والمعدمين والمهمشين والمحرومين لم يتخلوا عنه.

الرجل الذي لا تخلو بطانته من الفاسدين لا تحوم حوله شبهات الفساد. وتلك ميزة عظمى في العراق. فحين لا يكون المرء فاسدا في بلد حكمه نوري المالكي ثمان سنوات فذلك ما يهبه صفات الملائكة.

ولأن الصدر رجل دين بالوراثة فيمكن توقع أن لا يكون دينيا في كل ما يفكر به. صفة "رجل دين" لم تكن خياره، بل فرضت عليه وراثيا. وهي صفة يحتاجها المحيط الذي يتحرك فيه.

لقد عبر من خلال تحالفاته السياسية عن روح عملية لا تمت بصلة لسلوك العقائديين. فمَن يقبل بالحزب الشيوعي حليفا لا يمكن أن يكون رجل دين تقليديا.    

لو لم يغالِ الطائفيون في فسادهم لما كان الشيوعيون رقما في المعادلة.

خدم الفاسدون الصدر والشيوعيين معا من حيث لا يقصدون.

في ما مضى كان أولئك الفاسدون يسخرون من الصدر. كونه لا يمثل القوة التي في إمكانها أن تتحكم محليا بالمعادلة الأميركية ــ العراقية. كان الصدر بالنسبة لهم رقما تكميليا.

لكن في ظل اضطراب تلك المعادلة وهو ما لم يتوقعه الفاسدون فإن العراقيين هم من التفت إلى مقتدى الذي كان محكوما عليه بالنبذ ما دام هناك اتفاق أميركي ــ إيراني.

ما يُقال اليوم عن مقتدى (الأميركي) هو انعكاس لعجز مناوئيه عن اللحاق به بسبب إيرانيتهم.

كان مقتدى الصدر محظوظا حين تخلى عن كاظم الحائري باعتباره مرجعا دينيا له ولتياره. فالحائري رجل دين إيراني تقليدي هو جزء من إرث عائلي تخلص منه الصدر ليخلص إلى عراقيته.

الأهم في الامر أن مقتدى لم يكن رجل الصدفة الذي ارتجله الخلاف الأميركي ــ الإيراني. مقتدى هو ابن المشروع العراقي الذي بدأ دينيا في حياة والده والآن يتخذ طابعا مدنيا على يديه.         

لأسباب نفعية ستدعم الولايات المتحدة ومعها دول المنطقة مشروع مقتدى الصدر في خلاص العراق من الهيمنة الإيرانية.

ولكن ذلك الدعم لن يكون ذا معنى من غير التفاف الشعب العراقي حول رمزه في التحرر من القبضة الإيرانية بأذرعها الرثة. التفاف سيكون بمثابة عقبة تحول دون رجوع الصدر إلى عقائديته.

لقد شهدت ثورات أميركا اللاتينية ظهور رجال دين ماركسيين فهل سيكون ذلك ممكنا في العراق في ظل حاجة الشعب العراقي إلى مَن ينقذه من الفساد ويخلصه من هيمنة الدولة الأجنبية التي ترعى وتدعم الفاسدين؟

ليس مطلوبا من مقتدى أن يكون ماركسيا. لكنه فعل ما لم يفعله الماركسيون. لقد حطم صنمية العقائد. 

أعاد الصدر إلى الشعب قدرته على الاختيار الحر حين قال الفقراء كلمتهم من خلال التصويت لتياره في الانتخابات. وهي كلمة جاءت نظيفة من أوساخ الطائفية بعد خمسة عشر عام من الجهد الخبيث الذي بذلته إيران من أجل أن يكون العراق ملعبا لصراعها مع الآخرين.

صعود الصدر هو تجسيد لفشل المشروع الإيراني في العراق.

لذلك فإن الحملة الإيرانية المكثفة التي تُشن من أجل جمع الفاسدين في جبهة نيابية موحدة ومتماسكة لا تهدف إلى احباط النصر الانتخابي الذي حققه ائتلاف "سائرون" حسب، بل وأيضا إلى منع العراقيين من أن يلقوا بأقدامهم خارج دائرة نظام المحاصصة الذي يبقي العراق في مربع الاحتلال الأول.

ولن يكون مستغربا أن نشهد تجييشا طائفيا ضد الصدر باعتباره خائنا للشيعة. في الوقت الذي أثبتت فيه كل المعطيات أن الصدر يسعى إلى انقاذ الشيعة قبل سواهم من العراقيين من خطر التعفن في مستنقع الطائفية. هناك حيث يزدهر الفساد في ظل استسلام كامل للسياسة الإيرانية.