'تختبئ في عينيها الملائكة' مع خطاب اللاوعي المتأزم

رواية عزيز الشعباني ترصد التغيرات الفكرية والسلوكية التي حدثت في المجتمع العراقي وتداعياتها على الفرد بلغة تندرج ضمن اسلوب السهل الممتنع.

نهج الرواية الحداثية على مستوى تعدد الأصوات فكل شخصية تعبر عن قناعتها ورؤيتها الخاصة ووجهات نظرها، وقد برز هذا من خلال المنظورات السردية و الرؤى السردية المختلفة.
قد يكون التورط في فعل الكتابة السردية أمرا مستساغا حين نتغلب على الظواهر النفسية والحياتية، ونفضي بالذات إلى محكيات ذات بعد شخصي؛ يدرج في السيرة أو التخيل أو التمثل أو غيرها.
العنوان وظيفة تأثيرية على المتلقي، الإدهاش والإغراء وطرح السؤال المقلق حين تكون دلالته ظنية، أو تكون عباراته تحمل خرقا دلاليا. ونحن أمام عنوان "تختبئ في عينيها الملائكة" لعزيز الشعباني، يتبين لنا أنه عنوان صعب القبض على دلالته الصريحة دون العودة إليه بعد قراءة النص خاصة أن علاقة العنوان بالنص علاقة تفاعلية وجدلية.
يكشف عنوان الرّواية على جدل البحث عن الذّات، عنوان  يعرّف ذاتا "متشظية"، ويصبح دالا على الذّات ومفسّرا لعدد من جوانبها الغامضة، التشظي في الرّواية ليس علامة ثابتة بقدر ما هو حالة انبثاقية تشمل تفاعل الشّخصية الرّئيسة مع معطيات الحدث المنبثقة أصلا من التحوّل واللاثبات.
"مازن" الشخصية هي من تعبر عن ذاتها وميولاتها وثقافتها، وسلطة الراوي تتراجع أمام تعبير السارد عن ذاته واختياراته. ومن الملاحظ أن هذه الشخصيات منذ البداية تعيش ما يُشبه الفقد (حين رأتني أمها على الباب قالت فوراً وبصوت حنين جداً: صديقتك ماتت. "إذن لم يكن ورمها كرتزون، بل كان كانسر". قلت لنفسي) ص26.
البطل من خلال السرد يكشف عالمه اللاواعي. إنه الفضاء الذي تكمن فيه "ظلال الحقيقة" وتتشكل فيه صوره وآلياته ومساره وعناصره وعلاقة هذه بعضها ببعض، كما الصفات التي تتسم بها وفي طليعتها الخارق والعبث واللامنطق واللامعقول وسيادة الرمز وانكسار الأزمنة والأمكنة أو دمج متناقضاتها بطريقة سريالية عصيّة على العقل الواعي ومرفوضة من أحكام المنطق. كلها معطيات نعثر عليها في المتن الحكائي.
وقد أجاد الشعباني في رسم الشخصيات إما عن طريق الوصف أو الحوار او المناجاة والتأمل او عن طريق مواقفها من احداث الرواية، فتجسدت أمامنا شخصيات حقيقية من لحم ودم.
اقتباس (اسمي مازن أيها القاضي، ولدت في المندى بين كتب أبي وأحجاره الكريمة، وجنيّاته، يمكنني أن أقول لك ولدتُ بالجامع، علماً انني فعلاً كنت كلما تصاعد نبيذ السخط في رأسي أقولها، وهو على العموم يعني الشيء نفسه. لكن لا، لا أيها القاضي، لا يعني الشيء نفسه، لأني منذ أن قلتها لسوسن ارتبك الوضع، لم يربك سوسن فقط، إنما أربك الممثل والشاعر، أربك الأصدقاء، أربك الناس جميعاً) ص7.
تظهر الرواية على أنها ذات طابع مأساوي، لدرجة أنها تبدو سوداوية في بعض فصولها أو تتجه نحو ما يشبه العبثية واللاجدوى، ومن بين القرائن التي تدعم هذا، وجع مدمر لا يؤدي إلا إلى رغبة كاسحة في تدمير الذات، وإتلاف كل معايير الحياة الشخصية وقيمها الخاصة، وجع يجرك إلى عبثية قاتلة وألم عميق.
تتوطد الشّعرية في الرّواية من خلال ما يتلقاه القارئ من إشارات سردية دالة على تحوّلية في مسار الحدث وتطوّره، لحظة القراءة هي لحظة لبروز مستويات النص التركيبية والدّلالية، التي تكشف عن تمازج أحداث سمتها التغيير والتي تهيمن على مفاصل النص بل تندرج ضمن تفجير بؤرة التفاعل بين معطيات الحدث، وبذلك تتأسّس كمحمول جمالي يمنح حركة ما لتيمة النص الإطاري.
أسلوب السرد هو الحكيْ والقصْ البسيط غير المـُتكلّف، فالقارئ يشعر ان الكاتب يحكي له ويقص عليه حكايات ببساطة وعفوية. أما الوصف فيُكثر منه المؤلف سواءً كان وصفاً للشخصيات او الأماكن، الأمر الذي مكنّ الكاتب من رسم أماكن وشخصيات الرواية بكل وضوح، وفي أحيان كثيرة بأدق التفاصيل معتمداً تقنية التصوير السينمائي. أما الحوار فيتم بين شخصيتين  تتقاطع مع مفردات اللهجة العامية، ويهدف الحوار الى مساندة السرد في بناء الرواية ورسم الشخصيات وتوضيح أفكارها و قناعاتها وهمومها وتوتراتها، خاصة عندما تظهر لنا الشخصية وهي تناجي نفسها.
اقتباس (عجزت عن صياغة حكاية متماسكة عما جرى لي أو لسوسن، كل ما أعرفه أنني وضعت السّم في قنينة البيرة، وهي على العموم جرعة قليلة جداً، وضعتها من أجل فرحنا القادم، أنا وسوسن). ص 99.
موضوع الرواية غزيرة بالأحداث ومقتضبة الشرح والتعليق، تقف عند التكثيف والتهكم دون أن يتدخل الكاتب في إعطاء وجهة نظر واضحة، متشعب بين عدة شخصيات فيها يختزله  وقائع وأحداث تعيشها الشخصيات ويسيرها بطل الرواية ذو النفسية الخاصة، الذي يرى بنظرته الثاقبة التي أوصلته إلى  حالة الذهان  مما جعل الكاتب أن يترك نهايتها مفتوحة،
السارد –في أغلب الأحيان- يكتفي بلعب دور الملاحظ بتسجيل ما يقع حتى يُقلق القارئ أو يكاد! وفي إقلاق القارئ، ثمة مساحة لطرح الافتراضات وإنتاج تصورات خاصة قد تصح في النهاية على حسب نباهة القارئ، أو قد تنكسر وتضمحل حين يبلغ القارئ حد اكتمال النص الروائي وتمامه وينتهي بذلك دور السارد كي يبدأ دور القارئ، أي في زمن ما بعد النص الروائي والذي غالبا هو ما يتركه النص في عمق المتلقي من أثر، بمعنى أن الرواية محكومة في شكلها الملفوظ وحجمها الملحوظ بعدد معين من الصفحات لكن لها امتدادات زمنية في نفسية القارئ؛ لما تشكل لديه من رؤية ارتدادية في أعماق الذات لتجسيد انفعالاتها.
توسل الكاتب بتقنية السخرية جاعلا منها أداة حاضرة ملازمة لأغلب المقاطع السردية، لأن الكتابة مساحة يؤسس عليها الكاتب نقده الاجتماعي والأخلاقي. فهي نوع من التأليف الأدبي لواقع يقوم على متناقضات ومفارقات وتضادات.. كما أنها خطاب ثقافي يقوم على أساس انتقاد الرذائل والحماقات والنقائض الإنسانية.
اقتباس (أي تآمر هذا؟ بكت الشاعرة. ماذا عن قطرتي السّم. قلت: أي سم؟ أي عذاب هذا، سوسن لم تمت يا مازن، سوسن بتونس مع طفلها، ألا تراه يسافر ويعود منذ التغيير لغاية الآن؟). ص 112.
يعتمد المؤلف على النهاية المفتوحة في نهاية الرواية لمعظم الشخصيات، فلا يخبرنا عن مصائرها بل يُبقيها لحدس القارئ وتوقعاته بل ورغباته، ربما ليفسح له مجالاً للمشاركة في التأليف. ربما أراد من ذلك ابراز قوة الحدث وما يتركه من أثر في وجدان القارئ، وكذلك لتوظيف الإيحاء من خلال الحدث ورمزيته التي تقود القارئ الى ما وراء الحدث نفسه وما يحمله من معنى واستنتاج.
الكاتب/مازن ضاق بعالم الواقع فأطلق العنان لجياد أحلامه تسرح في اللاوعي وجحيم  يتوغل في العالم الخارق الأخرق الذي لا مثيل لصدقه وأمانته وقدرته على الاصطدام بالواقع واستشفاف المستقبل.
الحكايات المؤلمة نكتبها رغم المها لكن لا نأمل بعودتها. أوَليس الحكاية "الرواية" علماً واستشراف رؤية تنتظر كاتبا مثقفا يحولها إلى مشاهد يصعب عليك إن قرأتها نسيانها؟
وختاما، اقول انها رواية تستحق القراءة بجدارة جريئة مفعمة بالمواقف والعواطف الإنسانية النبيلة منها والمتوحشة حول معاناة المرأة  في المجتمع الذكوري خاصة بعد استفحال التطرف الديني في السنوات الأخيرة  ما بعد 2003 والذي سلبها ما تبقى لها من بعض الحرية وقد رمز لها الكاتب بـ"العوق".
 الرواية ترصد التغيرات الفكرية والسلوكية التي حدثت في المجتمع العراقي وتداعيات ذلك على الفرد. لغة الرواية وأسلوبها من السهل الممتنع، وهذا ما ييسّر نقل الرسالة التي تحملها للقارئ المتلقّي. إضافة إلى التلقائية والعفوية في السرد والحوار. ولا يجيد ذلك إلا من عايش الحدث. وحتّى ليس كلّ من عايشه قادراً على أن يحكيه.
 والظاهر أن الكاتب يولي عناية كافية للغته الباذخة والرشيقة التي ترتقي بنفسها لتواكب الحداثة وبهذا فالكاتب يبتكر أسلوبا لغويا وسطا يخدم لعبة الكتابة وينشر البهاء ويحفر في الدلالات ويخلق متعة الإبهار والإمتاع والتشويق في نفس القارئ الذي بدوره يبحث عن هذه العناصر بين ثنايا اللغة كما يبحث عن فكرة جديدة وعميقة بين ثنايا الحكي والسرد.