تركيا أعطت الضوء الأخضر لتصفية الفصائل

اعتبرت "هيئة تحرير الشام" استغناء تركيا عن خدمات الفصائل التابعة لها في إدلب بمثابة ضوء أخضر لتصفيتها والاستفراد بالعلاقة مع تركيا والسيطرة على المنطقة.

في خطوة منتظرة أقدمت "هيئة تحرير الشام" على تصفية أكبر منافسيها في شمال سوريا عبر شن حملة عسكرية سريعة على فصائل "الجبهة الوطنية للتحرير" الممولة والمدعومة بشكل مباشر من الحكومة التركية.

الحملة التي بدأت في ريف حلب الغربي وانتقلت بعدها باتجاه ريفي إدلب الجنوبي وحماة الشمالي حُسمت بإعلان سيطرة "الهيئة" عسكريا وأمنيا على كامل المنطقة، وإتباعها إداريا لما يسمى "حكومة الإنقاذ" التي تشكل غطاء مدنيا لهيمنة "الهيئة" على الجوانب الخدمية والإغاثية والاقتصادية في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، الأمر الذي يتضمن إنهاء الوجود الشكلي لما يسمى "الحكومة المؤقتة" التي شكلتها أحزاب وتجمعات "الائتلاف الوطني" منذ سنوات.

الرد التركي على هذه التغيرات الكبيرة كان باردا للغاية، ومخيبا لآمال الفصائل التابعة لتركيا والتي كانت تتوقع أن تكون تبعيتها لها مانعا من إقدام "الهيئة" على تصفية وجودهم لاعتقادهم بأهميتهم لتحقيق المصالح التركية في المنطقة والتي قد تتأثر بغيابهم عن الساحة.

ولكن ما فات هذه الفصائل والمتابعين لشأن الصراع بين المسلحين في إدلب أن الحكومة التركية قد نسجت علاقات قوية مع "هيئة تحرير الشام" تحقق أهدافها ومصالحها بما يغنيها عن التعلق بوجود أية فصائل أخرى، الأمر الذي يرجح وجهة النظر أن تقوية تركيا لعلاقاتها مع التنظيم الذي تصنفه على قوائم الإرهاب لديها خاصة بعد معاركه السابقة مع فصائل "الجبهة الوطنية للتحرير" كان بمثابة ضوء أخضر لهذا التنظيم للقضاء على منافسيه دون أن يتوقع ردّة فعل قوية تجاه هذا الأمر.

فبعد سيطرة "الهيئة" على معبر باب الهوى (شمال إدلب) بطردها مقاتلي "حركة أحرار الشام" منه (في يوليو 2017) أعلنت الحكومة التركية أنها ستغلق المعبر من جهتها لغير الغايات الإنسانية، وكان الفصائل تأمل أن استخدام هذا الإغلاق كورقة ضغط تدفع عدوها لإعادة المعبر إليها لضمان استمرار تدفق السلع والمواد الإغاثية إلى إدلب، ولكن سرعان ما أعادت تركيا فتحه أمام الحركة التجارية بعد أيام قليلة مع إعلان "هيئة تحرير الشام" تسليمها المعبر لإدارة مدنية مستقلة لم تكن في الحقيقية سوى مجموعة موظفين يعملون لحسابها ويجبون الرسوم والأتاوات لمصلحتها.

هذا الانفتاح التركي فهمته "الهيئة" على أنه قبول لربط علاقات معها من بوابة التجارة والعمل الإغاثي بشرط أن تكون تحت غطاء علاقة مع إدارة مدنية ترفع عن الحكومة التركية بعضا من الحرج الداخلي والخارجي وسط اتهامات متعاظمة لها بتقديم الدعم لمجموعات مصنفة على قوائم الإرهاب التركية والدولية، كما فهمت منه أيضا أن هذه العلاقة لن تتأثر مطلقا بعلاقتها السيئة مع الفصائل التابعة لتركيا في شمال سوريا.

الأمر الأول ربما يكون أوحى لقادة "هيئة تحرير الشام" بالتوسع في استخدام قناع الإدارة المدنية لإخفاء وجودها في المناطق التي تسيطر عليها، عن طريق تشكيل ما أسمته "حكومة الإنقاذ" (في نوفمبر 2017)، لتحاول من خلالها فرض هيمنتها على عمل المؤسسات الخدمية والإغاثية والنشاطات الاقتصادية في إدلب، والسعي للاستفادة منها في تقوية الروابط والعلاقات مع الجهات والدول الداعمة لها ولا سيما في قطر وتركيا، واستخدامها كذلك وسيلة لاحتواء الفصائل المنافسة لها.

والأمر الثاني شجعهم على شن حملة لاستكمال عملية السيطرة على إدلب والمناطق المحيطة بها (في فبراير 2018) دون حساب لمخاوف من تأثر مصالحها الاقتصادية أو اللوجستية المرتبطة بتركيا بسبب هجومها على الفصائل التي تعوّل عليها تركيا لتنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرمته مع روسيا والذي استثنيت "الهيئة" من حساباته بناء على معارضتها الظاهرية له والتي تكشفت لاحقا عن معارضة لتجاهل موافقتها عليه لا معارضة للالتزام ببنوده والمساعدة على تنفيذه.

هذه الحملة لم تحقق منها "الهيئة" شيئا على الصعيد الداخلي نظرا لقدرة الفصائل آنذاك على صد هجومها ولكونها كانت خارجة للتو من معارك شرق السكة التي خسرت فيها قسما كبيرا من جنودها بين قتيل وجريح، ولكنها استفادت منها خارجيا بتعزيز علاقاتها مع تركيا عن طريق إدخالها في ترتيبات تنفيذ اتفاق سوتشي، ورعايتها لتحركات القطع العسكرية التركية بين المعابر الحدودية ومناطق انتشارها في محيط المنطقة العازلة، وتقديمها التسهيلات المطلوبة لنصب القواعد العسكرية في النقاط المتفق عليها مع الروس، وتشكيل قوات لحماية الوجود العسكري التركي ومنع الجهات الرافضة لاتفاق سوتشي من تعكير أجواء وقف إطلاق النار بما يتعدى الرد أحيانا على تعديّات جيش النظام على المناطق الواقعة تحت الحماية التركية.

هذا التعزيز للعلاقة انعكس ولا شك على حالة الهدوء الطويل التي سادت مناطق سيطرتها، والتي امتنعت فيها فصائل "الجبهة الوطنية للتحرير" عن شن أي هجوم على مناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام"، ربما استجابة لمطالب تركية، الأمر الذي استفادت منه في حشد إمكاناتها وإعادة ترتيب صفوفها ورفدها بمئات العناصر الجدد، في الوقت الذي كان خصومها يزدادون ضعفا بسبب انقطاع مصادر تمويلهم الأساسية المتمثلة بواردات المعبر وما يتعلق به من حصص كبيرة في موارد المنظمات الإغاثية وإمكاناتها اللوجستية.

وفي هذه الأثناء سكتت تركيا عن العرض الأخير المقدم لخصوم "الهيئة" بأن يرفعوا أيديهم عن المناطق التي يسيطرون عليها لقاء إشراكهم في ما يسمى "حكومة الإنقاذ"، أو اتهامهم بالإصرار على تمزيق الساحة وإضعافها وتسهيل سيطرة جيش النظام عليها واستخدام هذا الاتهام كمبرر لاستئصالهم بدعوى العمل على إنهاء حالة الانقسام في إدلب والمناطق المحيطة بها.

ويضاف إلى هذا كله نقل تركيا للآلاف من مقاتلي الفصائل التابعة لها من إدلب وريفي حلب الشمال والغربي باتجاه الحدود الفاصلة مع مناطق سيطرة "وحدات حماية الشعب" تمهيدا للحملة التي تطالب بشنها للسيطرة على تلك المناطق بدعوى القضاء على المنظمات الإرهابية، الأمر الذي حرم خصوم "الهيئة" من قسم كبير من مقاتليهم ومن الدعم العسكري الذي كان سيقدم لهم من الفصائل الحليفة لهم في عفرين، والتي حاول بعضها القيام بمناوشات على أطراف منطقة الاشتباكات بإمكانات قليلة وفي ظل منع قيادتهم التركية من القيام بأي تحرك مساند للفصائل التي كانت تتعرض للاستئصال، وفق بعض التصريحات التي أصدرها قادة كتائب في عفرين.

فإذا رتبنا معادلة الصراع بمراعاة ما سبق نصل إلى نتيجة مؤداها أن تصفية الفصائل التي صنّفها البعض في قائمة الاعتدال كان سيكون أكثر صعوبة وتكلفة لولا اللامبالاة التركية بمصيرها بعد انتفاء الحاجة إليها في إدلب بوجود حليف جديد داخل الساحة السورية لا يقلل من فائدته كونه مصنفا على قوائم الإرهاب.

واليوم تنقل تلك الفصائل التي تعرضت للتصفية كامل قواتها إلى عفرين وأطراف منبج لتتفرغ للعمل في إطار المشاريع التركية لمناطق شرق وغرب الفرات، وتترك قضية تنفيذ المشروع التركي في إدلب إلى "هيئة تحرير الشام".