روسيا قصفت مصداقية تركيا في إدلب

أهل إدلب واللاجئون فيها يعرفون الآن أنهم لا يستطيعون الاعتماد على أية وعود تركية بالحماية.

سعت الفصائل المسلحة المؤيدة لتركيا إلى إضفاء مظهر احتفالي على تحرك الأرتال التركية في ريف إدلب الجنوبي، وأن تظهر الأمر للسكان على أنه إيذان بتوقف القصف على المناطق التي ستتحرك فيها الدوريات التركية، ولكن هذه الاحتفالات لم تدم طويلا، مع إعلان جيش النظام عمليته الأخيرة التي استبقها بحملة قصف جوي شديد شارك فيه سلاح الجو الروسي.

التسويق للتواجد العسكري التركي في إدلب المتمثل باثنتي عشرة قاعدة عسكرية وأرتال تتحرك في المنطقة "المنزوعة السلاح" اعتمد في الأساس على فكرة "الضامن" الذي سيمنع بالاتفاق مع روسيا أي تحركات عسكرية لجيش النظام تجاه المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، بل وترويج إشاعات تتعلق باستعدادات تركية للرد على عمليات القصف التي قد تتعرض لها هذه المناطق، وهذه الأوهام كلها نسفتها قنابل بشار الأسد وحليفه بوتين، والتي أصاب قسم منها قواعد تركيا وأرتالها العسكرية مثلما أصابت المناطق المحيطة بها وعجزت عن تقديم أي شكل من الحماية لها.

وعندما بدأت حملة القصف المدفعي والجوي على المنطقة "منزوعة السلاح" وجدنا السكان ومسلحي المعارضة على حد سواء جامدين في أماكنهم بانتظار ردة الفعل التركية، وهم يحلمون بأن تفتح المدافع نيرانها على مواقع قوات النظام لتردعها عن قصف القرى والبلدات في شمال حماة وجنوب إدلب، حتى أيقظهم من تلك الأحلام قصف جيش النظام للقاعدة العسكرية التركية في جنوب إدلب، وإصابة عدد من الجنود، أخلاهم الجيش التركي بالطائرات دون أن يرد على مصادر النيران التي استهدفتهم، ما كان إشعارا للناس بأن هذه القواعد غير القادرة على حماية نفسها والرد على من يستهدفها هي من باب أولى عاجزة عن تأمين المناطق الواسعة المستهدفة بالقصف صباح مساء.

هذه الأحداث دفعت إلى التشكيك في جدوى اتفاق سوتشي بين تركيا وروسيا بخصوص إدلب، وعن الفائدة التي حققها للمعارضة التي سلمت أمرها كليا للحكومة التركية لتتولى التفاوض بالنيابة عنها، في ظل ما يُرى من فائدة كبيرة تحققت للنظام الذي في تثبيت الأمن في مناطق المصالحات في حمص وريف دمشق ودرعا، وضم الآلاف من أبنائها إلى جيشه وزجهم في جبهات القتال الجديدة في إدلب وشمال حماة وما تبقى من جبال الساحل بيد مسلحي المعارضة.

كما تسببت في حالة من التشكيك تظهر للمرة الأولى بهذا الحجم في موثوقية تركيا كجهة داعمة لفصائل المعارضة بمختلف أطيافها، في ظل اتهامات لها بتوظيف الملف السوري ككل في خدمة علاقاتها الدولية مع روسيا وإيران وأوربا والولايات المتحدة الأميركية.

ومما زاد من حالة الشك هذه ما سربته بعض وسائل الإعلام الأوروبية من أنباء عن اتفاق روسي تركي لتبادل المناطق، تسكت بمقتضاه تركيا عن تقدم جيش النظام في سهل الغاب وجواره مقابل سكوت روسي عن تقدم تركي باتجاه منطقة تل رفعت شمال حلب والتي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب، رغم فشل الجيش التركي والفصائل التابعة له في تحقيق أي تقدم في تلك الجبهة، حيث انسحب الجنود الأتراك ومقاتلو الجيش الحر من قرى مرعناز والمالكية وشوارغة جنوب اعزاز بعد ساعات من سيطرتهم عليها وخسارتهم لعدد من القتلى والجرحى.

وأعلنت "قوات تحرير عفرين" التابعة لوحدات حماية الشعب الكردية في بيان لها، بأن مقاتليها أفشلوا عدة محاولات للتقدم باتجاه القرى المذكورة، وأن القوات المتقدمة تكبدت الكثير من القتلى والجرحى في صفوفها قبل اضطرارها إلى إيقاف الهجوم.

واقتصرت ردود أفعال المسؤولين الأتراك تجاه العملية العسكري الأخيرة للنظام جنوب إدلب على تصريحات باردة تطالب روسيا بوقفها، وشكاوى من تطور العملية من مجرد قصف جوي ومدفعي لمواقع المسلحين -بحسب المزاعم الروسية- إلى تقدم بري التهم أجزاء واسعة من الأرض التي يفترض أن تؤمن لها تركيا الحماية بموجب اتفاقياتها، ولم يزد التنديد التركي عن مخاوف على مستقبل مؤتمر أستانة للسلام الذي ترعاه برفقة روسيا وإيران.

المدافعون عن تركيا وموقفها من الأحداث الأخيرة تبنوا وجهة نظر مخالفة، مفادها أن العملية العسكرية التي قادتها روسيا مؤخرا في جنوب إدلب إنما هي انتقام من التشدد التركي في جلسات مؤتمر أستانة التي عقدت قبل الهجوم بأيام، ويزعمون أن الأمور فيها لم تسر كما تريد روسيا وخاصة في ملف لجنة صياغة الدستور، وبذلك لا يبقى -بحسب رأيهم- مجال للتحدث عن مؤامرة روسية تركية على إدلب، معللين محاولة التقدم الفاشلة في تل رفعت بكونها مسعى للضغط على روسيا لإيقاف هجومها على سهل الغاب لم يكتب له النجاح.

وتيرة العمليات العسكرية تراجعت بعد سيطرة جيش النظام على كفرنبودة وقلعة المضيق وفشل الفصائل في استعادة أي منطقة خسرتها خلال الأسبوع المنصرم من المعارك، ويكاد الوضع العسكري أن يعود لما كان عليه قبل أسبوعين، ولكن ما لن يعود لوضعه السابق هو ثقة الناس في إدلب بالجيش التركي ونقاط مراقبته التي تطوق المحافظة.

والظاهر أن خيبة الأمل هذه أساسها سوء الفهم للمهمة التركية في إدلب، فهي محصورة بمراقبة خروقات "وقف إطلاق النار" من قبل جيش النظام وحلفائه، في حين تراقب النقاط الروسية المقابلة خروقات فصائل المعارضة من جهتها، وليس وجود النقاط التركية بمانع للعمليات العسكرية على إدلب كما صوره البعض، إنما المانع المفترض هو التوافق التركي الروسي على ذلك، وبمجرد اختلال هذا التوافق لا تبقى ضمانة لمنع استئناف تلك العمليات، ويبدو أن المسؤولين الأتراك قد اعجبهم لبعض الوقت أن يمثل جيشهم دور الحارس الأمين دون أن يحسبوا حسابا لخيبة أمل السكان في إدلب عندما يكتشفون حقيقة التمثيلية.

والمؤكد اليوم أن القصف في جنوب إدلب لم يطل فقط القواعد العسكرية التركية، وإنما طال أيضا مصداقية تركيا في الداخل السوري، وأحدث صدوعا كبيرة في جسر الثقة التي حرصت تركيا على بناءه منذ سنين، الأمر الذي قد يضر مستقبلا باستخدام تركيا للورقة السورية في مفاوضاتها مع الأطراف المختلفة.