روسيا تقلب سحر أوروبا عليها

يريد الغرب حكومات ديمقراطية؟ ها هي روسيا تدفع له بحكام منتخبين ديمقراطيا ولكنهم صورة عن يمينيتها المتصاعدة.

لا تقتصر المخاوف الأوروبية من القوة الخشنة لبوتين، والتي استعملها في سوريا وجورجيا وشرق أوكرانيا، واتهم باستعمالها داخل بعض الدول الأوروبية لاغتيال المعارضين له، ويهدد دوما باستعمالها في أي موقف يحاول خصومه الغربيون حشره في زاوية ما، إذ لدى بوتين من وسائل القوة الناعمة الكثير ليحقق من خلالها أهدافه داخل القارة الأوروبية.

ومن أبرز وسائله في الضغط على دول الناتو، استخدامه لذات الأسلحة التي طالما استعملتها، ولا زالت تستعملها للضغط على بوتين وتوهين سطوته المفرطة داخل روسيا ولجم طموحاته خارجها، ألا وهي الديموقراطية في داخل تلك البلدان، والقرار الأوروبي المشترك الذي تقرره الدول الداخلة في إطار الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

فعن طريق العملية الديموقراطية تعمل روسيا بأدواتها المختلفة لإيصال الموالين لها أو الذين تتوافق توجهاتهم معها إلى الحكم، وبوصولهم إليه يمكنهم حرف اتجاه بلدانهم إلى روسيا من جهة، والتأثير في القرار الأوروبي المشترك من جهة أخرى.

ولذلك نجد الشكاوى الكثيرة في الدول الغربية اليوم من التدخلات الروسية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، كما نجد التململ داخل الصف الأوروبي من الاتجاهات الموالية لروسيا التي تعلن عنها بعض الحكومات الجديدة في شرق أوروبا وجنوبها تجاه القرارات الأوروبية التي ترفضها القيادة الروسية وعلى رأسها قضايا استمرار العقوبات الاقتصادية، وتمدد الناتو شرقا، والمساعدات المقدمة للدول المعادية لروسيا كأوكرانيا وجورجيا، والتدخل في ملفات دولية بشكل يهدد أو يناقض الخطط الروسية فيها، كما هو الحال في سوريا وليبيا.

وتقوم الاستراتيجية الروسية لإيصال الأفراد والأحزاب ذوي التوجهات المناسبة للسياسة الروسية إلى الحكم على عدة تكتيكات، منها تقوية هذه الأحزاب والشخصيات بشكل مباشر ماليا وإعلاميا لمساعدتها على التقدم في الانتخابات وتحصيل أصوات كافية، مثلما فعلت مع حزب الحركة الوطنية الفرنسي، والتأثير على قرارات الناخبين وتوجيهها لدعمهم، عن طريق الترويج لأطروحاتهم وتشويه خصومهم، باستخدام وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعية التي يتم غزوها بعدد كبير من المعرفات التي تديرها وحدات خاصة من المخابرات الروسية، بشكل مشابه لما حدث في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وكذلك العمل على إضعاف خصومهم وإدخالهم في دوامة مستمرة من المشكلات، مثلما يحدث اليوم في فرنسا على أيدي الستر الصفراء.

أما الاتجاهات الأكثر تلقيا للدعم من قبل روسيا حاليا، فهي –وبدون خفاء- الاتجاهات القومية والعنصرية، التي تناسب السياسة الروسية في أوروبا، من خلال تركيزها على التخويف من العرب أو المسلمين كضد لسياسة التخويف من روسيا التي تتبناها بعض الأطراف في أوروبا، بل ومعاداة هذه السياسة باعتبارهم الروس أشقاء لهم في القومية أو العرق أو الوطن الأوروبي الكبير، وكذلك معاداتها لأميركا باعتبارها تفرض إرادتها على الدول الأوروبية وتتصرف معها كقوة احتلال أو انتداب منذ الحرب العالمية الثانية، وكذلك الرفض للاتحاد الأوروبي وسياساته الإقليمية، والتذمر المستمر من المشاركة في مشاريع أوروبية مشتركة، يجدها القوميون في كل بلد غير ذات أهمية بالنسبة إليهم، ومستنزفة لموارد يرون أن توظيفها في مشاريع داخلية سيعود بالنفع أكثر على مواطنيهم.

هذا –بالطبع- عدا عن الدعم اللامحدود للأحزاب القومية الروسية في بلدان أوروبا الشرقية، التي لا تخفي ولاءها للوطن الأم ودعمها له داخل البلدان التي تقطنها، من خلال الضغط على الحكومات عموما لاتخاذ سياسات غير معادية لروسيا، أو الوقوف وراء المرشحين المدفوعين من قبل الكرملين لتسلم المناصب العليا في تلك البلدان.

وهكذا تتحالف الأحزاب القومية الأوروبية مع القوميين الروسي، مجاملة للداعم الروسي من جهة ونظرا لتلاقي المصالح فيما بينها من جهة أخرى، وهو ما يظهر واضحا جليا في حالة المجر (هنغاريا)، والتي تشتكي الدول الأوروبية من المواقف الموالية لروسيا التي يتبناها رئيس الوزراء فيكتور أوربان ذو التوجهات القومية، والتي يرى محللون أنها مدفوعة الثمن بسبب الدعم الروسي الكبير المالي والإعلامي لأوربان وحزبه، كما أنها نابعة من رغبة القوميين المجر الاستفادة من العلاقة مع روسيا في تحقيق مصالح للقومية المجرية التي ينتشر المنتمون إليها في عدة دول في شرق ووسط أوروبا، وخاصة في أوكرانيا التي يتشارك القوميون من الأقليتين الروسية والمجرية فيها ببعض المطالب.

ويكفي أن نعرف خطر الوفاق بين أوربان وبوتين إذا أدركنا أن المجر كعضو في حلف الأطلسي بإمكانها منع دخول أي عضو جديد إليه بممارسة حق النقض (الفيتو)، مما سيعرقل بشدة طموحات الدول الغربية بمد قبضة الناتو إلى جنوب روسيا اللصيق، عن طريق ضم بعض الدول العازلة كأوكرانيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان، وهذا ما دفع الولايات المتحدة الأميركية مؤخرا إلى تعزيز الاهتمام بهذا البلد منعا من انزلاقه أكثر في العلاقة مع روسيا بما يهدد بقاءه داخل المنظومة الأوروبية، وقال مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي خلال زيارته الأخيرة إلى بودابست في فبراير الماضي أن اعتماد المجر على الغاز الروسي وصداقتها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمكن اعتبارهما خطراً على الأمن القومي، وتابع "يجب أن لا نسمح لبوتين بدق إسفين بين الأصدقاء في حلف شمال الأطلسي".

وبالإضافة إلى ذلك فإن الإرث السوفيتي القديم في أوروبا لم ينمح بعد، ولا زال الشيوعيون السابقون ومن تأثر بهم من اليساريين الحاليين ينظرون إلى موسكو نظرة إجلال، وهم لا يقلّون عداء لأميركا والسياسيات الليبرالية عن خصومهم من القوميين اليمينيين، ولذلك فإن الأحزاب اليسارية في البرلمانات الوطنية وفي البرلمان الأوروبي تقف مع قرارات من شأنها تخفيف الضغط عن روسيا وتحسين العلاقة معها.

وبالتالي فإن السياسات الأوروبية الداخلية والإقليمية التي كان يمكن أن تكون تهديدا لروسيا، بات من الممكن أن تشكل وبالا عليها.

فالديموقراطية التي كانت أوروبا تطمح أن تشكل حلما للروس يدفعهم للضغط على حكومة بلاهم لاتخاذ سياسات أقل عنفا وأكثر تركيزا على المصالح المشتركة، اخترقتها المخابرات الروسية لتدعم من خلالها أصدقاء لروسيا، موصوفين بالتعصب القومي، ومعاداة الأفكار الليبرالية، ومعادين للاتحاد الأوروبي والسياسات الأميركية، ليصبح لهم من القوة والتأثير ما يمكنهم من توجيه الحكم في بلدانهم بغير ما تهوى الدول المركزية في أوروبا، وخاصة فرنسا وألمانيا، واللتان تبدوان غير بعيدتين أيضا عن متناول أصدقاء روسيا، وعلى رأسهم حزبا الحركة الوطنية الفرنسي وبيلد الألماني.

والمنظومة الأوروبية التي أريد تطويق روسيا من خلالها عبر سحب المزيد من الدول بعيدا عن نطاق النفوذ الروسي، بالاعتماد على جاذبية الناتو العسكرية وجاذبية الاتحاد الأوروبي الاقتصادية، جرى اختراقها أيضا من خلال الحكومات القريبة من الكرملين، لتدخل وجهات النظر الروسية إلى قاعات اجتماعات الناتو والاتحاد الأوروبي.

وهذه الأدوات لا يمكن لأوروبا استخدامها ضد بوتين، فديموقراطية بوتين لا تحتمل معارضة مؤثرة يمكنها حقا عرقلة طموحاتها ومشاريعه، وكذلك فإن تهديد بوتين في دول الفلك الروسي قد يدفعه إلى الإطاحة بالحكومات المعادية له فيها، أو حتى استخدام الخيار العسكري ضدها، كما فعل في أوكرانيا وجورجيا.

وهذه الأمور يدركها الرئيس الأميركي ترامب جيدا، ويرى فيها فائدة للضغط على أوروبا ومنظوماتها المشتركة، لدفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ سياسة اقتصادية أكثر فائدة للاقتصاد الأميركي، من خلال تعديل الميزان التجاري ولجم التغول الصيني داخل القارة، وإجبار دول الناتو على زيادة مشاركتها المالية في ميزانية الحلف، وتعزيز مشترياتها من السلاح الأميركي، وإن كان ترامب وأنصاره غير مبرئين من اتخاذ مواقف شبيهة بالتي يتبناها المقربون من روسيا داخل دول الناتو والاتحاد الأوروبي.