عن الفرق بين الثورات في سوريا والجزائر والسودان

لا يمكن الاستهانة بدور العصبية القبلية في انقاذ نظام بشار الأسد.

بعد ما حصل في كل من الجزائر والسودان من عزل للرؤساء، وإحالتهم إلى التقاعد الإجباري، وقريب منه ما حصل سابقا في تونس ومصر من قبل، نسمع كثيرا من الناس يلومون السوريين على تحوّل ثورتهم باتجاه العنف المدمّر، الذي أحرق البلاد وقتل سكانها، وشردهم من ديارهم.

ومن ينظر إلى أحوال كل من هذه الدول وأنظمتها السياسية وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية بعين المقارنة يدرك أن تبسيط المسائل على طريقة هؤلاء اللائمين هو ما أوقعهم في خطأ توقع النتائج نفسها للأحداث نفسها إن وقعت في أماكن متعددة لكل منها أحوالها المختلفة، وهو أشبه بمن يتعجب من اختلاف نتائج تجربة كيميائية معينة بتغير ظروف البيئة التي تجري فيها من ضغط جوي وحرارة ورطوبة وغيرها.

فإن تشابهت هذه الدول من ناحية شكل النظم السياسية القائمة فيها، لكونها من ناحية المظهر جمهوريات يحكمها العسكر، فإن بنية هذه الأنظمة تختلف بشدة، كما أن تركيبة السكان الذين تحكمهم هذه الأنظمة من موالين ومعارضين تختلف أيضا، وهذه الاختلافات نتج عنها اختلاف في نتائج معارضة النظام الحاكم في سوريا عن نتائج المعارضات الأخرى في البلدان العربية.

فنظام الحكم في سوريا قائم بشكل أساسي على العصبية، وهو أشبه بالإمارات القبلية التي كانت سائدة في أيام ضعف الدول الكبرى في المنطقة، حيث يعتمد الحاكم على ولاء القبيلة التي ينتمي إليها، مع القبائل المتحالفة معها في الوصول إلى الحكم وتثبيت حكمه، وذلك بالإضافة إلى قسم من السكان الآخرين الذين يضمن ولاءهم من خلال انتفاعهم بحكمه، وإن كانوا من غير مضموني الولاء عادة لكونهم قادرين على نقله بسرعة باتجاه من يحقق لهم النفع بشكل مساو أو أفضل.

وهكذا فإن قوة النظام تعتمد أولا على قوة العصبية، من حيث كثرة المتعصبين للحاكم من أفراد القبيلة أو الطائفة التي ينتمي إليها، أو المرتبطين بهم بأحلاف أو منافع مشتركة، إلى درجة أن لا يمكن إسقاط هذه الأنظمة إلا بعصبية أخرى أقوى منها، ذات طبيعة مشابهة أو مخالفة.

ولذلك فإن أي معارضة للحاكم لابد أن تؤدي إلى انقسام مجتمعي حاد يتجلى فيه بشكل فاقع الطابع القبلي أو الطائفي، وبمقدار توازن القوى بين العصبية الموالية للحاكم والعصبيات المعارضة له تكون حدّة الانقسام وضراوة الصدام.

وهذه القضية هي جوهر نظرية العصبية الخلدونية في تحليل أنظمة الحكم البدائية، التي أحسن كثير من الباحثين في تطبيقها على النظام الحاكم في سوريا، وإن كان بعضهم أخطأ في تفسير عصبية الطائفة للنظام الذي ينتمي رأسه وأهم أركانه إليها بالجانب الديني فقط.

وفي حين أن بنية الأنظمة السياسية في كل من تونس ومصر والجزائر والسودان، تعتمد بشكل أساسي على الولاءات النفعية، ولذلك لم يكن صعبا على أركان هذه الأنظمة التخلي عن رؤوسها، ما دامت منافعهم مستمرة مضمونة بوجودهم أو بغيره، خاصة مع تنصيب أنفسهم حماة للدولة، واعتبارهم أي تهديد لهم ولمصالحهم تهديدا للدولة سيدفعهم إلى إزالته حفاظا عليها.

أما في سوريا فمنذ بداية الاحتجاجات أظهرت غالبية المتعصبين للنظام أن في تهديد رأسه بالتغيير تهديدا لكل منهم بالخضوع لعصبية أخرى، واعتقادا بأن الانتقام منه وممن ارتكب الجرائم دفاعا عنه سيطالهم جميعا بلا استثناء، وبأن كل المنافع التي أمّنها وجود النظام واستمراره ستزول بتغييره، وتنتقل إلى طرف أعدائه والمعارضين له، وأن أفراد هذه العصبية سيتحولون من نخبة حاكمة إلى جزء من عامة سكان البلاد في أحسن الأحوال بالنسبة إليهم، وأن كفة معارضي النظام الحالي سترجح مستقبلا في أي صراع يمكن لثقل السكان أن يحسمه، سواء كان مبنيا على المحاصصة أو التمثيل القائم على الانتخاب، خاصة وأن التركيب السكاني في البلاد هو في غير صالحهم.

ولذلك فقد وجد رأس النظام حوله عددا كبيرا من المدافعين داخليا الذين مكّنوه من تجاوز مرحلة المظاهرات والاحتجاجات السلمية، وبدونهم كان يمكن لأركان النظام أن تزيح الرأس بهدوء، وتبني نظاما جديدا يضمن تحقيق مصالحها مع قدر مقبول من المعارضة الداخلية التي يمكن التعامل معها بالترغيب والترهيب والمماطلة والتسويف.

بل يمكننا القول إن عصبية النظام كانت من أهم الأسباب التي منعته من تحقيق أبسط مطالب المحتجين والتي كان يمكن أن تخفض بشدة من حدة الثورة عليه، حيث امتنع عن ذلك كله مخافة أن تنفض العصبية المتشددة من حوله، ويجد نفسه وحيدا في مواجهة المعارضين، وبلغ ذلك درجة أن يرفض معاقبة ضابط لديه أشعلت ممارساته نار الاحتجاجات في درعا، وقد اعترف بشار الأسد لبعض الوجهاء الذين قابلهم لاحتواء الموقف أن مجرّد نقله من موقعه تسبب بحالة غضب وسط عائلته والمقربين منه من أفراد العصبية التي ينتمي إليها كل من الضابط ورأس النظام على حد سواء.

وإن كان النظام وأفراد عصبيته مدركين لعدم التوازن بين حجمهم وحجم المنازعين لهم على الملك، فإنهم كانوا يعوّلون على امتلاكهم لوسائل القوة المدمّرة المتمثلة في الجيش والأجهزة الأمنية التي ترجح كفة القوة لصالحهم، كما أن استعانتهم بالحلفاء والأصدقاء يمكن أن تضيف إليهم فارق قوة كبير عن خصومهم، وهو الأمر الذي كان حاسما ولا شك في إطالة مدة الحرب، وفي وصولها إلى لحظة ما بعد التوازن التي نشهدها اليوم.

وفي حالة النظام الليبي السابق ما يؤيد كل ما ذكرناه سابقا، فالعصبية الموجودة حول نظام القذافي أدت الدور نفسه الذي لعبته عصبية نظام بشار الأسد ومن قبله أبيه في توجيه الصراع السياسي وجهة عسكرية مدمرة، وإن كانت بشكل أضعف، والفارق في الحالين أن القذافي عجز عن تقوية ضعف عصبيته أمام خصومه بحلفاء من الخارج، هدد بجلبهم في خطابه الشهير، عندما دعا الثوريّين والعصابات التي يدعمها في آسيا وإفريقية وأميركا اللاتينية إلى مساندته، وكذلك فإن دخول حلف الناتو ضده لعب دورا مغايرا لدخول كل من روسيا وإيران والحكومة العراقية إلى جانب نظام بشار الأسد، ما أدى إلى سقوط النظام في ليبيا، في حين بقي النظام في سوريا إلى حين.

وإذا ما أمعنا في تفسير مجريات الصراع في سوريا من خلال النظرية الخلدونية، فإن معارضي النظام لم يتمكنوا إلى الآن من بناء عصبية مضادة لعصبيته، إذ أنهم تفرقوا بناء على عصبيات دينية وعشائرية ومناطقية وفصائلية، بل لم يكن ممكنا بناء هذه العصبية الجامعة، إذ أن الهدف المشترك لهم جميعا وهو إسقاط النظام ينظر إليه كل منهم وإلى وسائل تحقيقه بصورة مختلفة، وهذا الاختلاف في التصوّرات أدى تضاد في المنافع والتوجهات كان له دور كبير ليس في تفتيت العصبية الجمعية للمعارضين فحسب، بل في صراع بين العصبيات المعارضة للنظام نفسها، أبعدها كثيرا عن التغلب على عصبية النظام الملتصقة به رغبا أو رهبا.

وإن كنا نجزم أن تفسير كل مجريات الصراع في سوريا من خلال نظرية العصبية سيكون قاصرا، وسيؤدي إلى نتائج مضللة، شبيهة بالنتائج التي توصل إليها من نظروا إلى شكل النظام السياسي، وحجم المعارضة له فقط، فبناء التحليل على عامل واحد من العوامل العديدة المؤثرة في الظاهرة لن يؤدي إلا إلى نتائج مضللة، تبنى عليها أحكام خاطئة، وأفعال معارضة عبثية تصادم الواقع قبل مصادمتها للنظم السياسية القائمة ضدها.