ترامب وإيران.. على الموعد يا كمون

الانتظار أشق على الاقتصاد الإيراني من الحرب.

يروى أن عطّارا شابا كان مستعجلا للشهرة في مهنته، فلم يجد وسيلة لذلك أسرع من أن يتحدى شيخ العطارين في البلدة، بأن يسقي كل منهما خصمه سمّا، ليتولى الآخر صناعة الترياق لنفسه للنجاة من الموت، فمن كان سمه أفتك وترياقه أشفى، بأن يقتل خصمه ويتقي أثر سمه، كان هو الأجدر بالشهرة والمجد.

واشترط الشاب النزق أن يسقي خصمه السم أولا، وهو واثق أنه سيحسم المنافسة في الجولة الأولى، فينجو بذلك من المخاطرة بتجريب سم الشيخ، ورضي الخصم بأن يشرب السم من يد الشاب بلا امتناع، وبمجرد أن ذاقه عرفه وعرف ترياقه، وأخذه لينجو بذلك من الموت المحتم وتصير له الجولة على الخصم.

وأسقط في يد الشاب، إذ لا مناص عن شرب السم، وإن كان لا يدري ما يعده له الشيخ، فهو أدرى بجهله في معرفة أنواع السموم فضلا عن ترياق كل منها، فأكله الهم والغم، وهو يرقب الساعة التي يطلبه إلى حتفه الخصم، والشيخ منشغل عنه غير مبال بما أصابه، يأتيه كل حين ليرقب ما وصل إليه حاله، فإن وجده غافلا عن الأمر نبهه قائلا: أعلى الموعد يا كمون؟ وإن ابتدأه الشاب بالاستعجال أجابه: لا تستعجل.. نحن على الموعد يا كمون... ليبقيه دائما في حال ترقب ووجل.

وكمون المسكين عافت نفسه الطعام، ومنعه الهم من المنام، حتى نحل جسمه وركبته الأمراض، وهو يرقب الموعد المحتوم، والشيخ يؤجل الموعد بانتظار أن يفعل فيه الخوف والهموم ما لا تفعله السموم، وما لا ينفعه الترياق من أثر الجوع والإرهاق، حتى مات "كمون" وهو لا يدري أصلا أكان موعد الشيخ له بعد يوم أم عام، أم إنه لن يأتي على الإطلاق.

وهكذا سقى الشيخ خصمه سما قاتلا في الوقت الذي كان الناس ينتظرون سما آخر في يوم الموعد، ولم يقل أحد في البلدة أن الشيخ تجرأ على قتل فتى غر، بل لاموا جميعهم الشاب أن غرّر بنفسه وأهلكها بوقاحته وجرأته على معلمه، وصارت قصة الشيخ مثلا لمن قتل خصمه هما وخوفا مما يخططه لهم، وإن لم يكن ينوي بالفعل تنفيذ تلك المخططات.

تذكرنا هذه القصة حقيقة بما يجري بين أميركا وإيران اليوم، فلا زالت الحيرة هي سيدة الموقف حيال حقيقة التهديدات الأميركية بالحرب على إيران، في الوقت الذي تفعل المخاوف الإيرانية من تحققها مفعول السم في جسد الدولة الإيرانية واقتصادها ومجتمعها.

وحيث توقع كثير من الخبراء الشرقيين والغربيين أن تؤدي تلك التهديدات إلى رفع حمل ثقيل عن كاهل النظام الحاكم في إيران، بإدخاله البلاد إلى حالة الحرب غير الموجودة، ليتمكن بذلك من إسكات كل صوت معارض، وكتم أي مطالبات بإصلاحات سياسية أو اقتصادية أو دينية، بإعلانه أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، فإن قلة منهم وضعوا في حسبانهم ما سيحدث للاقتصاد الإيراني المتعب إن طال أمد التهديدات، واقتربت أحيانا من التحول إلى واقع، وكم هي قدرة المجتمع الإيراني على تحمل الضغوط الاقتصادية التي سيحمله إياها النظام ليرفعها عن عاتق النظام ومؤسساته.

وفي الوقت الذي تلعب التهديدات العسكرية الأميركية دورها في تجميد الاقتصاد الإيراني الداخلي وإبقاء الأسواق في حالة قلق وطرد للمستثمرين وأرصدة البنوك في حالة نزوح، تواصل العقوبات الاقتصادية الأميركية دورها في تجفيف موارد الخزانة الإيرانية، عن طريق التضييق أكثر على مبيعات النفط التي تشكل المورد الأكبر لها، ومحاصرة بقية مواردها وخاصة ما يستفيد منه النظام الإيراني في تمويل نشاطاته المزعزعة للاستقرار في المنطقة، وتواصل العملة الإيرانية تراجعها ضاغطة على رواتب الموظفين ومدخرات الناس.

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية أشارت في مقال لها مؤخرا إلى خطورة حالة الانتظار التي يعيشها الاقتصاد الإيراني، في ظل الآمال السابقة للنظام ببقاء الأمور تراوح في مكانها لحين انتهاء ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

وقد وجهت خيبة تلك الآمال ضربة عنيفة لاقتصاد إيران ووضعت الدولة كلها على شفير الهاوية، وذلك أن الأمور اتجهت نحو التصعيد بدل المراوحة، مع شد أميركا الحبل أكثر فأكثر على رقبة النظام، ومع التوقعات بإمكان انتخاب ترامب لولاية ثانية ما يعني سنوات أربع أخرى من الاختناق يصعب أن يصمد أمامها الاقتصاد "المقاوم" كما صمد سنين أثناء الحرب مع العراق، وذلك أن العدو مختلف وطريقة إدارته للصراع مختلفة أيضا.

واعترف أكابر مسؤولي البلاد بأن حالة نظامهم واقتصادهم هي أخطر اليوم مما كانت عليه وقت الحرب مع العراق، لسبب أساسي وهو أنه ورغم النفقات والخسائر الكبيرة في تلك الحرب، فقد استمرت الواردات المالية الضخمة من مبيعات النفط تغذي خزينة النظام باستمرار بما يحتاجه لإدامة الصراع، وتمويل احتياجات الدولة الأساسية، لكن اليوم ورغم تخفيض إيران كثيرا نفقاتها الحربية في سوريا ولبنان واليمن، فإن الخطر يكمن في تناقص الواردات والتهديد الأميركي المستمر بتصفيرها تماما.

وبخلاف قتيل الخوف والترقب "كمون" فإن قادة النظام الإيراني واعون جدا بأن الحرب النفسية قد تفعل أحيانا ما لا تفعله الحرب التقليدية، مدركون لحالة النظام المزرية في ظل انتظار حرب هم متذبذبون في موقفهم تجاهها، فمرة ينفون احتمال وقوعها ليطمئنوا الأسواق والبنوك، ومرة يؤكدون اقترابها ويطلبون من أنصارهم الاستعداد لها ليضغطوا على المعارضين ويحشدوا المتعصبين.

وهم منقسمون بين تيار "واقعي" يرى أن حالة الانتظار هذه مهما بلغت آثارها فإنها تبقى أقل سوءا من انتهائها بحرب مدمرة لا يدرون ما سيكون شكلها ومداها وإلى أي درجة تصل تطوراتها، وأن هذه الحالة مهما أضعفت النظام فلن تؤدي إلى موته، لعدم وجود قوة في الداخل أو الخارج مؤهلة حاليا لإطلاق رصاصة الرحمة عليه، باستثناء مخاوفه من تكرار ما حدث في الجزائر والسودان وفنزويلا داخل إيران، خاصة مع التشابه في الفشل الاقتصادي وحالة التذمر السياسي.

وبين تيار "حالم" دفعت فيه حمّى الانتظار بعض المسؤولين الإيرانيين إلى ما يشبه الهلوسة من خلال الزعم أن ضعف الاقتصاد الإيراني إنما هو في حقيقته مصدر قوة له باستغنائه عن وارادت النفط ودفعه إلى تقوية أنشطة اقتصادية أخرى، متناسيا أن اقتصاد بلاده ينازع، وليس في حالة تسمح له بانتظار عقود من الزمن حتى يتحقق التحول الاقتصادي الذي يحلم به، وغاضا الطرف عن حقيقة أن حال بقية قطاعات الاقتصاد الإيراني لا تقل سوءا عن حال القطاع الاستخراجي، الهدف الأساسي للعقوبات.

وتيار آخر نزق متهور يرى أن حالة الانتظار هذه ما هي إلا موت بطيء يفضله الجبناء على مواجهة مصير محتوم عاجلا أو آجلا، من الخير الذهاب إليه بدل انتظاره، ويدعون إلى دفع الحالة نحو التأزيم، بدرجة تمنع حدوث أي مفاوضات لحلها، وذلك عن طريق التحرك خارج ساحة الصراع في إيران للضغط على الولايات المتحدة والدول الحليفة لها في الجوار لإنهاء حالة التهديدات وإعلان حرب يعتقدون أنهم المنتصرون حتما فيها.

ولمنع هذا التيار من تحقيق رؤيته يبدو أن وزارة الدفاع الأميركية حشدت قواتها في محيط إيران، وحذرت من أي فعل قد يرتكبه النظام الإيراني أو أذرعه في المنطقة في محاولة لتصعيد الأزمة إلى أقصى حدودها علها بذلك تنفرج بتدخلات دولية أو بحسابات حديّة.

اليوم كلما سُئل الرئيس الأميركي عن الحرب مع إيران يجيب بأن الخيار غير مستبعد، وحينما تتصاعد الأمور يهدأها المسؤولون الأميركيون بحديث عن مفاوضات يرفض الإيرانيون الدخول فيها، ليستمر سقي السم الناقع لإيران في الوقت الذي يترقب العالم سما آخر ربما لا يفكر الأميركيون في تجربته أبدا.