تركيا ومستقبل الناتو

لا تزال الولايات المتحدة متحفظة من لعب كل أوراقها فيما يحدث شرق المتوسط وفي ليبيا.
لولا تراخي واشنطن عن دعم الناتو لما تجرأت انقرة على تمرير استفزازاتها
حسابات واشنطن في النهاية لن تقف مكتوفة الايدي تجاه أي تهديد وبخاصة من أنقرة
من الصعب على واشنطن التخلي عن الحلف لا في هذه الظروف ولا في غيرها

شكل الاحتكاك التركي الفرنسي في شرق البحر المتوسط بالقرب من الساحل الليبي أوائل يوليو/تموز الماضي مناسبة للتحذير البريطاني الفرنسي من مغبة تأثير السلوك التركي على مستقبل الناتو ومدى فعالية وجوده واستمراره في تأدية مهامه في حال تعرض احد أعضائه لخطر ما وفقا للمادة الخامسة من معاهدة الناتو. وما عزز ذلك التخوف نوعية الاحتكاك وتوقيته ومكانه وربطه بالأزمة الليبية ومستوى التدخل التركي عالى المنسوب الذي بدأ يرخي بظلال كثيفة على العديد من القضايا المتصلة بشمال افريقيا التي لها علاقة بالمصالح الاستراتيجية الأوروبية.

ويعود التخوف الفرنسي البريطاني من تأثيرات السلوك التركي الى تعاطي الرئيس الاميركي دونالد ترامب مع حلف الناتو والقضايا المتصلة بتمويله ودعمه، مما اضعف موقعه، معتبرة كل من لندن وباريس ان لولا تراخي وتراجع واشنطن في الفترة الأخيرة عن دعم الناتو لما تجرأت انقرة من تمرير تلك الاستفزازات الخطرة ودون رد فعل مناسب من الإدارة الأميركية.

وثمة من يقارن مثلا الموقف الاميركي عند قيام تركيا باحتلال قسم من الأراضي القبرصية في العام 1974 والعوامل التي اثرت بالمواقف آنذاك ومن بينها مثلا وجود الاتحاد السوفياتي آنذاك وما يمثله حلف الاطلسي في القضايا ذات الصلة في النزاعات المتصلة بعمقه الاستراتيجي، فيما اليوم يشكل الواقع القائم مستوى مختلفا من التعاطي الأميركي تجاه التهديدات المحتملة من بعض الدول ومن ضمنها تركيا على سبيل المثال تجاه الحلف واعضائه.

إضافة الى ذلك، يشكل التدخل التركي في الأزمة الليبية مجالا واسعا لإعادة خلط الاوراق الإقليمية والدولية لتحديد مستويات التحالف والدعم بين العديد من الاطراف ذات الصلة بالأزمة الليبية وبغيرها من القضايا ذات الصلة أيضا. وفي هذا المجال من الواضح ان لواشنطن قراءتها الخاصة في كيفية التعاطي مع الدول الفاعلة في الأزمة الليبية ومن بينها كل من تركيا وفرنسا تحديدا. وفي مطلق الأحوال ليس بمستغرب وجود هذا الكم الكبير من المواقف غير المتجانسة بين حلفاء يواجهون خصوم وحتى أعداء.

وفي أي حال من الأحوال، شكل الوضع القائم في ليبيا تنافسا غير مسبوق للعديد من القوى الفاعلة في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وزاد مستوى النزاعات عالية المنسوب نوعية التدخل التركي وابعاده الخطرة على الامن القومي للعديد من دول المنطقة وفي طليعتها مصر، إضافة الى جوانب أخرى متصلة بقضايا النفط الليبي التي تخطط انقرة للتصرف به، الأمر الذي سيعيد خلط سياسات واوراق كثيرة في شرق البحر المتوسط، وهو المجال الحيوي للناتو وواشنطن وموسكو على السواء.

صحيح أن ثمة تذمرا وتبرما فرنسيا بريطانيا من الموقف الاميركي تجاه التهديدات المحتملة ضد دول حلف الناتو الأوروبيين من قبل تركيا مثلا، لكن حسابات واشنطن في النهاية لن تقف مكتوفة الايدي تجاه أي تهديد وبخاصة من أنقرة لدواعي متصلة بحلف الناتو التي تحرص على احتواء خلافاته تجاه قضايا محددة وبخاصة دوله، ومن ضمنهم تركيا أيضا، بخاصة ان سبب التوتر الحالي هي القضية الليبية التي لن تكون واشنطن بعيدة عن أي صياغات مستقبلية لأي حلول مقترحة، بخاصة ان لديها من العلاقات العميقة مع جميع الدول المتدخلة ومن بينها انقرة.

وفي المحصلة بصرف النظر عن القراءة الأميركية في الادارة الحالية للعديد من القضايا الدولية ومن بينها الموقف من تركيا، يبقى حلف الناتو من القضايا الاستراتيجية التي تتمسك بها الولايات المتحدة، ومن الصعب على واشنطن التخلي عن الحلف لا في هذه الظروف ولا في غيرها، وبصرف النظر عن الجهة التي يمكن ان تشكل تهديدا ما للحلف، وبخاصة اذا كان تهديدا وجوديا.