تفاءل بما تهوى... تجده

احتجت بعض الدقائق وكثيرًا من الاستفسارات والتوضيحات من لدن الطالبة حتى تستبين الصورة أمامي وأدرك جيدًا ما المقصود بهذا المشروع الفني الثقافي الحضاري الذي أسمع عنه.
العملية التواصلية بين الباث والمتقبل، هي ركن أساسي في كل عمل فني بل لا يمكن للعمل الفني أن يكون أصلًا إذا تعطل التواصل
العملية التواصلية بين الباث والمتقبل، هي ركن أساسي في كل عمل فني بل لا يمكن للعمل الفني أن يكون أصلًا إذا تعطل التواصل

عندما دخلت إحدى طالباتي في كلية التربية بجامعة زايد إلى مكتبي وطلبت مني في كل أدب ولطف الإذن لها بالغياب عن محاضرتي حتى يتسنى لها المساهمة في افتتاح معرض "شروق" للفن التشكيلي، سألتها عن علاقتها بهذا المعرض والفن التشكيلي، فأجابتني بأنها تنتمي إلى مجموعة من الطلبة الإماراتيين الشباب الذين قادهم الحلم الجميل بالإبداع والفن ونشر التسامح والجمال إلى تأسيس شركة The Dp Gallery التي وضعوا لها هدفا أساسيًا وهو احتضان مواهب الشباب في مختلف أبواب الفن التشكيلي رسمًا وتصويرًا وتصميمًا وخطًّا، ومساعدة هواة الإبداع الفني على أن يعرّفوا بأنفسهم لجمهور الفن ويكشفوا أعمالهم للعالم، ويقول كل منهم: "ها أنذا".
والحق أنني قد احتجت بعض الدقائق وكثيرًا من الاستفسارات والتوضيحات من لدن الطالبة حتى تستبين الصورة أمامي وأدرك جيدًا ما المقصود بهذا المشروع الفني الثقافي الحضاري الذي أسمع عنه: شركة فنية؟ مجلس إدارة يشرف عليه الطلبة؟ تشجيع الطلبة على أن يدعم بعضهم بعضًا؟ فهذا كله أمر جديد علينا في عالمنا العربي، يرسي رؤية جديدة لدور الشباب في العمل الثقافي خاصة والاجتماعي عامة، تقوم أساسًا على الإيمان بقدراتهم الخلاقة اللا محدودة ومنحهم الثقة الكاملة في حتمية نجاحهم في ما ينجزون من مبادرات وأعمال إبداعية وخيرية وحضارية تعود بالنفع عليهم وعلى الجامعات التي يدرسون فيها وعلى مجتمعهم بصفة عامة. 

لفتت انتباهي لافتة ضمها مدخل المعرض حملت حكمة رائعة سلبت لبي وأنا أقرؤها وأعيد قراءتها ولم أستطع إلا أن أسرقها من أصحابها وأضعها عنوانًا لمقالي: "تفاءل بما تهوى.. يكن"

إنّ مثل هذه المبادرات تنتقل بالشباب من منزلة المتلقين لأفكار الغير المنفذين فقط لبرامج سطّرها لهم الكبار، إلى منزلة الفاعلين العارفين بما يريد المسؤولون أمام أنفسهم وأقرانهم ومجتمعهم عما ينجزون من أعمال ويرسمون من برامج لتأطير الشباب والأطفال من هواة الإبداع الفني. 
ولقد تابعت حوارًا أجرته "قناة الظفرة" الإماراتية مع الشاب السعيد المحرزي المدير التنفيذي لمشروع معرض دعم الشاب الإماراتي، فانبهرت حقًا بدرجة الوعي التي يمتلكها، وقوة التصميم والعزم التي يكشف عنها حديثه في فلسفة المشروع، وآفاقه المستقبلية.
كل ذلك أكد لي أن المشروع لم يكن صدفة ولا ضربة حظ عابرة أو هدية قدمت للشباب، بل كان ثمرة تفكير طويل، وتخطيط متأنّ وبرمجة بعيدة المدى.
وقد صرّح المدير نفسه بأنّ الإعلان عن المشروع قد سُبِقَ بفترة تفكير وتخطيط أخذت منه وزملائه سنة ونصفًا؛ وضعوا فيها خطة عمل لخمس سنوات قادمة.
لقد أكد لي حديث السعيد المحرزي قول أحد الفلاسفة مشجعًا على التعويل على الشباب: " ثق في الشباب واجعلهم في المقدمة فلن تخيب أبدًا".
والمتأمل في اللوحات التي اشتمل عليها معرض "شروق"، وهو المعرض الافتتاحي للمشروع بأكمله، يلمس بوضوح ما عليه تلك الأعمال الفنية من جودة وطاقة جمالية لا تخطئها العين لا من حيث المضامين والألوان، ولكن أيضًا من حيث رقيّ طريقة العرض واعتماد اللجنة المشرفة على العرض أحدث التقنيات في العرض التشكيلي، ومجانستها بين الأمواج الضوئية السابحة في بحر اللوحة من جهة، وتلك المنبعثة من الألوان والأضواء الخافتة المحيطة بمحاميل اللوحات من جهة أخرى، فيشعر رواد المعرض وهم يجولون بين صفوف اللوحات بضرب غريب من الهدوء والسكينة يسهلان على العينين التركيز في مشاهد اللوحات، وقراءة الدلالات الكامنة هناك بين خيوط النور والعتمة، ويستوعبان الجسد والروح في طقوس الفرجة التي تجعل الوقوف بين يدي اللوحة أشبه ما يكون بدخول محراب للتعبد. فلعلنا لا نبالغ في شيء حين نقول إننا إزاء مجموعة من الفنانين المحترفين الكبار فهما للفن ووعيًا بالأهمية القصوى التي تمثلها اليوم في عالم الفن الحديث، مسألةُ تقنيات العرض وحسن إعداد الفضاء المناسب للعرض حتى ينزل العمل الفني المنزلة اللائقة به والقادرة على ضمان قيام العملية التواصلية بين الباث والمتقبل، وهي ركن أساسي في كل عمل فني بل لا يمكن للعمل الفني أن يكون أصلًا إذا تعطل التواصل ولم يسهم العرض في انجذاب المتلقي نحو اللوحة.
وكم  من أثر فني عبقري من آثار كبار رسامينا العرب قد ظلم أشنع الظلم لسوء عرضه وكان ضحية لعدم ملاءمة فضاء العرض أو بدائية تقنيات العرض، وكم تحامل الغبار والأرضة على آلاف اللوحات الرائعة في المعارض العتيقة ومخازن وزارات الثقافة المهملة!
إن تأكيدنا على رقيّ شكل المعرض يعود إلى ما يكمن وراء تطور تقنيات العرض من رؤية فنية تمثل ميزة لهذا الجيل الشاب الجديد من الفنانين والعارضين، جيل لا يرى تعارضا بين الفن والتكنولوجيا ويحسن المواءمة بين ريشة الرسام ومفتاح الحاسوب، وبين خلط الألوان والشبكات البرمجاتية المعقدة. والناظر في التيمات التي تستقطب اللوحات المعروضة يجد تصديقًا لهذا الاستنتاج. فاللوحات تجسّد مواضيع متنوعة وتنتمي إلى فنون تشكيلية مختلفة من رسم وتصوير فوتوغرافي وتصميم وتزويق خطي.
إضافة إلى ذلك فإدارة المشروع تبرمج تنظيم معرض إلكتروني كل شهر. ولكل فن من هذه الفنون قسم خاص به ضمن أنشطة المشروع، إذ خصّصت لكل واحد منها ورشة تشرف عليها فرقة مختصة من الفنانين الذين يتكفلون بتدريب هواة الإبداع في هذه الفنون.

بيد أنّ هذا المشروع الشبابي لا يدعم شباب الفنانين واليافعين منهم معنويًا بالتكوين والتأطير والتقديم للجمهور فحسب، بل يدعمهم ماديًا أيضًا. ولهذا الدعم مظاهر متعددة؛ أولها مساعدتهم كما قلنا آنفًا على حسن عرض أعمالهم فهذه العتبة الأولى للوصول إلى المتلقي وكسب إعجابه، ثاني أشكال الدعم الحرص على الإشهار الجيد للمعارض لضمان أكبر عدد ممكن من الزوار، أما ثالث أشكال الدعم وأهمها فهو تقديم خدمات العرض للفنانين والوساطة بينهم وبين المقتنين من الجمهور بصورة مجانية تقريبًا إذ تقدم إدارة المشروع للفنانين 95% من المبلغ المتحصل من بيع اللوحة وتكتفي بخصم 5% من المبلغ تقدم في صورة تبرعات من الفنان دون أن يعود إلى إدارة المشروع شيء من ذلك.
والغاية من وراء هذه الإجراءات تشجيع الفنانين على التخفيض من أثمان لوحاتهم سعيًا إلى إتاحة الفرصة للشباب حتى يقتنوا إنتاجات زملائهم، وبذلك يتحقق هدف أساسي من أهداف المشروع وهو دعم الشباب بعضهم بعضًا.
لا شك في أنّ هذا المشروع قد ولد كبيرًا محفوفًا بحمية الشباب وحماسهم الفياض القادر على اجتراح المعجزات، وإنّ وضوح الرؤية لدى مؤسسيه الشباب ووعيهم بأهمية التخطيط للمستقبل هو في حد ذاته مكسب كبير أربح إدارة المشروع وقتًا وجهدًا كبيرين. ومع ذلك فعلى الهيئة المديرة أن لا تكف عن اصطياد الأفكار وحث الفنانين والمثقفين الإماراتيين من الشباب وغير الشباب على تزويدهم بالأفكار والمقترحات ليظل مشروعهم حلما بكرا دائما، ويظل الشوق إلى النجاح متوقدًا لا تخبو ناره، وليحذروا كل الحذر من أن تصبح الخطط والبرامج، على أهميتها القصوى، سياجًا يحيط بأحلام الشباب وقد يعوق رغبتهم في التجديد والتطوير. 
ومن الأبواب التي يمكن البدء في التفكير فيها من الآن والسعي إلى فتحها باب الانفتاح على كبار الفنانين في الإمارات والخليج وفي باقي الدول العربية، فيا حبذا من حين إلى آخر أن يدعى المشاهير في كل فن من الفنون التي يعتني بها المشروع لعرض أعمالهم وتقديم محاضرات للشباب وإدارة الورشات التي ينظمها المشروع.

فلهذا الاحتكاك المباشر بين شباب الفنانين وشيوخهم فوائد جمة تفتح لهواة الإبداع الفني من الشباب واليافعين آفاقا جديدة وتجعلهم يعيشون بعضا من مستقبلهم في الحاضر.
لقد سمّى المشرفون على هذا المشروع معرضَهم الافتتاحي الذي انعقد في منارة السعديات بأبو ظبي أيام 9-11 أكتوبر/تشرين الأول، بعنوان "شروق" واعتمدوا صيغة التنكير دلالة على أنّ شمس الفن دائم إشراقها لا يغيب نورها أبدًا.
وقد لفتت انتباهي لافتة ضمها مدخل المعرض حملت حكمة رائعة سلبت لبي وأنا أقرؤها وأعيد قراءتها ولم أستطع إلا أن أسرقها من أصحابها وأضعها عنوانًا لمقالي: "تفاءل بما تهوى.. يكن".