تونس من غير وصاية حزبية

لن يسأل القضاة القروي والشاهد والغنوشي سؤالا مثل "ما الذي فعلتموه من أجل أن تكون هناك تونس أخرى غير تونس بن علي؟" هذا سؤال الشعب لهم.

ليس من الصائب استباق الأحداث بالتوقعات الحاسمة وبالأخص في ما يتعلق بالوضع السياسي الراهن في تونس.

فبعد أكثر من عشر سنوات على ثورة الياسمين (وهو مصطلح شائع) لا أحد في إمكانه أن يجزم بأن الأمور باتت واضحة.

غير أن ذلك لا يعني أن الدوائر المحيطة بالرئيس قيس سعيد غير قادرة على التمييز وعلى الامساك بمواقع الخلل.

هناك تلال من الملفات التي فُتحت في أوقات سابقة مختلفة من غير أن يتمكن القضاء من اتخاذ الاجراءات القانونية في شأنها.

ربما سيشكل تعطيل القضاء ومنعه من القيام بعمله تهمة ستجر من خلفها عددا من مسؤولي مراحل الحكم السابقة إلى المحاكمة.

حينها كانت الدولة قد جرى تعطيلها أيضا. فليس من مصلحة الفاسدين وهم على أنواع بتنوع طرق وأهداف ووسائل فسادهم أن تكون هناك دولة. كان العمل يجري حثيثا على تهشيم المفاصل الأساسية في الدولة أو على الأقل تهميشها.

اليوم تعيش تونس اللحظة الحاسمة في تاريخ ثورتها التي خُيل للكثيرين أنها فقدت البوصلة نهائيا وانحرفت عن مسارها وصار على الفقراء أن يحذفوا من ذاكرتهم الأمل في أن تخرجهم الثورة من العتمة إلى ضوء النهار.

فالصدام بالمنتفعين من الثورة هو أشد خطورة من البحث في مثالب أولئك البشر الذين يحنون إلى زمن بن علي الذي لا يمكن استعادته بأي شكل من الأشكال وليس صوت عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري المعاد ترميمه دليلا على توظيف الحنين سياسيا.

في كل الأحوال فإن احالة زعماء الأحزاب المستفيدة من الفوضى إلى القضاء هي ظاهرة إن لم تكن ثورية فهي صحية. 

ليس من الصائب تفسير ذلك الحدث الذي هو أشبه ببداية زلزال من باب الانتقام، بالرغم من أن إزاحة رموز الفوضى السياسية يقع في مصلحة الرئيس سعيد وهو الراغب في أن يرى الشعب التونسي بداية جادة للعمل على تنفيذ فقرات مشروعه في التغيير.

من الخطأ حصر الثورة بمطالبات خدمية يمكن أن تستهلكها دورة العمل في إطار الدولة البيروقراطية. ذلك لأن التغيير ينبغي أن يكون شاملا بما يؤدي إلى قلب كل المعادلات بطريقة ثورية. فمثلما لا عودة إلى الوراء، لا تكريس لحياة حزبية تستند إلى التكسب عن طريق الدولة التي تمت التضحية بها من أجل أجندات غير وطنية.

إذا ما تم البدء بتنفيذ القرارات الجديدة الخاصة بإحالة زعماء الأحزاب، القروي والشاهد والغنوشي إلى القضاء فإن ذلك معناه أن تونس قد بدأت عصرا جديدا، ستنفصل من خلاله عن ماضي ثورتها الذي صار بعيدا إلى درجة أن الشعب لم يعد يشعر بأنه ماضيه. لقد أهملت الأحزاب الشعب بعد أن تاجرت بثورته وضيعته في بخار أوهامها الوضيعة.

كره الشعب التونسي الأحزاب وكانت تلك الكراهية معلنة يوم رحب الشعب بقرار الرئيس سعيد بتجميد عمل مجلس النواب وإقالة رئيس الحكومة التي كانت تمثل الأحزاب.

يومها انتهت سلطة الأحزاب. ولكن الأحزاب نفسها لم تنته. لا يعود السبب في ذلك إلى ما تتمتع به الأحزاب من شعبية، بل إلى ما تملكه من نفوذ وهيمنة اقتصادية. عشر سنوات كانت كفيلة لكي تتمكن الأحزاب النفعية من السيطرة على مقدرات البلد الاقتصادية.

كل ذلك صار من الماضي الذي يجب عدم التفكير باستعادته. ولكن ذلك لن يتحول إلى حقيقة متماسكة إلا من خلال تحويل تلال الملفات إلى القضاء مرة أخرى وليس من باب السلوك المجاني أن يتم استدعاء أباطرة السياسة والمال إلى القضاء بتهم واضحة جوهرها المال السياسي، ولكن خيوطها تمتد إلى الاغتيالات والتورط برعاية المنظمات الارهابية.

"ما الذي فعلتموه من أجل أن تكون هناك تونس أخرى غير تونس بن علي؟" ذلك سؤال صادم غير أنه لا يستند إلى مرجعيات قانونية مثل تلك الأسئلة التي ستوجه إلى زعماء الأحزاب الذين تم استدعاؤهم إلى القضاء بتهم واضحة.

أعتقد أن الرؤية ستكون واضحة بعد أن تتخلص الأحزاب من زعمائها وهم الذين سيواجهون قضاء نزيها، هدفه الوحيد أن يصل إلى الحقيقة. حقيقة ما جرى. وهو ما يعيدنا إلى ذلك السؤال الذي يبدو كما لو أنه سؤال عاطفي لا يملك رصيدا قانونيا. "ما الذي فعلتموه لكي لا تولد تونس جديدة؟"

فرصة للشعب لكي يستأنف حياته من غير وصاية حزبية، بشرط أن يستمر الرئيس سعيد في كشفه عن الحقائق.