تونس وعمان.. إيجابية الدور وعقلانية الموقف والقرار
لا يمكن لأيّ تونسي أو عماني إلا أن يسعد بكل لبنة تضاف إلى جسر التواصل والتعاون والتكامل بين بلدين شقيقين عريقين متجذرين في أمجاد التاريخ وعبقرية الجغرافيا ومنسجمين مع تطلعات شعبيهما بما يعد بمستقبل مشرق لكليهما، وبين إرث كامل من حكمة القيادة التي طالما استطاعت، سواء في تونس أو عمان، أن تتعامل مع التحديات بكل أشكالها وأنواعها، بقدرة فائقة على تحليل الواقع واستشراف المستقبل وتحديد الموقف وعقلنة المسار والتحكم في مسارات اللحظة التاريخية بجرأة القرار وحكمة اتخاذه.
خلال استقباله وزير الخارجية العماني بدر بن حمد البوسعيدي، عبّر الرئيس التونسي قيس سعيّد عن تقدير بلاده للدور البنّاء الذي تضطلع به سلطنة عمان بقيادة السلطان هيثم بن طارق في دعم الأمن والاستقرار الإقليميين والدوليين، ونهجها القائم على الحكمة وقيم الحوار والتعاون بين الدول والشعوب.
ذكّر الرئيس التونسي المولع بالتاريخ، بالعلاقات التاريخية المتميزة التي تجمع بين البلدين والشعبين الشقيقين قبل استقلال سلطنة عُمان وبعده، وأشار إلى العلاقات العلمية والثقافية العميقة والمتجذّرة بين الشعبين ومن بينها على سبيل الذكر لا الحصر المدرسة التي أسّسها المدرّس التونسي محمد علي بوذينة بمسقط في أوائل القرن العشرين في عهد السلطان تيمور بن فيصل حيث اشتغل بالتدريس في مدرسة الزواوي وكان يدرّس علوم القرآن الكريم واللغة العربية والجغرافيا والحساب والرسم وتخرّج على يديه الكثير من الأسماء اللامعة وبعض كبار المسؤولين في الدّولة.
في ذات السياق التاريخي، توقف الرئيس سعيّد عند الزيارة التي كان أدّاها المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد إلى تونس سنة 1973 وكانت منطلقا لعلاقات ما فتئت تتطوّر في كافة المجالات وخاصة في التعليم والتكوين المهني والدبلوماسية والعلوم القانونية وفي عدد من القطاعات الأخرى من بينها بالخصوص تعزيز الاستثمارات والمبادلات التجارية والثقافية، مشيدا بالرعاية التي تحظى بها الجالية التونسية المُقيمة بالسلطنة.
يكنّ الرئيس التونسي احتراما خاصا لسلطنة عمان ذات التاريخ الملهم والحضارة العريقة والموقع المؤثر والحكمة البليغة. وهو يعلم جيدا ما تقوم به السلطنة من حركة يومية للبناء والتشييد والإنجازات المتراكمة والتأسيس المتجذر لمعالم حضارية مبتكرة أو متجددة بحجم تطلعات الشعب الشقيق وقيادته الحكيمة التي طالما أثبتت قدرتها على استباق اللحظة التاريخية وتكريس دورها الإقليمي والدولي بالكثير من الهدوء الثابت والثبات الهادئ، ومن الرؤية الإستراتيجية المنسجمة مع خصوصيات الموقع والدور والرؤية والهدف.
أول زيارة خارجية للرئيس التونسي قيس سعيد بعد توليه مقام الرئاسة كانت إلى سلطنة عمان في 12 يناير 2020 لتقديم واجب العزاء في وفاة المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد، الذي وصفه بيان نعي صادر عن الرئاسة التونسية “بالقائد الحكيم ورجل الدولة المخلص الذي نذر حياته لخدمة وطنه وتحقيق الأمن والرخاء والاستقرار لشعبه وجعل من بلده عامل استقرار وتوازن في المنطقة بما جلب له تقدير واحترام الأشقاء والأصدقاء،” مشيرا إلى “أنّ تونس ستحفظ للمغفور له بصماته الناصعة في جعل العلاقات التونسية – العُمانية مثالا يُحتذى لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين الأشقاء التي قوامها الصفاء، والاحترام المتبادل والتعاون المخلص والبنّاء.”
ما يتفق عليه الطرفان التونسي والعماني هو أن الصدق مصدر الثقة، والتعاون والتضامن بابان للشراكة العملية، وأن العروبة الحضارية قادرة على توطيد جسور التواصل والتوافق والتنسيق برؤية ثاقبة وخطوات واثقة وعقلانية منسجمة مع حركة التاريخ التي يبقى لها وقع السحر في تحديد معالم الحاضر والمستقبل.
يتابع التونسيون بكل إعجاب وتقدير مواقف السلطنة وما تقوم به من أدوار أساسية في تكريس قيم الحوار المؤدي إلى السلام وبناء الثقة بين القوى المتصارعة تمهيدا للتوافق على حلحلة الأزمات وحقن الدماء كما حدث في الملف اليمني، ولا يزال يحدث في الملف الإيراني، وكما تم تسجيله في الكثير من مفاصل التاريخ حيث اختارت السلطنة دائما أن تكون صوت العقل وكفّ السلام وشجرة المحبة الوارفة التي يستظل بظلالها الباحثون عن الحلول الدبلوماسية للأزمات المتراكمة انطلاقا من الواقعية السياسية التي تمتاز بها والتي هيأتها لتكون راعية للسلام وزعيمة لجهود حل القضايا الشائكة.
في مارس الماضي، توقف الدكتور هلال بن عبدالله السناني سفير سلطنة عمان المعتمد لدى الجمهورية التونسية عند ذكرى مرور 54 عاما على فتح سفارة سلطنة عُمان في تونس كمناسبة لاستحضار ما شهدته العلاقات العمانية – التونسية من تطور منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية العمانية – التونسية في عام 1971 وافتتاح سفارة سلطنة عمان بالجمهورية التونسية في 15 مارس 1972. أكد السناني أن السنوات الأربع والخمسين الماضية شهدت تطور التعاون بين البلدين الشقيقين في العديد من المجالات وبرز ذلك بوضوح بعد انعقاد اللجنة العُمانية – التونسية المشتركة في دورتها السادسة عشرة بمسقط في شهر يناير 2024 برئاسة وزيري خارجية البلدين وهو ما من شأنه أن يرتقي بالعلاقات الأخوية والرغبة المشتركة في تعزيز وتطوير التعاون في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والاستثمارية لاسيما وأنه توجد اليوم 44 اتفاقية ومذكرة تفاهم وبرنامج تنفيذي بين الجانبين في عدة مجالات أبرزها التعاون الثقافي والتربوي والفني، والتعاون الإعلامي والصحي وتشجيع الاستثمار وتجنب الازدواج الضريبي، والتعاون السياحي وغيرها من المجالات الواعدة الأخرى.
أكد السفير السناني أن البلدين يسعيان لمزيد دفع العلاقات التجارية والاقتصادية وهناك قناعة راسخة من الجانبين بأن التحديات الاقتصادية التي تعيشها المنطقة العربية نتيجة الظروف الجيوسياسية فضلا عن المتغيرات في مجال التعاملات المالية والتجارية والاستثمارية تحتم العمل بكل جهد لبناء علاقات تكامل وتعاون على الصعيد الثنائي. وفي هذا الإطار تبذل السفارة جهودا كبيرة في سبيل استقطاب كبرى الشركات التونسية نحو الاستثمار في سلطنة عمان وتعزيز الاستثمارات المشتركة، وفي هذا الشأن تم عقد عدة لقاءات وترتيب زيارات إلى سلطنة عمان لمجموعة من المستثمرين التونسيين، وتأمل السفارة بأن تشهد المرحلة المقبلة المزيد من الزيارات على مستوى المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال لاستكشاف مجالات التعاون بين البلدين الشقيقين.
في ظل الإرادة المشتركة للبلدين في تعزيز التعاون بينهما في كافة المجالات، أكد السفير السناني أن هناك فرصا واعدة كثيرة في الجوانب الاقتصادية والاستثمارية، بما يتوافق مع تطلعات رؤية عُمان 2040 والخطط التنموية للجمهورية التونسية الشقيقة، وهو ما سوف تحرص السفارة على العمل عليه بشكل أكبر خلال الفترة القادمة.
نحو المزيد من التطور والتقدم، تقود قيادتا تونس وعمان سفينة العلاقات الثنائية بالكثير من الهدوء والحكمة والوثوق بالمستقبل رغم العواصف التي تشهدها المنطقة والتحديات التي يفرضها عالم اليوم. تونس وعمان حالة مختلفة بما لهما من قدرة على الصدق مع الذات والإصرار على إيجابية الدور وعقلانية الموقف والقرار.