ثقافة التجدد والابتكار في الصناعات التقليدية التونسية

فعل ثقافي أصيل وابتكار في صلة بالينابيع ونزوع نحو الذات في تعدد تلوينات دروبها وكيانها.
تونس تعتبر من البلدان الأشد محافظة على صناعاتها التقليدية بفضل اندراجها في معاش عدّة عائلات وعناية الدولة بها
جولة في أسواق تونس العاصمة أو في أسواق كبرى المدن وحتى في الأسواق الأسبوعية بالقرى تؤكّد ثراء التراث الحرفي وتنوّع أشكاله

فعل ثقافي أصيل وابتكار في صلة بالينابيع ونزوع نحو الذات في تعدد تلوينات دروبها وكيانها الملون بالتجلي والانتشاء وما نعني به سؤال الهوية في عمقه الدال.. ثمة امتلاء بالهوية في كون مضطرب متسارع الأنساق ومربك في هيجانه المعولم على الخصوصيات والثقافات بكلياتها وجزئياتها. من هنا كانت عوالم الصناعات التقليدية التونسية في منطلقاتها حيث وكما ورد في الموسوعة التونسية المفتوحة "... تعتبر تونس من البلدان الأشد محافظة على صناعاتها التقليدية بفضل اندراجها في معاش عدّة عائلات وعناية الدولة بها في علاقتها بالسياحة تكوينا وتسويقا وتشجيعا وتطويرا مع المحافظة على الجودة. وإن ّجولة في أسواق تونس العاصمة أو في أسواق كبرى المدن وحتى في الأسواق الأسبوعية بالقرى تؤكّد ثراء التراث الحرفي وتنوّع أشكاله وهو ما يعكس أصالة الهوية وخصب الخيال ورقة الذوق. كيف لا وتونس أرض الحضارات وملتقى الثقافات بحكم موقعها وقيم شعبها المتمازج العناصر. 
لقد اقتضى تمصير مدينة تونس وفق التمصير الإسلامي للمدينة العربية المشهود في فاس أو مرّاكش أنّ ترتّب الأسواق بعناية أمراء بني حفص منذ القرن 7هـ/13 في دوائر يحيط بعضها ببعض حول الجامع الكبير - وهو جامع الزيتونة المعمور. فخصّصت الدائرة الأولى للسّلع النظيفة مثل العطور والحلي والحلل والأقمشة والفواكه الجافة، فكانت أسواق العطّارين والقماش والحرايرية والبركة للصّاغة. وخصّصت الدائرة الثانية للخياطة والحياكة وصناعة الشاشيّة، فكانت أسواق البرانسيّة والشوّاشيّة، على حين خصّصت الدائرة الثالثة لصناعات النحاس والسلاح والنجارة. أمّا الدائرة الأخيرة فللصّناعات الملوّثة، نسبيّا، كالدباغة في سوق الدبّاغين، والصباغة في سوق الصبّاغين، والخزف والفخّار والجليز في القلاّلين، والنقش على الرخام في الجوار.
ولأسواق تونس، على سبيل المثال، أمناء ومحتسبون يحمون الصّنائع والحرفاء من أنواع الغشّ، ولها أبواب تغلق ليلا، وعسس يحمون المصانع والمتاجر والمخازن. ولأسواق القيروان، كذلك، نظام كان رتّبه يزيد بن حاتم، والي (إفريقية تونس) سنة 156هـ/773. فقد جعل على كل ّ صنعة أمينا. وقد نسبت إلى مؤسسيها أو إلى مشاهير أجوارها، مثل سوق إسماعيل التي أحدثها سنة 71هـ/690 إسماعيل بن عبيد الأنصاري، وهو أحد أعيان التابعين. وكانت هذه السوق حذو مسجده المعروف اليوم بمسجد الزيتونة، وكذلك سويقة ابن المغيرة نسبة إلى عبدالله بن المغيرة الكوفي، من كبار المحدّثين، وسوق بني هاشم، نسبة إلى صالح بن حاجب بن هاشم، وسوق دار الإمارة لقربها منها.
ومنذ سنة 1574 واصل الأتراك ما أسّسه الحفصيّون بالزيادة في الأسواق والتجديد في الصناعات وبناء الفنادق التي تعتبر الهياكلّ البدائيّة للسياحة والتسوّق. وفي عهد أحدهم - وهو عثمان داي ( (1598 – 1610استقطبت البلاد آخر مسلمي الأندلس الذين نشّطوا الصناعة والتجارة والتعمير في أنحاء العاصمة وبنزرت والوطن القبلي وسهول مجردة وخاصة في مجال النسيج والحرير والتطريز والشاشيّة في أسواق البشامقيّة والتّرك والشوّاشيّة. وبهذه الأخيرة شغفت الأرستقراطية فانتفعت بها داعمة بذلك اقتصاد البلاد بتصديرها إلى أوروبا والشرق العربي وإفريقيا رغم المزاحمة الأجنبية.
وتشتهر كلّ مدينة أو قرية بأنواع مخصوصة من الصناعات، فالقيروان تشتهر بنسج الزّرابي، وطرق النّحاس، وصناعة المقروض. ولفظ "كروانة" الذي يشير إلى آنية من النّحاس ليس إلاّ تحريفا للفظ "قيروانية". أمّا صفاقس فتشتهر بالحدادة والنّقش، في حين تشتهر وذرف بنسج المرقوم، والجريد بنسج البرانس، وسجنان بصناعة الخزف والقصرين بالمخارق وتستور بصناعة الجبن والجبّة وغير ذلك ممّا يتنافس فيه. وفي المنتوج الواحد تتميّز كلّ قرية وكلّ مدينة بأنواع معيّنة وبخصوصيّات أصيلة. 

ونهوضا بالجودة في عالم التنافس يقوم الديوان بحملات تحسيس وزيارات إرشاد لورشات الغزل والصباغة والنسيج والبيع، مراهنة على الزربية التونسية خاصة في عاصمة إنتاجها: القيروان، حيث يتواصل الديوان مع الحرفيين والحرفيات في المنازل لتقديم المساعدات الفنّيّة. ولذلك أصبح إنتاج الزربية والنسيج المطبوع يمثل 80% من الإنتاج القومي المراقب. وبلغ إنتاج الزربية 338.460م². سنة 1998, بينما بلغت نسبة النسيج 20% من الإنتاج الوطني المطبوع، واحتلّ المرقوم المرتبة الأولى بمعدّل 45.000م². في السنة. 
وفي مجال المحافظة على الذاكرة وتشجيع الابداع فتح الديوان الوطني للصناعات التقليدية بالدندان - بتونس العاصمة - متحفا للّباس التقليدي يعرض أنواعا مختلفة باختلاف تنوّعات التراث عبر الجهات من الجبّة والبرنس والملاءة والحائك والسفساري والفوطة والبلوزة والقمجّة والفرملة والشاشية والطاقية والبلغة والريحيّة والشبرلّة، إلى جانب مجموعة مهمة من الحليّ فضّة وذهبا. كما خصّص الديوان سنة 1996 فضاء للخمسة الذهبية لعرض نماذج من ابتكارات المصمّمين المشاركين في المسابقة السنويّة منذ إحداثها بمناسبة اليوم الوطني للّباس التقليدي. ...".
وفي السياق ذاته "...يمثل قطاع الصناعات التقليدية رافداً اقتصاديا مهماً وعنصرا ثابتاً للتشغيل في كافة مناطق البلاد. كما يعد مقوماً من مقومات الشخصية الوطنية إذ يساهم في ترسيخ الهوية وتثبيت روح الأصالة والانتماء للحضارات والثقافات التي تعاقبت على بلادنا. وبالتأكيد دوره الفاعل في المسيرة التنموية الشاملة باعتباره  يساهم في تقليص البطالة نظراً لقدرته على تعبئة واسعة لليد العاملة وإحداث عدد مهم من مواطن شغل. ويوفر مداخيل محترمة لعدد مهم من المواطنين إذ ينتفع من الصناعات التقليدية حوالي مليون شخص دون اعتبار النشاطات الموازية في ميدان الخدمات. كما يساهم في الناتج الداخلي الخام وجلب العملة الصعبة للبلاد بنسبة مهمة. ويساهم في تنمية الجهات خاصةً النائية منها باعتبار تواضع تكلفة بعث المشاريع في الصناعات التقليدية المتميزة بطابعها الحضاري والتراثي المتجدد والمنتشرة في كامل تراب الجمهورية. ويدعم التوازن الاجتماعي والديمغرافي في تثبيت السكان في مناطقهم والتقليص من ظاهرة النزوح مع قابلية النشاط فيه بالمنازل لاسيما بالنسبة للمرأة التي تمثل عنصرا فاعلا ونشيطا في هذا الميدان. أو من خلال لمحة تاريخية كانت الأنشطة قبل الحماية، منضوية تحت حماية هياكل اجتماعية فمجالس الحرف مثلا يمثل نوعا من تنظيم النشاط في الصناعات التقليدية والتجارة الحضرية حيث تحتكر كل مهنة هياكل مستقلة للتدريب والصناعة والاستهلاك (مواد أولية) غير أن ظهور نمط الإنتاج المصنع وتغير طرق الاستهلاك ساهما بصفة ملحوظة في الإخلال بالاقتصاد الحضري التقليدي في تونس.
ولمواجهة تدهور أوضاع الصناعات التقليدية التونسية واستجابة لطلبات الحرفيين آنذاك قامت السلط الحكومية ببعض المبادرات منها إحداث الديوان المهني سنة 1923 ولذي فسح المجال لبعث عدة مراكز لصناعات التقليدية وأصبح هذا الديوان مصلحة للتكوين المهني والحرف والفنون سنة 1945 بمراقبة المنتجات التقليدية، وفي سنة 1953 قامت وزارة التجارة ببحث ميداني حيث تم ضبط عدد المنشآت الحرفية بـ 28.000 وحدة تشغيل قرابة 100.000 ألف حرفي. وتم إعتماد هذه الدراسة من قبل الحكومة لإعداد أول مخطط ثلاثي أبرز اهتمامات الدولة بقطاع الصناعات التقليدية حيث خصصت له برامج واعتمادات مبوبة، تم غابت المعطيات عن الصناعات التقليدية من الجهاز المعلوماتي الرسمي. وتم إحداث الديوان القومي للصناعات التقليدية فمع الاستقلال وأمام أهمية قطاع الصناعات التقليدية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية قامت السلطة الوطنية ببعث الديوان القومي للصناعات التقليدية بغية رفع كل الحواجز والتناقضات التي تحول دون حسن سير القطاع والعودة إلى الأصالة وإثبات الهوية التونسية، وذلك بموجب القانون عدد 133 سنة 1959 مؤرخ في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1959. وقد أحدث الديوان القومي للصناعات التقليدية على أساس أنه مؤسسة عمومية ذات صبغة تجارية ولها الشخصية المدنية وتتمتع بالاستقلال المالي ولها مركزها بتونس، وهو ملحق آنذاك بوزارة الإقتصاد الوطني حيث يعتبر في علاقاته مع الغير بمثابة التاجر، فتطبق عليه التراتيب التجارية.
وكان الغرض من إحداث الديوان الوطني للصناعات التقليدية في ذلك الوقت باعتبار التوجه الإقتصادي في إستقطاب مزيد من الصناعات من طرف الدولة: أولا - أن يستخدم مباشرة أو بطريقة غير مباشرة المعامل المسيرة للإنتاج التي سبق إحداثها أو التي سيحدثها هذا الديوان نفسه أو بإشارة وسعيا منه. وثانيا - القيام بمراقبة فنية على الشركات الصناعية للصناعات التقليدية ومنتوجات هاته الصناعات الموجهة للتصدير. وثالثا - المساعدة على الترويج للصناعات التقليدية وخاصة بتكوين اليد العاملة الصانعة والمحترفة وبتحسينها وكذلك بتعميم الناتج وبثها في السوق الداخلية والخارجية. 
كما ساهم الديوان منذ إحداثه في الإنتاج والترويج مباشرة باعتبار التوجهات الإقتصادية في مطلع الاستقلال التي كانت ترمي لإستقطاب الإنتاج بالإضافة إلى تأطير القطاع والإحاطة بالحرفيين وتكوين الناشئة. وأصبحت ورشات الديوان تنتج كميات متزايدة من المنتوجات غمرت السوق المحلية وسجلت أرقام معاملات محترمة مع الأسواق الأجنبية ....".
هذا مجال شاسع كفعل ثقافي أصيل وابتكار في صلة بالينابيع ونزوع نحو الذات في تعدد تلوينات دروبها وكيانها الملون بالابداع والتجدد.