جبران خليل جبران أسطورة خالدة

جبران خليل جبران صديقي الذي عرفته وأحببته في سني حياتي الأولي ولا أزال أذكر نصوصه الأولى التي لامست روحي وأيقظت كياني.
ينابيع عذبة نهلت منها وأروتني يومها
التقديس في شرعنا ليس لأحد من المخلوقات وإنما للخالق العظيم وحده

في مقالته التي دأب علي كتابتها في صحيفة "القدس العربي" اللندنية والتي تعودت أن  أطالعها علي هاتفي لإهتمامي بما يكتب صاحبها وحرصي على مواكبة جديد أقلام كتاب القدس المبدعين المتميزين في نصوصهم الإبداعية وقراءاتهم النقدية الرصينة، كتب الشاعر الكبير قاسم حداد مقالة عن "جبران خليل جبران نموذج الأسطورة الواقعية، وفيها ألقي الضوء علي "الأدب الجبراني" الظاهرة التي تحولت إلى أسطورة قد اكتنفتها هالة من التقديس عند "الجبرانيين" الذين يرون أنه ليس في الإمكان الإتيان بأبدع منها. في الوقت الذي يري فيه البعض أن عد أدبه في مصاف الأدب الرفيع لا يخلو من مبالغة، إذ هو خيالي ومتناقض وضبابي ومتبرم من الحياة وهارب منها ثم إنه عادي من الناحية الفنية الجمالية. ولا يزيده قيمة أن صاحبه عاش عقودا طويلة في أميركا وكتب بالإنكليزية .
الذي جعلني أخوض في هذا الموضوع هو أن جبران خليل جبران صديقي الذي عرفته وأحببته في سني حياتي الأولي ولا أزال أذكر نصوصه الأولى التي لامست روحي وأيقظت كياني وكانت لي ينابيع عذبة نهلت منها وأروتني يومها . فسلام عليها وطوبي لها وحسن مآب. 
 وأنا أقرأ المكتوب حضرتني عبارة قاسم الأثيرة في "ايقاظ الذاكرة وصقل المرايا" فلمعت في ذهني صور جبران ومنازعه وأحلامه وأشجانه التي خلدها في كتبه بدءا من أول نص تلقفته  من "دمعة وابتسامة"، و"مرتا البانية"، رماد الأجيال والنار الخالدة"، "خليل الكافر" إلى كل مجموعته الكاملة التي قرأتها وأعدت قراءتها مرة أخرى فأحببت أن أعود لصديقي جبران بصحبة شاعر كبير متميز في طروحاته الأدبية ومشروعه الفكري الذي بدأه منذ بدأ يقرض الشعر في "البشارة" ويفتنه في النثر "الدم الثاني" ويؤانسه دارا /  وبناء / وسيرة / أثرا  فكرا/ نصا / شخصا / في "طرفة بن الوردة ". 

novel
صديقنا وخليلنا الذي نعرفه ونحبه ونجله 

كتب قاسم حداد 
"فليس جبران نابغة (إبداعياً) ولا هو كاتب عابر لا تتعثّر به النظرة التاريخية لتطور الكتابة العربية الحديثة. إنه كاتب عربي، أعطى نتاجاً أدبياً عادياً ومات، دون أن يحصل على التقدير المناسب في حياته. وهذا يحدث لكل أدباء العرب المبدعين وغيرهم.
من يستقرئ تجربة بدر شاكر السياب وجبران خليل جبران جيداً، يكتشف أنها تجربة تدعونا جميعاً إلى ضرورة احترام الأديب في حياته، الاحترام والتقدير النقديين الأنسب، وإعطائه فرصة التعبير والحياة بحرية تسعه وتسع أدبه/ فالحرية لا تنفع الانسان ميتاً".
أعادني ما كتبه قاسم حداد إلي كلكامش الذي حزن على موت صديقه انكيدو وذهب يطوف في البلاد بحثا عن عشبة الخلود. ولما ظفر بها سرقتها الأفعي .
وعلى خطي كلكامش تبدى لي بعض الخلود بريقا زائفا .وبعضه حقيقة أغرب من الخيال قلما تتأتي إلا للقليلين، ومن هؤلاء الكاتب والشاعر والرسام والفيلسوف جبران خليل جبران. 
على خطي السومري رحت أسأل نفسي عن مقاييس الخلود الماثلة في الوجود. والفرق بين الحقيقة والبريق الزائف الذي لا يلبث أن يختفي والذي وصفه القرآن الكريم في سياق الآية الكريمة أحسن وصف : 
"وٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعْمَٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمْ يَجِدْهُ شَيْـًٔا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ" (سورة النور: الآية 39)
ليس كل ما يلمع ذهبا. ولا يدرك ذالك إلا القارئ والناقد الشغوف المحب. وقد تلتبس الصور وتتغير، فكم من كاتب كان نكرة في عصره قابعا في الظل المنسي ثم بعث الله من يبحث في الأثر واكتشفه وصار من الخالدين. وكم من كاتب دبج كتبا كثيرة وأعدت حوله دراسات كثيرة وكتبت كتبه بماء الذهب ثم لا يلبث إلا سنين معدودات ولا  يعد أحد يذكره بعد ذلك. 
أعتقد أن الخلود الأدبي يرتكز علي ركيزتين أساسيتين هما: أولا الصمود وعدم الفناء أو التلاشي مع الزمن وثانيا :قيمة الأدب في نفسه من حيث الفكر والجمالية  .
عندما مات جبران خليل جبران. كتب  ناسك الشحرور ميخائيل نعيمه صديق جبران وخليله كتابه "جبران خليل جبران" عرض فيه لسيرته وأدبه، وقد أثار الكتاب ردودا واسعة. اتهمه البعض فيها بأنه تحامل على صديقه وشوه صورته. ومن هؤلاء طنسي زكا في كتابه "بين نعيمة وجبران" وأمين الريحاني (البلاد/  في بيروت، 6 يناير/ كانون الثاني عام 1934) اللذين رأيا أن نعيمة يسعي لخسف الظلال الوارفة لجبران صاحب التحفة الأدبية "النبي" التي طبقت شهرتها الآفاق العالمية .ومع ذالك بقي جبران رغم عاصفة نعيمة شامخا كأرز لبنان الخالد.
اللافت للإهتمام في الدراسات الكثيرة التي تناولت سيرة جبران ومسيرة إبداعه عند كل من  : خليل حاوي وغازي براكس وطنسي زكا وخالد غسان وجميل جبر ومارون عبود وهنري زغيب وسهيل بشروئي. وبربارة يونغ واسكندر نجار وبطرس حلاق وسمير السالمي. كل هؤلاء وإن تفاوتوا في تبيان ذلك فإن هاجسهم الخفي الذي كان يقودهم نحو جبران لم يكن سوي سحر عبقريته .

ولد بالحياة وعاش بالثورة وقام بالفكر، ولقيمه الروحية الديمومة، وهو متعدد الريادات في الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والتأملات والشعر والنثر

 أسباب الخلود الجبراني في نظرنا تعود إلى عدة عوامل تضافرت وانتسجت فيما بينها. ناسجة عبقرية هذا الكاتب اللبناني الصاحي أبدا في المخيلة. 
ولد جبران في "بشري" موطن السحر والطبيعة الخلابة الجميلة، وكان ذالك عاملا أساسيا في  صقل روحه وتفجير موهبته الأدبية. زيادة على ذالك أنه قد أخذ رصيدا وافرا من اللغة  والثقافة العربية الإسلامية والمسيحية، وكان لظروف حياته العاصفة التي شهدت كثيرا من فقد الأحبة وعدم الإستقرار وشظف العيش أثر كبير في نفسه. ثم إهتمامه بآفاق الفن والرسم، كل ذالك جعل من جبران صاحب أسلوب لا يضاهي وخيال لا يتناهي .
أكثر من عقود مرت علي لقائي الأول بجبران خليل جبران يوم كنت أدرس في ثانوية مدينة الحجر "العيون" جوهرة الشرق الموريتاني  .وقعت في يدي "دمعة وابتسامة" فكانت فاتحة خير مباركة في رفد وتأسيس ميولي الأدبية .ومعها تجبرنت وعندما تجبرنت تمليت الحسن  في "عرائس المروج "ونبذت شرائع الأرض الظالمة مع "الأرواح المتمردة "وصرخت في وجه الكهنة احفظوا عني أنا غيم الصحراء، و"للعواصف "أشرعت صدري في إنتظار الخريف . وبجناحين ناريين شددت علي  كل "الاجنحة المتكسرة" وجبرتها. كفرت بـ "أرباب الأرض" طرا من متألهين وكهنة ومشعوذين ودجاليين .
خطوت خطاي نحو البحر فتحررت .
وخطيت خطي بدرب الرمل والصخر والتيه والنهر والبحر
فكان الرسم والحرف والآية .
وكنت "السابق "لأهل المنكب البرزخي 
لله در الشاعر الموريتاني الكبير أحمدو ولد عبدالقادر
يوم صاغ "صدي الرمل"
قولوا لجبراني أهل العالم الثاني 
لله درك من فان ولافان 
أسكرت بالكوثر الغيبي أفئدة تململت 
بين أقفاص وقضبان .
لكأنه صدي الروح 
كلما أقرأه أقرأني فأسرح بين المكتوب والمرسوم 
في الأفق البعيد أسمع خطاي الوحيدة نحو الأبدية .
وأري جبران بثلاث زهرات عطرة 
الحزن والحلم والخيال . 

gobran
الحالم المتحرر الصوفي الرائي الرومانسي 

إلي اليوم لا أزال أجد ريحه وأجزم أنه أكبر كاتب وشاعر عربي عرفته. هذا الواقف على تخوم الروح كملك من ملوك الرومان الأقدمين. منتصبا في وسط الحياة والوجود. هذا المحبوب المتوهج المتوثب  في القلب. لحرفه كل السحر وإن عد خياليا فهو مفعم بالحنين وتوق الكينونة ومعانقة المطلق والتحرر.
"جئت لأقول كلمتي "
 للكلمة وبالكلمة باق وخالد بتعاليم "مصطفي أورفليس "
هذا الحالم المتحرر الصوفي الرائي الرومانسي 
الشاعر أكثر من الشعر والناثر أكثر من الشعر والرسام أكثر من الرسم هذا 
السادر في البرازخ الشاسعة بين المنظور والمحجوب، بين المنطوق والصامت 
له في النثر والشعر والرسم الحياة والخلود 
ولنا أن ننظر في خالداته التي تركها لنا 
"كبحيرة صافية في ليلة مقمرة" كما يقول .
ولد بالحياة وعاش بالثورة وقام بالفكر. ولقيمه الروحية الديمومة كما قال  سجعان قزي.
وهو متعدد الريادات في الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والتأملات والشعر والنثر.
"جبران القرن الحادي والعشرين / رسالة لبنان إلي العالم .محاضرات المؤتمر الدولي الثالث . مركز التراث اللبناني. 2018 "
إنه جبراننا الأسطورة الخالدة 
صديقنا وخليلنا الذي نعرفه ونحبه ونجله 
ومع ذا وذاك لا نقدسه لأن التقديس في شرعنا ليس لأحد من المخلوقات وإنما للخالق العظيم وحده. ربنا جل في علاه.