جغرافيا ضائعة وقبور لا تنتهي

موت ناقص لم يكتمل بعد، وقصص لا تني تسرده؛ بكل ما فيها من آلام ومواجع  في ديوان آزاد عنز.
حروب إبادة ارتكبت على يد صدام حسين، بحجة حماية أمن دولته القومية، لتبرير فعل القتل نفسه
الموت سيف مسلّط على رقاب الكرد، الذي ضاعوا بين شواهد قبورهم التي ضاعت هي أيضاً، بعد كل تلك الجرائم

في عتبة العنوان
موت ناقص لم يكتمل بعد، وقصص لا تني تسرده؛ بكل ما فيها من آلام ومواجع، فهو - الموت - من يرسم دروب الحياة - في ديوان الشعر "قبور لا تنتهي، حكاية موت ناقصة"، للشاعر آزاد عنز، الصادر عن "دار الزمان للطباعة والنشر"، الطبعة الأولى، 2020، ويقع في 64 صفحة من القطع المتوسط - ويحكم على البشر جميعاً بالنهاية، لتكون كل واحدة منها مختلفة عن الأخرى، ولتضاف إلى الشرائع التي نزلت في وجودنا شريعة أخرى، وقانون آخر هو قانون الغاب، قانون الفناء والاضمحلال، ولتسدل الطبيعة رأسها للأسفل خوفاً منه، ولتصبح مقاليدها مع الروح الإنسانية في يده.
لكن المشكلة الأكبر لا تكمن في وجوده فقط، واختطافه أرواح البشر، بل في البشر أنفسهم؛ الذين يقفون إلى جانبه، ويرتكبون أبشع الجرائم في حق الإنسانية، فتكون الكوارث والتفجيرات وحروب الإبادة العرقية والجرائم التي ترتكب ضد الأبرياء؛ تحت مسميات وذرائع شتى، ليست إلا واهية، تقف في وجه سيرة الوجود، وتمنعها من أن تكتمل وفق المنطق الطبيعي لها، فكم من وقائع حدثت بيد إنسان، وكم من جرائم كانت شاهدة على كل شيء، لتتحقق مقولة إن تاريخ العالم أو البشر هو تاريخ الشرّ والقتل، وإن الفطرة الإنسانية تميل بطبيعتها إلى العنف، وارتكاب الجرائم والقتل، لتباد بسببه بعد ذلك أعراق بشرية، ويفقد الكثير حياته نتيجة ذلك، فما إن تبدأ جماعة بشنّ حرب نحو أخرى، حتى تمارس فعل الموت عليهم علانية، ومن دون رادع، أو خوف.

أينما يمموا وجوههم يلاقون الفناء يترصدهم على الدروب، وفي كل مكان، ليضيع الجميع معاً في أفق لا ناهية له، ويبقى الموت سيفاً مسلّطاً على رقابهم كل لحظة

ويستشهد الشاعر بسورة من القرآن الكريم في بداية ديوانه، جاعلاً منها مدخلاً لفكرته التي يتناولها بالتفسير للكثير من الجرائم التي وقعت بيد البشر، "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (41) نزلت السورة بعد البسملة، وانتهت مختومةً بصدق الله بعد غزوة بدر الكبرى لتوزيع الغنائم؛ فتحايل الزعيم العراقي صدام حسين على قسمة الله وشرعه، وأوّلها على مقاسات بنادقه، ومقاسات أجساد أكراد العراق، كلّ جسد كرديّ له نصيب من رصاصة متديّنة، كلّ جسد كرديّ له شاهدة قبر ضائع؛ تنتظره على أرضٍ ضائعة؛ ليضيع الكرديّ بين شواهد قبوره الضائعة.
ليبين بعد ذلك حروب الإبادة التي ارتكبت على يد الزعيم العراقي صدام حسين، بحجة حماية أمن دولته القومية، لتبرير فعل القتل نفسه، وجعل الموت سيفاً مسلّطاً على رقاب الكرد، الذي ضاعوا بين شواهد قبورهم التي ضاعت هي أيضاً، بعد كل تلك الجرائم، والأعداد الكبيرة التي قتلت، فلا تكون لتلك القبور نهاية؛ كما دلّ عليها عنوان الديوان؛ فهي لـ (لمقاتلٍ- لطفلٍ - لطفلةٍ – لجائعٍ – جزار - لبائع تبغ – تاجر - عامل إطفاء - بائع ورود - صانع عطور – مدرّس – بستاني – موظّف – قاض – مقاتلة – نائم - حفّار قبور.... وغيرهم).
أسوار الحلم
رغم كل تلك الآلام التي رفعت رأسها دفعة واحدة، وفي أيام معدودة واحدة أيضاً، تعيد ذكرى المجازر التي قتل فيها الكثير من أبناء الشعب الكُردي، إلا أن الأحلام تحاول كلما أمكنها ذلك من أن تضع حدّاً للألم، وتنفك من أسرها، وتبحث عن فردوسها المفقود في رحاب الدنيا الواسعة، لأن تلك الأنفس التي قتلت كانت كل واحدة منا تحلم بشيء يخصّها في حياتها القادمة، إلا أن الموت سطا على كل شيء، ومنع تلك الأحلام التي مازالت تصارع لتعيش، من أن تأتي، لتمتلئ بعد ذلك الجغرافيا بالقبور، والشواهد، ولا يعود هناك من مكان شاغر لنصب شاهدة قبر جديد.

شعر
مقصلة الموت التي لا ترحم

فالمكان قد أخذ كفايته من الأجساد، التي سكنت بين ليلة وضحاها ذلك العراء المفتوح على غاربه لكل مفاجأة جديدة، بسبب الظروف التي مرّ بها الكُرد، والمحن التي توالت عليهم، منذ تلك الأيام حتى اللحظة الراهنة، حينما بدأ القتل بطريقة أخرى، وعلى يد حاكم آخر، هو الزعيم التركي الحالي رجب طيب أردوغان، الذي جعل كل قبر مرة أخرى يحمل شاهدته، ويزحف نحو أرض جديدة، هارباً من الموت والقتل، بعدما قامت قواته بالزحف نحو الشمال، شمال الألم والقلق والحزن، وأيام البرد والشتاء الطويلة التي لم، ولن ترحم أحداً، لينهش من أجسادهم، ويتركها تحت التراب تعاني من البرد والخوف، شمال الجهات المفتوحة، والمقاتلين العابرين نحو كل الدروب في ترابها المتعب مثله، ومثل أبنائه الذين ملّوا لغة الحديد والنار، وأخذوا يسلكون جميع الطرقات بحثاً عن الخلاص، فيحط بهم الرحال في جميع دول العالم، ناقلين الحكاية كلها، بتفاصيلها المملة عبثاً، فلا الشكوى نفعت، ولا الشتاء كفّ عن ملاحقتهم، في بحر نال منهم هو الآخر، ليصبحوا فريسة النقل والترحال والاغتراب، كل ذلك من أجل أن يؤكد الزعيم بأنه خليفة الله على الأرض، وبأنه الآمر والناهي باسم الدين، ويرتكب الجرائم أيضاً باسم الدين، ولتبقى تلك الجغرافيا تنشد النهاية التي لن تأتي، ويبقى البشر يدورون في حلقة مفرغة، فكلما انتهوا من عدوان يأتي آخر، وكلما انتهت جريمة تحلّ أخرى محلّا، وكأن الموت قد اختار لهم هذا القدر، لتتلاحق سلسلة المجازر خلف بعضها البعض كبّات مسبحة تجرّ إحداها الأخرى، ويعاني الكُرد من الموت في كل مكان.    
جغرافيا امتلأت بالقبور، جغرافيا امتلأت بالشواهد، لم تعد هناك مساحة شاغرة لنصب شاهدة جديدة، عندها بدأت القبور تبحث عن أرضٍ شاغرة لتقيم عليها شواهدها، فحمل كل قبرٍ شاهدته، وزحف على ركبتيه من جنوب كردستان إلى غربها، ووقف على الحدود ينتظر العبور، حتى انتهى الزعيم التركي رجب طيب من تلاوة سورة الفتح: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)". أنجز الترتيل بعد البسملة وختمه بصدق الله، وشرح الفتحَ، وأوّلها على مقاسات سيوفه، ومقاسات رِقاب الأكراد، وبعد الانتهاء من التأويل، أذِنَ للقبور بالعبور، فكانت الأرض تنتظرهم.
المرقى إلى الجلجلة
صعب جداً هو الهدف الذي يسعى خلفه هؤلاء البؤساء، فأينما يمموا وجوههم يلاقون الفناء يترصدهم على الدروب، وفي كل مكان، ليضيع الجميع معاً في أفق لا ناهية له، ويبقى الموت سيفاً مسلّطاً على رقابهم كل لحظة، فتكون كل تلك الشواهد لـ: "قبر ضائع، لقتيل ضائع، أضاع كلّ منهما الآخر، على جغرافيا ضائعة". ويكون القلب مفتوحاً للنزف في كل لحظة أمام مقصلة الموت التي لا ترحم.