علاء زريفة .. ذاكرة تحتاج إلى عوالم رحبة

الحب هو ما دفعني للكتابة الشعرية، ولا أدعي أنه كان شعراً صرفاً بقدر ما كان تعبيراً تعويضياً لتأريخ تجربتي العاطفية.
لا أستطيع أن أنكر أثر الشاعر محمود درويش الذي لا زلت لم أبرأ من ظلاله الشعرية على قصائدي
الشعر محاولة للحفر في طبقات الذات للوصول إلى الأنا الأولى الفطرية التي تم تعديلها ثقافياً وتقليمها لتبدو مهذبة ومقبولة مجتمعياً

ينطوي الوعي الذاتي لدى الشاعر على أبعاد متناقضة يتسع لها المكان، والزمان، ويجعلهما مسرحاً ومظهراً له، ويجسّده في كافة المستويات، يتمكن من تجاوز حدود وجوده وتموضعه، ويرتقي بوعيه نحو عوالم مفتوحة، وآفاق رحبة، لأن الذاكرة نفسها تحتاج إلى تلك العوالم، لتستطيع التعبير عن تجربة حياتية عميقة، بعمق المعنى الروحي الذي يستوعب المتناقضات في الحياة.     
والسؤال المهم جداً، والذي يتمحور حول من نكون؟ هو سؤال وجودي قديم قدم التجربة الإنسانية ذاتها، وهو ما يمنح المشروعية للكتابة الشعرية، فالشعر هو محاولة للحفر في طبقات الذات للوصول إلى الأنا الأولى الفطرية التي تم تعديلها ثقافياً وتقليمها لتبدو مهذبة ومقبولة مجتمعياً. 
ويقول الشاعر السوري علاء زريفة في حوارنا معه: ربما أميل اليوم إلى تفسيرات الأنثروبولوجيا النفسية من خلال مطالعاتي للعديد من المؤلفات في هذا المجال؛ لا سيّما "العنف والمقدس" للفيلسوف الفرنسي لرينيه جيرار؛ لذا يمكنه القول إنه يحاول ما استطاع تعويم الغضب وإحساس المسكنة الموروثة بحكم انتمائي بالإكراه لأقلية، والعبور نحو الإنساني الرحب، والكوني العام، برأيي الشخصي لا يمكن للمنهج الخطابي الشعري السابق إلا أنه يكرس مفهوم الجماعة ووعيها، وبالتالي مهمة الشعر اليوم تعزيز حضور الإنسان بفردانيته على حساب انتمائه أياً كان.
وفي التجربة الشعرية للشاعر محطّات حياتية يمرّ بها، وتؤثر في تلك التجربة، يحدثنا الشاعر علاء زريفة عن أهم المحطات التي ساهمت في إغناء تجربته الشعرية بقوله: إن الحب هو ما دفعني للكتابة الشعرية، ولا أدعي أنه كان شعراً صرفاً بقدر ما كان تعبيراً تعويضياً لتأريخ تجربتي العاطفية التي عززتها استحالة العلاقة، وعدم مقدرتها على الصمود بوجه المحرمات المجتمعية المتعفنة، فشلي في هذا الإطار دفعني إلى تمزيق كتاباتي الأولى، وحرقها كنوع من التطهر من آثار فتوتي بكل جنونها وثوريتها، ولكن تلك الندوب والرغبات والهواجس ظلت مدفونة في داخلي. 
هذه النار الخبيئة الرافضة لكل ما هو موجود أعادتها إلى الاشتعال حالة الحرب القائمة في البلاد منذ تسع سنوات حتى اليوم، حيث كنت أرى بأم عيني انهيار كل إنساني ووجداني وموته في سبيل صراع دموي، كان الخاسر الأكبر فيه الإنسان بكل أحلامه وتمرده وحريته التي أحالها الموت إلى شظايا ممزقة، حيث أصبح الوطن بكل هوياته المختلف عليها جغرافية من النار المستطيرة، والتي لم يسلم من شرها أحد، لذلك كانت الكتابة سبيلاً للخروج من هذه الجحيمية.
وعن التجارب الشعرية التي أثرت في حياته، وساهمت في صقل تجربته الشعرية، عبر مطالعته لها، يروي لنا قائلاً: أدين للكثير من الآباء الشعريين، ولا أجزم أن قتلتهم تماماً؛ فأنا لا زلت في سن مبكرة نسبياً؛ رغم أن ذاتي الشعرية تقاوم بعناد، وأحاول الحفاظ على المادة الخام والإلهام الصرف؛ عبر الاشتغال على النص الشعري وإعادة كتابته مرات ومرات قبل أن يأخذ شكله النهائي، بحيث لا أكون سوى أنا. ففي البدايات كنت أقرأ نزار قباني بنهم، والذي أعتبر تجربته منعطفاً أولاً قادني فيما بعد نحو العميق والفلسفي في الشعر.
رغم ذلك وبحكم حداثة تجربتي لا أستطيع أن أنكر أبداً أثر الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش الذي لا زلت لم أبرأ من ظلاله الشعرية على قصائدي؛ هذا تجده بشكل واضح في مجموعتي الأولى "المسيح الصغير"، كذلك الشاعر والمفكر أدونيس صاحب الفضل الأكبر على التجربة الحداثية العربية، إضافة لقراءات متنوعة لعديد الشعراء أمثال محمد الماغوط وإبراهيم الجرادي وأمل دنقل، وشعراء غربيين، أبرزهم ارتور رامبو؛ لا سيما في مؤلفه الشهير "فصل من الجحيم" وبودلير، إضافة لوالت وايتمان في "أوراق العشب"، لكن أبرز من تماهيت من جنونه وتطرفه شعرياً كان تشارلز بوكوفسكي.  

أما عن دواوينه الشعرية الثلاثة، (شيطان - شوكولا - المسيح الصغير)، والتي اختار عنواناً يتألف من كلمة واحدة في آخر ديوانين، يخبرنا الشاعر عن سبب ذلك قائلا: لا. أعتقد أن استخدام عنوان، أو وسم بمفردة واحدة مقصود، وجاء بمحض الصدفة، ولكن الدلالات بالتأكيد تحمل روح كل كتاب ومضمونه الفلسفي، ومن جانب آخر لضرورات الإشهار والدعاية؛ فيكون مستساغاً وسهلا ومثيرا للجدل؛ بحيث يكون العنوان كعتبة أولى مغرياً لتفكيك العلاقة بين الوسم والدلالة والنصوص، وهذا طبعاً مهمة القارئ بعد (موت مؤلفه) افتراضياً.
وتندرج أغلب قصائد ديوانه "شوكولا" تحت عنوان عريض وهو الموت، عن الدافع الذي دفعه إلى ذلك فيما إذا كان حالة مدروسة واعية ومخططة منه، أم أن الحالة الشعرية، والواقع الحياتي دفعا بأن تأتي مقولة العمل تحت هذا المسمى، ينقل لنا رأيه بقوله: نعم هناك ربط بين مفهومي اللذة كقيمة معادلة للموت بشقيه المعنوي والمادي؛ كونه شرطا موضوعيا مقابلا للحياة، ومن هنا جاء العنوان "شوكولا" التي هي شكل من أشكال العبودية المحببة، وتشبيه بلاغي يوازي الإدمان؛ إدمان المحبوب.
الحب بطعمه الحلو والمر، بعذاباته المستساغة وإحساسنا الممتلئ بالحياة، والسير الدائم على حافة الهاوية، وكأنك تنتحر، ولكن الشعر ولكونه (انشغالاً عن الانتحار) كما يقول تنكراز، يبقيك في حالة من انعدام التوازن واللاوعي، والعيش في الحلم، أعتقد أن هذا اللاتوازن والانفعال المعاش بكل لحظة تجده كملمح في كل نصوص الكتاب، لكني لم أتقصد ذلك، بقدر ما قادني إليه التماهي مع ما كنت أعيشه جراء العشق المجنون، تركته يكتب نفسه بقدر ما يكتبني.
هناك محاولة للربط في أعماله بين الماضي والحاضر والمستقبل، وعن رغبته في ألا تتجاوز الحالة به ذلك، وسعيه إلى خلق عالم خاص به، يتجاوز مفهوم الزمن؟ ويوحّده في كل واحد، ويجعله يتماهى معه في كل واحد يعتقد الشاعر أن هذا الأمر جزء من لعبة الشعر نفسها؛ فالشاعر الذي لم يتجاوز وعيه الجمعي، ويمارس قطيعة معرفية مع ما هو قائم، لا يعدو أن يكون مكرساً لخطابية إيديولوجية لا تغني ولا تسمن من جوع.
ولذلك فالتجاوز قيمة تحقيقية لبلوغ المعنى الاستشرافي أو النبوي المتضمن بجزء كبير منه الجانب الفحولي كنبيّ، أو بطل خارق أو خالق للعالم.
ينبغي على الشاعر في هذا المضمار أن يمزق هذه الطبقات الكلسية التي تغطي ذاته للوصول لروح الشعر، وبالتالي نفسه، أو اصطلاحاً جيناته الشعرية الخاصة، وهذا نتاج عمل وجهد كبيرين، وأنا لا زلت أسعى في ذلك، ولا أدعي معرفة كاملة بنفسي؛ فالحقيقة هنا أو الإثبات توازي الموت والفناء.
لكلمات التمزّق، الضياع، الاغتراب الروحي، الألم، وجود كبير في قاموسه الشعري ونصوصه، يبين لنا علاقة ذلك بالواقع الذي يعيشه، ويعايشه كل يوم، قائلاً: هذه المفردات جزء من واقعنا السوري المعاش قبل وبعد الحرب، لا يمكنني أن أكون منفصلاً عن هذا الخراب بكل تجلياته؛ خراب الروح، بماذا يمكنك أن تشعر وأنت تشاهد هذا الحطام والقهر والخلود للضغينة والحقد، وعودة الفرد الخائف إلى قطيعه الأول الطائفة والعشيرة والإقليم؛ أليس لأنه خسر وعيه الأكبر ووطنه الإنسان؟
ألوذُ بعبارة لسيوران: "أربعون ألف سنة من لغة الإنسان، ولا يُمكنك أن تجد حرفًا واحدا يصف الشّعور الّذي بداخلك تماما"! 

Conversations
الحضور الجمعي لذوات متعددة حرة

والموت والحياة إشكاليتان عنده، ولديه رغبة في تحويل الموت والفناء إلى حياة، يوضح سبب ذلك بـ: هذا أيضاً جزء من اللعبة؛ لعبة شعر، وأسئلة الوجود المرتبطة بكل ما هو مقدس إنسانياً، وجزء التضادات الميتافيزيقية التي حاول الإنسان مذ كان يسكن في كهفه الأول يحاول أن يجيب عليها، ولكن في ظل واقعنا الراهن محليا وعالمياً، وغلبة القسوة والدموية والتوحش على المشهد الإنساني عموماً؛ أقول إن الأدب مخلف من مخلفات الحرب، وصار الإنسان جزءا من تموضع عنفي، ينشد وعيه الخاص خارج هذا الصراع الدموي الرهيب، ولزاما سيكون بمعناه الفضفاض ضحية حرب لم تمت تماماً، عودة لوجه متعب محقون بالقهر تكسوه الأتربة، ووحل الطريق الطويل، ساعيا  نحو وطن واحد ربما يبعث، ويريد الخروج حيا ببقاياه من موت بطيء مقيم، هذا الموت بصيغته الحية أعتبره ثوريا؛ لأنه يمثل طموح الفرد بمواطنته الحقة، فما عاد يموت المواطن لأنه مذنب، لكنه في حاجة للموت ليؤكد ذاته كمواطن. ولذلك تكون حريتنا أن نموت كما نحن نشاء ونحيا أيضاً.
للمرأة وإشارته إليها في ديوانه "شيطان" قيمة كبيرة، وعن سبب ذكرها لها أكان ذلك لمجرد الزينة اللفظية، أم أن لها بالفعل كياناً روحياً تسعى إلى التعامل معه على هذا الأساس، ينقل لنا رأيه: لا أرضخ عادة للتصنيفات الجنسية رجل وامرأة، أنا أتعامل مع الكائن الإنساني ككل، وأرى أن جزءا من إشكالية العلاقة بين الجنسين واستمرار استعباد المرأة هو نتيجة طبيعية لاختزال دور الذكر في بطولة زائفة تقوم على أساس لاهوتي ديني، ما لم يتحرر الذكر/ الرجل من هذا القناع لن تتمكن المرأة من التحرر أبداً.
في ديواني "شيطان" هناك تهكم وسخرية من المفهوم والطبيعة التصنيفية المزيفة؛ وربما هناك جلد لذات المرأة في مكان ما لغاية استفزازية؛ الغرض منه تحفيز المرأة على الثورة على دورها الوظيفي كجارية متعددة الأوجه، وإن كانت تظهر حداثية في بعض منها.
وفي دوافع تركيز نصوصه على الثقافة ونشر الأفكار، وهل بإمكان الثقافة بواقعها الحالي - والمثقف أيضاً - القيام بدورها في زمننا الحاضر يقول: لا أؤمن بنص أدبي أياً كان جنسه لا يقدم قيمة معرفية، ولا يتداخل في صراع فلسفي مع مثبتات تاريخية أو دينية، طبعا اللحظة الشعرية وسطوة الإلهام، ومن ثم الاشتغال الشعري كأدوات تلعب هذا الدور في إخراجه كباعث تنويري وجزء من عمل الثقافة عموماً.
بالنسبة للثقافة اليوم، وأتحدث عن سوريا؛ أستطيع القول إن الكتابة في العالم العربي أشبه بعملية ممانعة مستمرة ودائمة ضد الرقابة، المبدع العربي يكتب وهو يعلم أن هناك مسدسا مصوبا إلى رأسه، فالتابو أو الخط الأحمر موجود دائما، والمحرم بشكله السياسي والديني والفكري حاضر، رغم أنه يتم تجاوزه لأغراض الدعاية السياسية المارقة التي تأخذ طابع التنفيس والتهريج و(فشة الخلق) في بعض الأحيان؛ كالذي نشاهده في الكوميديا والدراما غالبا. هذا النقد الذي لا يتجاوز الرمز المقدس كفكر اجتماعي صرف، والذي يراعي حدوده الرقابية ويتلمس حائطه.
ويذكر لنا سبب تسمية ديوانه الأخير بـ "شيطان"، ودواعي إسقاطه لبعض الرموز الشعرية في نصوصه على الأب، أو الأم فيه، يستقي فعل الرفض الثوري جدواه المحاكي لواقع بائس مخلوق على الخطيئة واللعنة المسبقة. سلفاً حاولت أن أقدم نصوصاً أشبه بالصفعات المدوية التي تنتهي بارتكاب الجريمة الإبداعية الأجمل بقتل الأب ببعديه المادي والمعنوي، محاولاً الاتكاء حسب آرثر رامبو على جماليات القبح وأنسنة الموجود أو "الديزاين" - الكائن الإنساني، وتقديسه على حساب السماوي الذي مات واندثر!
دون أن يدعي معرفة ثابتة مطلقة، ولا أن يكون تطهيرياً بالمعنى الأرسطي، أو انفعالاً تسجيلياً لمصير مأساوي لبطل تراجيدي، بل التطهير الذي ينجم عن مشاهدة العنف يشكل عملية تنقية، وتفريغ لشحنة العنف الموجودة مما يحرره من أهوائه، ويبث فيه روح التغيير الواعي، الذي يعززه الحضور الجمعي لذوات متعددة حرة. وأحاول أن أرتدي قناع الفطري العنيف.
ولذلك فيه نوع من الجريمة الإبداعية؛ قتل الأب أو النموذج الثابت، فمعظم قصائد الكتاب وكتاباتي عموما تتسم بالجرأة والتهكم الساخر من الواقع، والتجاوز الدائم "للتابو" والمحرم؛ يأخذ لديّ شكلا مغايرا تماما عن السائد عرفيا في المشهد الثقافي العربي الذي ينحو نحو الطبطبة والرقص الثقافي والتدجين وتضخيم الطوطم بالمعنى الدقيق للكلمة.
أعتبر نصي انتحارياً؛ فأنا أمارس الكتابة كفعل موت كامل؛ فالشعر كما يقول ريلكه: «لا تكتب الشعر إلا حينما تشعر بأنك ستموت إذا لم تكتب». في رسالة لأي شاعر شاب في بدايات تجربته مثلي.