"جويف" في عروض مسرحية في تونس وفرنسا

المسرحية من إنتاج مركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان عن نص وإخراج حمادي الوهايبي.
لعبة الفن الباذخة حيث لا مكان لغير القول بعين القلب
ديكور جميل ستارتان بأحرف عبرية وتلوينات تجريدية وفي الجهة اليسرى للركح "البنك" للجلوس والحديث

الفن هذا الآسر والمحير حيث الأسئلة المربكة ارباك حياة وواقع وفق تحولات وتبدلات رهيبة ومذهلة منذ أزمنة أولى.  وهنا يمضي الفنان المفعم الصفاء النادر لا يملك غير فنه ينحت به ومنه هبوبه وملاذات خلاصه.. خلاص الآخرين.. بنواحه الخافت ودهشته العالية كعصفور يرسم بريشه الناعم نوافذ أخرى للخلاص المبين.
هي لعبة الفن الباذخة حيث لا مكان لغير القول بعين القلب. هكذا عرفناه.. طفلا بحجم الحلم وشاعرا برائحة الشيح يدعو الصخور لتتنحى كي يمر الشاعر الذي ذهب بالشعر من تلك الأزمنة إلى المسرح الآن وهنا. هذا هو السر الذي نفهم منه شعرية حلم الأعمال المسرحية التي يروم حمادي الوهايبي خوضها وإنجازها. هاجسه المسكون به نحو الاختلاف عن السائد. حمادي في مسرحياته هذه يحلم بلون مسرحي آخر مخالف للسائد به شاعرية من الديكور إلى الشحنة والحركة والفضاء وكذلك النص.
خامرني كل ذلك وأنا أجلس بكم هائل من النظر والتأمل والاستمتاع قبالة العمل الكبير والمغامر والشجاع "جويف" بالقاعة الكبرى للعروض بالمركب الثقافي أسد ابن الفرات بالقيروان حيث جمهور مهم في إصراره على متابعة العرض ومعانقته إلى ما بعد منتصف الليل في يوم قيرواني من هذا الصيف الحار..أمتع وأبدع فريق العرض "جويف" في شؤون الآداء بالنسبة للممثلين والإنارة والأضواء والموسيقى والديكور الرائع وأكثر من ذلك الحكاية والرواية... شجن وأحوال وأحداث ودراما وإبداع وبراعات لحركات الجسد والقول .
كان هذا في افتتاح الدورة 23 لمهرجان ربيع الفنون الدولي بالقيروان.. يحضر المسرح ولا غرابة في ذلك، فالقيروان أرض الشعر والمسرح والفنون المجاورة والمتحاورة.
عرض مسرحية "جويف" من إنتاج المركز الوطني مركز للفنون الدرامية والركحية بالقيروان عن نص وإخراج لمديره الفنان القدير حمادي الوهايبي ومساعد مخرج لطفي بن صالح ودراماتورجيا لحمادي الوهايبي وحسام الغريبي وتمثيل كل من  حسام الغريبي وفاتحة المهدوي ومحمد السايح وسامية بوقرة ويسرى عيّاد وهيبة العيدي وموسيقى خموس باتريك سلامة، والتقنيون طه الجباري وشعيب بشر وغسان جاء وحده والصادق القيزاني.
ديكور جميل ستارتان بأحرف عبرية وتلوينات تجريدية وفي الجهة اليسرى للركح  "البنك" للجلوس والحديث لينقلب بفعل الرغبة في الرقص والغناء لتبرز التداعيات في سينوغرافيا تضعنا في قلب الثورة التونسية الدخان والهتاف والعواصف التي تظهر معها حالات خوف وأسئلة ليهود تونسيين عن واقعهم ومآلهم  تجاه متناقضات وإرباكات بين استمرارية تعايش بهم ومعهم وتهديد لمصائرهم وهذا من تلوينات التعاطي المختلف الذي عاشته تونس المتسامحة في تحولات سياسية مختلفة منها ما يعيدنا إلى الهزائم العربية وبالخصوص حرب 67 التي عايش فيها اليهود التونسيون نفس الحالة ومنهم من غادر تونس، ولكن في المسرحية يتم التعاطي مع واقع اليهود الثقافي والاجتماعي والسياسي بتونس لتغلب سمة التسامح ولكن الجرأة والشجاعة في "جويف" تكمنان في كشف النوايا والأفعال المريبة للبعض من اليهود على غرار "ميمون" الذي تشغله جريمة تهريب ما هو ثمين من تراثنا و ثقافتنا " نسخة نادرة من التوراة تعود الى 500 سنة.

Tunisian Theater
من الوعي الجمعي والثقافة الشعبية 

وقد نجح في هذا الدور بامتياز الفنان المبدع حسام الغريبي طبعا بقية الممثلين أبدعوا في الأداء تناغما مع المتطلبات الجمالية والفنية للعمل .ومن هنا نفهم ما قاله مخرج العرض حمادي الوهايبي بخصوص ما لاقاه إنجاز المسرحية من نقد وحتى ترهيب في الأوساط الإعلامية الصهيونية.
تجربة تونس وخاصة مع يهود جربة وحارات تونس العاصمة وحلق الوادي ولافيات ... وغيرها في صميم المسرحية. فـ "‬عزيزة"‬ ‬يهودية‬ ‬مغربية ‬و‬تونسية ‬مسلمة تبرز ذلك في دورها. و"‬ميمون"‬ الأركيولوجي عالم الآثار ‬دوره استعماري عدائي ومريب ويفشل في إقناع اليهود بالهجرة ومغادرة البلاد التونسية. هي لعبة المسرحية في الفصل البين بين المواطنة والتعايش والتسامح من جهة والغدر والعدوان من جهة أخرى.
اشتغال فني وجمالي على حيز من طبيعة العلاقة بين المسلمين واليهود في تونس انطلاقا من الوعي الجمعي والثقافة الشعبية من خلال فكرة  "يهودي حشاك"  مثلا . هكذا تبدأ المسرحية التي دامت حوالي ساعة و 15 دقيقة  .
حمادي الوهايبي الشاعر والمسرحي في رحلة المسكوت عنه حيث العمل المقدم "جويف" بمثابة الكتاب الجامع لحيز من الأسئلة والحكايات والتأملات والقلق لواقع وحقبة وثقافة ومتغيرات ووجدانيات . وغيرها كل ذلك بمتعة الفن المسرحي وجمالياته بعيدا عن الضجيج والافتعال والتهريج. المسرح هنا فن وحرقة وذهاب للأقاصي. 
مسرحية "جويف" بعد عروضها التونسية ومنها مهرجان قرطاج للمسرح وربيع الفنون الدولي بالقيروان وغير ذلك تنطلق في جولة عربية ودولية لتقديم جملة من العروض ومنها بالخصوص عرض بمسرح لوديون بفرنسا .