حالة الشعر العربي: خلاصات ونتائج

التجارب الشعرية أصبحت تتلاقح، وتتنافذ، وتنفتح على بعضها البعض في مختلف الأقطار العربية.
انتقال بعض الشعراء إلى كتابة الرواية، أو على الأقل مزاوجتهم بين الكتابتيْن
الشعر يظل أكثر فنون القول التصاقا بهواجس الفرد وعالمه الداخلي الذي يعج بالحنين والتحدي والإحباط

من خلال عرضنا السابق (في ثقافة ميدل إيست أونلاين) لثلاثين بحثا عن حالة الشعر العربي في الأقطار العربية كافة، نستطيع أن نستخرج بعض النتائج العامة التي تشخّص حالة الشعر العربي الآن، والتي يمكن أن تكون مرشدا وهاديا للمستقبل القريب لهذا الشعر، وقد اتفق معظم الباحثين والنقاد الذين استكتبتهم أكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف السعودية لتشخيص حالة الشعر العربي في الأعوام الأخيرة، وخاصة عام 2018 على ما يلي:
ـ التجارب الشعرية أصبحت تتلاقح، وتتنافذ، وتنفتح على بعضها البعض في مختلف الأقطار العربية، وإذا كانت هناك فنون أخرى قد زاحمت الشعر، فإنها لم تستطع أن تحل محله. وفي الوقت نفسه أفادت القصيدة الحديثة تقنيات جديدة لم تعرفها من قبل كفن المونتاج واالفلاش باك، وتقنية الدراما التصويرية والدراما المشهدية، والكولاج، والسيناريو. وظهرت قصيدة الومضة أو القصيدة البرقية، وقصيدة اللوحة (أو تداخل الشعري مع الفن التشكيلي)، والقصيدة التفاعلية التي تمثل ذورة الانفتاح على الأجناس الأدبية والعلوم الأخرى.
ـ ساهمت الطباعة الحديثة ودور النشر والشبكة العنكبوتية في شيوع الشعر وجعله في متناول القاري والناقد، وأصبح معظم الشعراء ينشرون كثيرا من نصوصهم في الشبكة العنكبوتية، ورغم ذلك فإن النشر الإلكتروني لن يكون بديلا للنشر الورقي، رغم أزمات النشر الورقي.
ـ لاحظنا أنه عند ذكر التجارب الشعرية التي اتخذت من التقنية الرقمية سبيلا لها، لم نجد سوى اسم واحد أو اسمين فقط يدوران في فلك الأبحاث وهما: العراقي مشتاق عباس معن، والمغربي منعم الأزرق.
ـ استفاد الخليج من وجود عدد من الباحثين العرب في الجامعات والمؤسسات البحثية، ومشاركتهم في المؤتمرات والندوات في الخليج.
ـ الشعر العربي الراهن يمثل ما تطرحه الذات العربية من إشكالات وجودية مرتبطة بواقع مجتمعاتها، فلم يعد الشعر منشغلا بالقضايا الاجتماعية والسياسية التي انشغل بها نظيره في العقود السابقة، فانشغاله الأساس أصبح تأمل الذات في كوامنها أو في علاقاتها سواء بالوجود أو بالعالم أو بالآخر، مما أدى إلى ابتعاد الشعراء عن التفاعل مع حركة مجتمعاتهم وقضاياها الكبرى، وجعلهم ينتجون نصوصا لا تنجح في خلق تواصل مع قارئ يبحث عن الخيط الذي يرشده لفهم النص والاستمتاع بجمالياته.
ـ نشأة جيل جديد منقطع مرجعيا عن شعراء القرن الماضي، وهو الجيل الذي يجرب كل أشكال الكتابة من دون عقدة إجناسية، ولا تموقع أمام الأشكال الكتابية، وهو ما يمثل اختراقا إبداعيا داخل المنظومات المغلقة للشعراء المكرسين.

الشعر العربي استفاد من انفتاحه على شعر العالم، أو تنافذه الشعري، مثل ما نجده من أصداء الهايكو الياباني، ومن تيمات فلسفية وجودية، ومن التاريخ والأسطورة، وغيره

ـ يلاحظ أن هناك رؤيتين متناظرتين للحداثة الشعرية تسيران نحو المستقبل في اتجاه واحد، ولكن بسرعتين مختلفتين: رؤية تقليدية تنادي بالانتصار للشعر العمودي والمحافظة عليه، وترجيح كفته بالوقوف في وجه النماذج الكتابية المتحررة من الوزن والقافية وتساوي الشطرين، ورؤية حديثة تحاول أن تستجدي التجارب الغربية والعالمية في أقصى ما يحققه التجريب في الفكر الإبداعي العالمي على الرغم من العوائق التي تقف أمام الاختراق السلس للبنيات التقليدية للثقافة العربية.
ـ أثبت واقع النشر في العالم العربي أن قراءة الشعر في تراجع مستمر، وأن هناك تراجع في منشورات الشعر ونقده، وأن الإعلام لا يفي الدواوين الشعرية حقها. وأن الشعر ينتعش في حلقات ضيقة، حيث إنه لم يعد جماهيريا، مع انحسار "المهرجانات" الشعرية الكبيرة، ويبدو أن الجمهور فقد شغفه القديم بالقصيدة.
ـ انتقال بعض الشعراء إلى كتابة الرواية، أو على الأقل مزاوجتهم بين الكتابتيْن، مما يُعتقد معه أن هذا الانتقال قد يفيد الرواية، وعلق أحد الباحثين قائلا:  إنه موسم الهجرة إلى الرواية، ولكنه يعود فيقول: مع كل ما يقال عن الرواية وصعودها الراهن، يظل الشعر أكثر فنون القول التصاقا بهواجس الفرد وعالمه الداخلي الذي يعج بالحنين والتحدي والإحباط.
ـ اعتماد بعض الشعراء على النصوص الشعرية القصيرة جدا، وما يلزمه من تكثيف النصوص واختزالها في شكل لمحات وإشارات، وهو ما أسماه بعض الباحثين بـ قصيدة الومضة التي شملت قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة.
ـ لم تعد أغلب القصائد تسير نحو التصنيف والوقوف على الغرض، إذ باتت أكثر تعقيدا وأشد تشابكا، فباتت بنت التأويل وعدم التمكين، أي لا تمكن القارئ منها عبر آليات الغموض والترميز التي تبوح ولا تقول، وتلمح أكثر مما تصرح.
ـ تنازع الشعر العربي فنّان السرد والشعر العامي (اللغة المحكية) وربما استطاعا أن يسحبا البساط من تحت الحضور الطاغي الذي ظل الشعر يتمتع به لقرون سلفت، حيث لوحظ الرواج والحضور الطاغي للسرد/ الرواية باعتباره فن التفاصيل.
ـ لوحظ أن عدد النساء من الشواعر بات كبيرا إذا قيس بالفترات الشعرية السابقة، على مستوى الوطن العربي، وبظهور الأصوات الشعرية النسائية أصبح للشعر واقعا أقوى.
ـ لم يحظ الشعر الصوفي بالحضور اللافت في التجربة الشعرية في منطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية، مثلما حظي في مناطق أخرى، مثل مصر والسودان.
ـ على الرغم من انتشار قصيدة النثر، وهيمنتها على المشهد الحالي، فإن كتاباتها جاءت باهتة، ولم تؤصل تيارا شعريا واضحا، بل أن معظم الشعراء الذين كتبوا قصيدة النثر، لم يخلصوا لها، إذ أنهم سريعا ما ارتدوا إلى قصيدة التفعيلة أو العمودية أو تسربوا إلى عالم السرد، وخاصة في منطقة شبه الجزيرة العربية والخليج، بينما اعتقد أحد المتابعين أنها قوضت البناء التفعيلي، ورأى باحث آخر أنه من الخطأ الفادح تصور انفصال الإيقاع في قصيدة النثر انفصالا كاملا عن إيقاع الشعر العربي، بينما قال باحث ثالث إن ثمة من يدافع عن قصيدة النثر وكأنها بنت اليوم، متناسين حقيقة كبرى أن هذه القصيدة قد شبّت عن الطوق منذ زمن بعيد، وأن الدفاع عنها يكاد ينحصر في الأجيال الجديدة من كتابها فقط، خوفا من مصير ما، يترصدهم مع كل نص جديد يكتبونه.
ـ يشكل التناص بما يعني من تداخل النصوص وتعانقها ملمحا أساسيا في المدونة الشعرية العربية. ومن أكثر النصوص حضورا في التجربة الشعرية هو النص القرآني.
ـ المتنبي يعد من أكثر الشعراء دورانا وحضورا في التجربة الشعرية العربية.
ـ أغفلت بعض التقارير ذكر أسماء شعرية وتجارب مهمة في محيط منطقتها، مما يشي بعدم إلمام الناقد ومتابعته لمجمل التجربة الشعرية أو مجمل الحالة الشعرية في المحيط الذي يقوم بالكتابة عنه. 

The case of Arabic poetry
القصيدة باتت بنت التأويل وعدم التمكين

ـ بعض التقارير خلطت بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، وبعض الباحثين لم يستطع رد القصيدة العمودية إلى بحرها الخليلي.
ـ لاحظ جميع الباحثين أن المنجز النقدي هو الحلقة الأضعف، وأن دور النشر لا ترحب بنشر الكتب النقدية، وأن الدراسات النقدية الخاصة بالشعر قليلة نسبيا حتى في الرسائل والأطاريح الأكاديمية قياسا بالدراسات السردية. وأن حال النقد الشعري يتراجع بقوة.
ـ لاحظ بعض الباحثين أن هناك تناميا في ترجمة الشعر العربي إلى لغات أخرى، وأن نسب ترجمة الشعر تتزايد بصورة مطردة، وقد حظي الشاعران محمود درويش وأدونيس بأعلى نسبة ترجمة، في حين أن ترجمة الشعر الأجنبي إلى العربية تعاظمت بقوة أكبر.
ـ تأثر الشعر العربي في الدول التي تتعايش مع أجواء الحرب وأنتج قولا شعريا مواربا أو مختلفا، فمن الحديث عن معاناة الذات إلى الحديث عن معاناة الآخر، ومن بكاء الذات وحنينها وبث مواجعها الداخلية إلى بكاء الوطن المأزوم الذي يعاني الحرب والظلم والتشرد والاغتراب، وعلى ذلك اختلفت الرؤى الشعرية في بلاد الحرب عنها في البلاد المستقرة نوعا ما، حيث نرى على سبيل المثال أن الشعراء في إقليم الشام والعراق (وهو إقليم حرب) مولعون بالتعبير عن اغترابهم بانزياح أساليبهم الشعرية عما هو مألوف أو معتاد.
ـ استفاد الشعر العربي من انفتاحه على شعر العالم، أو تنافذه الشعري، مثل ما نجده من أصداء الهايكو الياباني، ومن تيمات فلسفية وجودية، ومن التاريخ والأسطورة، وغيره، مما أفاد من تعزيز الاتصال بالشعر العالمي، والنفاذ إلى القارئ الغربي عبر ترجمة نصوص شعرية إلى لغات عالمية، ولكن يظل السؤال عن مدى اطلاع شعوب تلك اللغات على الشعر العربي بعد ترجمته إلى لغاتها؟ هل هم في حاجة إليه، وهو السؤال الذي وجهه الناقد البريطاني ب. إيفور إيفانز (من ويلز) في عام 1961 عندما سألته د. فاطمة موسى عن إمكان ترجمة الأدب العربي والشعر خصوصا إلى الإنجليزية، فقال لها: وما حاجتنا إليه؟ وعلى الرغم من ذلك فقد كثرت الأنطولوجيات والمختارات والقصائد المترجمة إلى لغات أخرى أكثرها بطبيعة الحال الإنجليزية ثم الفرنسية، غير  أن هذا لا ينفي وجود ترجمات فردية رديئة، وانحياز لأسماء معينة أو لمصالح ما، رغم أن الشعر يفقد الكثير عند ترجمته، مهما تكن ترجمته متقنة.
ـ انتهاء مسألة تجييل الشعراء التي ظهرت لدى جيل الستينيات وجيل السبعينيات وهكذا، ومع دخول الألفية الثالثة انتهى هذا المسمى، مع تأكيد أحد الباحثين على أن مصطلح "جيل الستينيات" هو مصطلح عراقي في الأساس، وأن جيل الستينيات هو جيل نوعي بامتياز، وأنه استطاع أن يقدم كلا شعريا نفيسا لم تستطع الأجيال اللاحقة أن تضاهيه إلا في النادر.
ـ لاحظ بعض الباحثين انتشار بيوت الشعر في الوطن العربي، سواء التي أسستها جهات حكومية، أو أسستها حكومة الشارقة في بعض المدن العربية، وهل هذه البيوت ممن الممكن أن تصبح لديها خبرة ومرجعية للشعر العربي في بلدانها، وأن تصبح بيت خبرة يمكن الرجوع إليها في أي مطلب شعري، وهل لديها خارطة شعرية واضحة وحقيقية يمكن الركون إليها؟
ـ اتفق عدد من الباحثين على أن الأمل معقود على أكاديمية الشعر العربي، فهي مهيأة لسبر أغوار المعوقات ومحاولة تفهمها واتخاذ أيسر الطرق إلى تفاديها، ووضع الحلول المناسبة، حين تستنهض همم الأقسام الأدبية في الجامعات، وجمع شتات النقاد والأندية والصالونات والكراسي ودور النشر وسائر حملة الهم الأدبي (والشعري) وتوحيد جهودهم وتحديد مناهج أدائهم.