حدود التصعيد الإيراني الأميركي

تعلم البلدان فن التصعيد والتهدئة بينهما.

لا يعتبر التصعيد الأميركي الإيراني سابقة في علاقة البلدين، إنما التدقيق في الأمر، يظهر ثبات التوتر، وبقاءه ضمن سقف محدد مع تسجيل مؤشرات بين فترة وأخرى تتخطى الاطار المتعارف عليه بين الجانبين. ويعود الأمر في ذلك إلى طبيعة المطالب وارتباطها بأطراف أخرى، الأمر الذي يزيدها توترا وتصعيدا. لكن الثابت في مجملها قدرة الطرفين على إيجاد مساحات للتفاهم وان بطرق وسيطة وغبر مباشرة على تفكيك القضايا الأكثر تعقيدا بطرق تترك الأبواب مواربة لأي مشروع يعيد امتصاص حدود التوتر والتصعيد إلى مستويات مقبولة ومتعارف عليها بين الجانبين.

ورغم وصول التصعيد هذه المرة إلى مستويات يعتبرها البعض غير مسبوقة، إلا أنها لم تصل إلى حد اعتبار طرق العودة مغلقة، وبالتالي الذهاب إلى صدامات عسكرية مباشرة. ففي أحلك الظروف ثمة قنوات حافظت على حد أدنى من إمكانية التفاهم على جوانب عديدة من القضايا المثارة وإن كانت تتمظهر بتصعيد عالي السقوف .فهل التصعيد سيؤدي إلى صدام؟ أم أن الطرفين سيعودان إلى مسارات سبق واعتمدت لخفض حدة التوتر؟

إن التدقيق في ذلك مرتبط في النهاية في مستوى المطالب المتبادلة وإمكانية احتوائها وإيجاد طرق بديلة لتخطيها عبر وسائل وسبل احترف الطرفان في إيجادها وتأمين البيئات الذاتية والموضوعية للبناء عليها وفقا لاعتبارات متنوعة تتلاءم ومستوى المصالح المطلوب تحقيقها والتي عادة ما تتقاطع أو تتباين مع مطالب وظروف أخرى إقليمية ودولية، مترافقة للتصعيد بين الطرفين.

وربما الخلاف القائم وما يدور حاليا حوله، متعلق بجوانب إستراتيجية نوعية بأبعاد إقليمية ودولية عالية المستوى، كالبرنامج النووي وما هو متعلق فيه، إلا أن الطرفين تعاملا مع إدارته كأزمة ظاهرها عالية المستوى إنما وسائل التعامل معها ظلت منضبطة في اطر يمكن السيطرة واحتواء النتائج المتوقعة منها. فعلى الرغم من ظهور وقائع حساسة ودقيقة تنذر بإشعال حرب إقليمية، إلا أن التدقيق في تفاصيلها يشي بقاء الوضع في سياقات منضبطة، وقابلة للاحتواء في حدود واطر دبلوماسية وان بدت في جوانب منها غير مألوفة وعالية التوتر، ذلك مرتبط بالنتيجة الخوف من الانزلاق إلى مواجهات يمكن أن تكون نتائجها السلبية اكبر مما يمكن استثماره سياسيا واقتصاديا وحتى في القضايا الجيوسياسية في المنطقة، وهو أمر حرص عليه الطرفان وان بمستويات متفاوتة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، رغم التشدد الإيراني في المواقف المعلنة تجاه القضايا المطروحة، إلا أنها لم تتخذ مواقف وخطوات ذات طبيعة تنفيذية مباشرة وسلكت طرقا يستشف منها استثمار أذرعها الخارجية في مواجهة بعض الوقائع والضغوط المفروضة عليها، إذ لم تفرز هذه السياقات من التعامل وقائع استفزازية جديدة تنقل اطر المواجهة إلى مستويات غير مرغوب بها إيرانيا وأميركيا. في المقابل وان بدت الإدارة الأميركية أكثر تشددا، إلا أن بعضها ابدى صراحة عدم الذهاب للمواجهات العسكرية المباشرة، بل تم تسريب إمكانية إيجاد قنوات اتصال عبر أطراف ثالثة، وهذا ما تم التعامل به من قبل الطرفين معا، كسويسرا التي تقوم بإدارة العلاقات بين الطرفين دبلوماسيا، أو عبر الزيارات الدبلوماسية التي قام بها وزير الخارجية مايك بومبيو إلى روسيا والعراق علاوة على دبلوماسيين أميركيين زاروا عواصم معنية بالملف، وفي مقابل ذلك أيضا تنشيط الدبلوماسية الايرانية كزيارة وزير الخارجية الايرانية إلى طوكيو على سبيل المثال لا الحصر.

ان الوقائع التي تمت قراءتها بدقة متناهية والسياقات التي تم إتباعها من قبل الطرفين حتى الآن، تشي برغبة واضحة إلى إبقاء الظروف القائمة حاليا في مستويات قابلة للاحتواء. فلا طهران قادرة حاليا على فتح سياقات تصعيدية تؤدي إلى صدام عسكري مباشر، ولا الظروف الإقليمية مواتية حاليا للذهاب نحو الحرب أميركيا، وعلى الرغم من وجود الكثير من الصور التصعيدية ظاهريا، إلا التدقيق في الأمر يشي بمواجهات غير مباشرة قابلة للاحتواء أقله مرحليا.