خصوصية التمثيل القنصلي في القدس

منذ أعلنت الإدارة الأميركية اعترافها بالقدس كعاصمة لإسرائيل أخذت بعض الدول من التمثيل القنصلي كمظلة سياسية لنقل سفاراتها إلى القدس، عبر الإعلان عن توسعة المقرات القنصلية وشمل الممثلين الدبلوماسيين فيها وهذا ما كانت قد أعلنته بداية تركيا على سبيل المثال لا الحصر في أعقاب مؤتمر التعاون الإسلامي الذي عقد للرد على الخطوة الأميركية ولحقها بعض الدول في ذلك، وكان آخرها تشيكيا. فما هي خلفية هذا السلوك وما هي قيمته القانونية لجهة الاعتراف؟ وهل يمكن الخلط بين التمثيل الدبلوماسي والتمثيل القنصلي؟

في الواقع القانوني ثمة فرق كبير بين كل من التمثيلين الدبلوماسي والقنصلي وان تشابها في بعض الجوانب. فالتمثيل الدبلوماسي وفقا لاتفاقية فيينا 1961، هو تمثيل سياسي بين الدول، ويعتبر السفير في مثل هذه الحالة موفدا لرئيس بلاده لدى الدولة المضيفة وممثلا شخصيا له، وهو بهذه الصفة يعتبر وفقا لنص الاتفاقية وما جرت الأعراف الدولية عليه، اعترافا بنظام الحكم وبكيان الدولة، وبالتالي بكل ما يترتب على ذلك من جوانب، وعادة ما تختار الدول مقراتها الدبلوماسية إي السفارات في عواصم الدول، إلا في حالات استثنائية وهي نادرة بطبيعة الحال وبصفة عارضة. فيما التمثيل القنصلي وفقا لاتفاقية فيينا 1963 الهدف منه تسيير أمور رعايا الدولة التجارية والمالية والأسرية في الدولة المضيفة وليس له أي صفة أو خلفيات أو تداعيات سياسية، وهو بصفة عامة تمثيل يشمل مواضيع علاقة الرعايا غير السياسية في الدولة المضيفة، وعادة ما يكون للدولة الموفدة العديد من المقرات القنصلية خارج العواصم وأينما وجد رعاياها.

وثمة دول كثيرة تجمع الصفتين القنصلية والدبلوماسية في بعض مبعوثيها، ذلك لعدم وجود نص في الاتفاقيتين الدبلوماسية والقنصلية يمنع الجمع بين هاتين الوظيفتين لدى الدول المضيفة، إلا أن هذا الجمع لا ينشئ حقوقا أو إجراءات للدولة الموفدة لدى الدولة المضيفة أو العكس، إذ يبقى هذا التمثيل في حدوده القانونية، ولا يكسب حقوقا أو تفسيرات من قبل الدولتين الموفدة والمضيفة، وبالتالي لا يعتبر التمثيل القنصلي اعترافا سياسيا بالدولة وبنظامها. والأمر عينه ينطبق على المقرات القنصلية، فعلى الرغم من تمتع القنصليات ببعض الامتيازات والحصانات المماثلة للسفارات، إلا أن هذه الحصانات والامتيازات تبقى محدودة جدا وتتعلق بسير عمل موظفيها، لا بصفتهم كممثلين لدولهم ذلك بعكس مقرات السفارات وممثليها. وفي أي حال، وقفت بعض الدول وراء هذه التخريجة لنقل سفاراتها إلى مقراتها القنصلية في القدس، وهو أمر من شأنه تغيير طبيعة عمل مكان القنصلية، وبالتالي ما يمكن أن يترتب عليه من حقوق وامتيازات دبلوماسية، وبالتالي تداعيات سياسية لجهة الاعتراف بمقر الممثلية كعاصمة للدولة.

طبعا إن الاحتكام لهذا التوجه والسلوك، يعتبر غير مسبوق في العلاقات الدولية والدبلوماسية ويمكن أن يؤسس لحالات ووقائع عرفية تصبح مع الزمن أنماطا وأعراف شارعة في المجتمع الدولي، وبالتالي تكسب حقوقا وواجبات متماثلة بين الدول.

في المحصلة، إن ما قامت به مؤخرا تركيا وبعض الدول وآخرها تشيكيا، لا يعدو كونه نقلا لموظفين دبلوماسيين إلى مقرات قنصلية، إلا أن هذه الإجراء لا يعتد به كاعتراف بالقدس كعاصمة من الوجهة القانونية، رغم أن بعض هذه الدول تختبئ وراء هذه الحيثية مسايرة لقرار الإدارة الأميركية، ورغم ذلك يعتبر سلوكا خطرا على المدى البعيد باعتباره يمكن أن يؤسس لأعراف كما ذكرنا.

إن خصوصية القدس كمدينة تخضع لقرارات دولية ملزمة، وتقع تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، تستوجب التعامل مع قضاياها بدفة قانونية ودبلوماسية متناهية، لاسيما وأن إسرائيل لم توفر فرصة إلا واستغلتها لتهويد هذه المدينة قانونيا وسياسيا، وهي قادرة على الوصول إلى غاياتها عبر هذا السلوك الذي تنتهجه بعض الدول عبر الخلط بين التمثيلين الدبلوماسي والقنصلي.