خلاسية أثداء التبييئ في الرواية العربية

متخيل الطيب صالح ولولبته "لتوريقه المتخيل الاستنباطي" من خلال بطله مصطفى سعيد" وجدلية "بنت مجذوب" في استفزاز المسكوت عنه.
حجي جابر يبحث مع أمه عن مدرسة لابنها جابر في جدة، ومصطفى سعيد يستلم "صرة الدراهم" من أمه ليلتحق بالقاهرة
"داوييت" أحد الشخوص الرئيسية في رواية "رغوة سوداء" للكاتب الارتيري
فضيلة بهيليل في إحدى روائعها السردية "زيارة"، تستبيح مد "الكونية" في سلوكيات التبييء

لعل من حظ جيلنا أننا كنا نقرأ في يفاعتنا أمهات الكتب والكتاب وعمالقة الحرف: العقاد، نجيب محفوظ، وعمالقة الأدب الفرنسي وغير ذلك والقائمة طويلة، قرأنا في تلك الفترة الزاهرة : "الثلاثية" لنجيب محفوظ بكل أبعادها الكونية، كما التهمنا كتبا أخرى في نفس أنساق الثلاثية. الحديث يطول في هذا الشأن وليس مقامنا الآن وإن كان ذلك، أي ما كنا نقرأ، كان قبل ظهور الروية الجديدة Le nouveau roman على يد رائدها Alain Robbe-Grilletمع نخبة من المجيدين في هذا التيار التجديدي مع مطلع الستينيات وعلى وجه التحديد سنة 1963.
وعند ظهور هذا التيار امتدت قراءتنا إلى غاية اللحظة مع ما بعد الحداثة، وأتحدث عن نفسي المتواضعة ليس استعلاء ولا فرادة ولا تميزا، وحتى لا أقحم معي بني جيلي في هذه الأروقة القرائية، إذ لعل لكل قارئ مشاربه وأنساقه، واليوم وقد غزت المشهد الأدبي خاصة السردي والتسريدي مجموعة من الرؤىء على مستوى التسريد ضمن "أروقة ما بعد الحداثة" وتبييء هذه الـ "ما بعد الحداثة بتلاوين" قزحية تعكس راهن المرحلة على جميع الأنسجة والأصعدة.
اقرأ - بكل تواضع - كل ما يقع بين يدي سواء من خلال ما أحتفظ به في مكتبتي المتواضعة، أو ما أقتنيه "شراء" أو إهداء وغير ذلك. المسألة أيضا ليست هنا أيضا وليس هذا مقامها بقدر، وأنا أنهي لتوي قراءة متجددة لكتاب من عهد ما قبل الحداثة، أي ما قبل موجة الرواية الجديدة، كتاب "أنا" للعقاد الذي قرأته كم من مرة في يفاعتي، فقفز إلى ذهني ما ألتهمته وأنا شاب رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السوداني والإنساني الكبير الطيب صالح، وقد أتوقف مليا عند هذه الرائعة الخالدة "موسم الهجرة إلى الشمال" التي كانت منعطفا - ولا تزال - في مدى "متخيل" الطيب صالح ولولبته "لتوريقه المتخيل الاستنباطي" من خلال بطله "مصطفى سعيد" وجدلية "بنت مجذوب" في استفزاز المسكوت عنه من خلال "نمطية" بنت مجذوب أجد شخوصه المركزية المثيرة للجدل، و"لأخلقة" التسريد عند البعض ولعلي لا أطيل في نسج ما كُتب عن هذه الرواية العملاقة الخالدة التي ترجمت إلى أكثر من 30 لغة، وكتب عنها كبار النقاد اعتبارا من الناقد الكبير: رجاء النقاش في مجلة "الدوحة" قبل صدورها أواسط الستينيات، إلى غاية اليوم، وكان أيضا من حظنا، أي جيلنا أننا كنا أيضا نقرأ بنهم مجلة "الدوحة"، "آفاق" العراقية، وغيرها من أمهات المجلات الأدبية الجادة .
من مفارقات التسريد الروحي 

وعي اللحظة هاهنا يتقاسمها الأربعة: نجيب محفوظ، الطيب صالح، حجي جابر وفضيلة بهيليل. كل حسب مرتكزاته

إذا كان "داوييت" أحد الشخوص الرئيسية في رواية "رغوة سوداء" للكاتب الارتيري الفذ، الذي قرر العودة إلى إرتيريته، علما أنه ترعرع بالسعودية، وعلى وجه التحديد بجدة، ويعود لملته الأرتيرية وأصالته وبالضبط إلى مسقط رأسه "مصوّع" وبالتحديد وثنائية: مصوع / جدة وملامح الخلاسية وذاكرة التبييء ووجدانية وشمولية وأهازيج "الأفرقة" السودان / الحبشة / وغيرها من المباني في "سمراويت" روايته. ومشهدية التعطل في التمدرس بين حجي جابر وبطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" مصطفى سعيد، ذاكرة مستوردة ارتدادية ومسافات استدعاء الوطن من الوريد إلى الوريد
في فنتازية التسريد
تكريس الهامش والمفصلية في تسريد المبنى من خلال تخييل التلاحم أو الارتطام أو "اشتهاء المبنى ". الارتدادية المشتهاة، تنطلق من البوصلة التلقائية ثلاثية أو رباعية: نجيب محفوظ، حجي جابر وفضيلة بهيليل. مساحة البوصلة لا تغدو إلا نمطا سلوكيا نابعا من "خلاسية المعمار السردي في دلالاته القصوى.
التسريد ها هنا عند فضيلة بهيليل وحجي جابر في مساءلة الرقعة وحالة من إقحام الذاتية التلقائية في أعمالهما.
إذا كان حجي جابر في جدة يبحث مع أمه عن مدرسة لابنها جابر، أي الروائي، كان مصطفى سعيد بطل رواية "موسم الهجرة إلى الجنب يستلم "صرة الدراهم" من أمه ليلتحق بالقاهرة بعدما التحق بإحدى المدارس بالسودان وبإيعاز من مدرسه الانجليزي، يلتحق بالقاهرة ومنها إلى لندن، وكان نابغة وفي ظرف قصير كان يجيد الإنجليزية مما خوله من القاهرة مرورا بالاسكندرية إلى معانقة بريطانيا ليستكمل دراسته، ويلتحم بالمحيط لغربي بذهنية القروي السوداني. أثناء خروجه من قريته بالسودان يلتقي بالقطار بشخص كان يتحدث معه بالإنجليزية، وفي جيده صليب .. الخ مسار الرواية "موسم الهجرة إلى الشمال ".
بالرجوع إلى رواية "ما لم تحكه شهرزاد" للروائية الجزائرية فضيلة بهيليل، والصادرة عن دار المثقف الجزائرية، تشدنا حوصلة وتعاضدية "خلاسية التبييء أيضا من بني ونيف بالجنوب الجزائري وبوادي عسلة بولاية النعامة بالجزائر وجمعة – البطلة - إلى حنان ووفاء ونعيمة والرحلة المشتهاة إلى "مدينة سيدي منصور" وعوالم الطالبات بالأحياء الجامعة واستمراء اشتهاء المعاكسة والمشاكسة عند بعض الطالبات من منطلق تبييء "العمرية" لكن بمنظور ارتدادي – فلاش باك - من "جمعة" إلى وفاء ومن نعيمة إلى حنان.
هنا تلتحم "مكوكية الدلالة بين حجي جابر والطيب صالح، هذا الأخير في رائعته "موسم الهجرة إلى الشمال"، وبوعي كبير، يُلحم " صديقه الحميم، صديق الطفولة "محجوب" وود الرايس أجد أبناء البلدة.
على صعيد المعمار الهندسي لملامسة الشخوص عند حجي جابر وبهليل فضيلة، والطيب صالح ونجيب محفوظ. هذا الأخير بحكم اغتراف جل مكوناته الروائية من حي الحسين بالقاهرة، وفي ظل تعاطيه مع شخوصه من منظور البنى "التوطينية"، القاهرة وأزقتها وخاصة حي الحسين في الثلاثية وبالتدقيق "بين القصرين" الجزء الأول من الثلاثية، بغوص الروائي الكبير في عالم التيه، وبطلته التي تستيقظ عند منتصف الليل من كل ليلة، وقت دخول بعلها من السهرة والأشباح وأورادها، وأن نجيب محفوظ ببنائه السردي المميز تشتم رائحة المدينة في مساراته رائحة الارتكاز والتلميح لمسكون في ذات كل خائف كالمتخيل التخييلي عند البطلة التي تسكن الخوالي .. الخ.

وعي اللحظة هاهنا يتقاسمها الأربعة: نجيب محفوظ، الطيب صالح، حجي جابر وفضيلة بهيليل. كل حسب مرتكزاته، ولا تفلت - وجوبا معماريا - من أي منهم عوامل ونوازع التبيييء، يبقى البناء المعماري والهندسي في بلورته والذي لا يحرج عن أنساقه يختلف من سارد لآخر، وما استنتجته وأنا أستذكر هذه الحالات الشعورية الآن، أن خصائص وميزة "التبييء" لاصقة بذات كل مبدع منهم، نجيب محفوظ يفوقهم طبعا في تحنيك اللحظة السردية لعدة عوامل كما هو معروف وهو الحائز على جائزة نوبل. وإن كان يحسب على الرواية الكلاسكية – والبالزاكية في مجملها، - وهذا شأن ثان، ليس مقامنا الآن والتي تمجد - كما هو معروف عند الدارسين والنقاد والحداثيين الفرد على حساب الجماعة والشمولية وهذا قبل ظهور التيار التجديدي في الرواية الجديدة على يد آلان روب جرييه، فيما تجنح سرديات ومسرديات الموجة الحداثية: حجي جابر الارتيري، والرواية الجزائرية فضيلة بهليلل كنماذج لمزاوجة الحداثة بالاغتراف من بيئة الصحراء والريف بكثير من الغوص في مجريات هذه الجغرافية السردية على صعيد المعمار الحداثي الهندسي والتنويري الاستبطاني على صعيد "الملمح".
الروائية فضيلة بهيليل في إحدى روائعها السردية "زيارة"، وهي قصة مطولة، تستبيح في وقائعها مد "الكونية" في "سلوكيات التبييء كموقع تفاعلي مع أجزاء" السيرورة والصيرورة في ذات الأوان في النص وفي الأسانيد بتقنيات حداثية، كذلك الشأن بالنسبة للروائي الارتيري حجي جابر في روايته "سمراويت" و"مرسى فاطمة" ، ثنائية هذا التعاطي مع مقومات المتخيل السردي عند هذه الموجة الحداثية / فضيلة بهيليل / حجي جابر نماذج واعدة في توطين الخطاب السردي بمكونات "الترهين"، وباغتراف من مساحات البيئة بين المهمش والمرتكز وبين التفعيل نمطا حداثيا، وهذا أيضا سلوك واع لدى هؤلاء، ليس اعتباطا ولا "موميات محنطة" سرد كاسد، وإنما كدلالات مفصلية تعتبر منحنى في زمرة "التشيؤ" و"وترتيب" حزمة المعمار السري في مجمل تعاطيه مع الواقع المعيش بارتدادية واعية أيضا. 
لنأخذ عينة من هذا من رواية "ما لم تحكه شهرزاد للقبيلة"، هذا الأنموذج من توظيف المد الكوني لرقعة "جغرفة" السلوك السردي قولها كتضمين لمحدثات بناء اقتضه مفصلية ومركزية فصل من فصول الرواية هذه ومن نوع النوفلا، فيما كانت تتحدث عن وفاء ونعيمة وحنان بالوسط الجامعي ها هي تقفز بها ارتداديتها بوعي لافت إلى تضمين هذا الأنين التي تٌلْحمه بوعي أيضا مع مجريات أنين إحدى مٌخرجات أحد شخوصها. تقول في هذا التضمين لزجل من منطقة البيض بالجزائر لإحدى "القولات" أو دعونا نقول شواعر بالعامية، أو الملحون، أو كما يسمى عند إخواننا المشارقة والخليج "النبطي"، على لسان قوالة بريزينية :
ويا وحي وما صرى في دا الواد كسال (كسال: جبل بالبيض بالجزائر)
واش يقدك فالحساب، ذا طايح، ذا مجروح يا محايني
ويا محايني وهودي يا ذا النو الهيه وريبي للصحراء.
إلى أن تقول في نفس الصرخة والأغرودة :
ولا تزديش عليه الكٌورده، يديه محررين ما شافوش لعذاب يا محايني... الخ.

أوردت العينتين: الروائية الجزائرية: فضيلة بهيليل وحجي جابر الارتيري من منطلق قناعتي كقارئ طبعا أن هذين الأديبين يتمتعان بمؤهلات وقدرات مذهلة من شأنها إن تحتل جغرافية التبييئ

هذا اغتراف ضمني بوعي كبير انطلاقا من ذاتية بيئية من موقع كيمياء وتضاريس جغرافية المباني عند الروائية فضيلة بهيليل، مما ينم على أن ذات الساردة تتحكم بوعي في دلالتها ولولبة شخوصها عند الاقتضاء وحتمية "المسرود" وفضائه ومقتضياته، وهي التي كانت تتحدث عن الطالبات وأجوائهم الجاامعية، وهذا النضج السلطوي في مساءلة المشفوع فيه والمنبثق من ذات المبدعة لا يؤتى لمن لا يجيد فن "التضمين" عند الاقتضاء أو بالأحرى عند الحالة الشعورية الحاسمة، وهذا ما يتوفر لدى الروائية الجزائرية فضيلة بهليل سواء في هذا العمل "ما لم تحكه شهرزاد للقبيلة"، أو في مجموعتيها القصصيتين "على هامش صفحة"، و"عادت بخفي حنين" نفس السلوكيات الارتدادية وبلغة حداثية قوية نجدها عند الروائي الواعد والألمعي الحداثي الأرتيري:  حجي جابر في أعماله " سمراويت"، "مرسى فاطمة" و"رغوة سوداء".
بالنسبة للخالدة "موسم الهجرة إلى الشمال" للروائي الإنساني الكبير الطيب صالح والتي - في تصوري - أنه من العسير جدا أن يأتي مبدع بمثل هذه الألمعية "سواء ما قبل التيار الجديد في الرواية الجديدة أو ضمن كلاسيكيات ما قبل آلان روب جرييه، وقد اعتبرت من أفضل 100 رواية في العالم ترتيبا، وهي من الروائع الإنسانية برمتها، الأمر هنا يختلف ولا مجال للمقارنة، وإن سردتُ هذه "النمذجة" فمن باب مقاربة تضمينية تلاحمية لا غير على صعيد الأعمال الواردة في دائرة ذائقتي واستنتاجاتي ونوستالجيتي، وأنا أنهي لتوي إعادة قراءة "أنا" لعباس محمود العقاد؟
وإن أوردت العينتين: الروائية الجزائرية: فضيلة بهيليل وحجي جابر الارتيري من منطلق قناعتي كقارئ طبعا أن هذين الأديبين يتمتعان بمؤهلات وقدرات مذهلة من شأنها إن تحتل جغرافية التبييئ وصدق التفاعل ومعايشة الشخوص من الداخل بوعي وبنفسية المقتفي لآثارهم، وإن كان عز الدين اسماعيل الناقد ينحو المنحي النفسي في وقوفه على ما يتناوله في أعماله النقدية، فإن ورقتي هذه المتواضعة تجيء من استثناء المستثنى في علم وفقه الكلم، من وجهة استنتاجية والتي تعتبر -  في تصوري - أداة من متلق مهما كان: ناقدا أو ذواقة أو احتكم الى نوستالجيا أو إلى مغراف بييئي جدير بالاحترام والإشادة مثل ما لامسته في تقنيات الروائيين جحي جابر وفضيلة بهليل، أتمنى لهما موفور السؤدد وهما يقتطعان من "حقول الإبداع ما يعطي طبقا شهيا للذائقة على صعيدي المبنى والاغتراف من البيئة بصدق وباتزان وبرؤية ثاقبة ستلحقهم يوما ما بمن سبقوهم وهم يركبون وإياهم ضمن هذه الورقة زورق التصوير الفوتوغرافي للتسريد. ولي أوبة أخرى لرواية "رغوة سوداء للروائي الارتيري حجي جابر ولـ "ما لم تحكه شهرزاد للقبيلة" للرواية الجزائرية فضيلة بهيليل في ورقة لاحقة.