خلود خويص تهفو بأحاسيسها بنبرة البوح حينا وحينا بنبرة النوح

الفنانة التشكيلية ابنة السويداء تستثمر الكثير من الأحاسيس بكل إيقاعاتها بكل معانيها وتنتشر في أعمالها من خلال قنوات تكاد تكون بإيقاعات موسيقية إن كانت من خلال الذبذبات المرتبطة ببعض تفاصيلها، والتي ستتردد أصداؤها في مجمل المفاصل على نحو ملحوظ، أقصد مفاصل أعمالها الفنية.

"نشأت في السويداء بجمال طبيعتها، وألوانها القوية الصريحة. كان كل شيء يثير حفيظتي الفنية، أجلس أوقاتاً طويلة أترصد الغيوم، وخاصة أثناء الربيع؛ حيث أقرأ فيها صوراً، وأتخيل حكايات كنت أترجمها إلى لوحات تثير دهشة والديّ ومن حولي. حتى الصخور البركانية وأحجار الخفان كنت أجمعها وأرصفها كأنها تكملة لتلك الحكايات، وأخيطها بأجمل الصور، وكان كل حجر يعني لي بألوانه المتعددة، ولها ركن خاص أعرضها في المنزل، من هنا تكوّنت ذاكرتي الفنية، كبرت وكبرت بداخلي هذه المفاهيم الجميلة لكل ما هو نفيس" هذا ما تقوله التشكيلية خلود خويص في أحد حواراتها القليلة والتي توحي برغبة ذات دلالة لفنانة حلّت عليها النعمة، جاهدة بذائقة مكنتها من تهريب الجمال بمجازاته من دروب آفلة إلى الصمت إلى ديارها وفضاءاته، ولا يكفيها أن تستحضر نصوصاً قد تستدعي منها ما يعينها على إقتفاء منجز بكل آثاره، بل وبما تملكه هي من حضور رمزي عالق بالأثير الصافي ترسم حركة ما، تشير بها إلى إرتقاء ما وفق طريقتها الخاصة التي تلح عليها في البحث عن نسق تستله من مقامات تجربة تتلاشى فيها الكثير من التصورات بمفرداتها التي تأتي من الإنسان إلى الحياة، الكثير من اللحظات بحركاتها الصاعدة إلى الحلم القديم الذي يرافقها منذ واجهت جمال الوجود أو حتى رعبه، واجهت سمو الإنسان أو حتى تغريبته، فهي تمتلك في ذهنها المتقد بصور التطهير بالماء أو بالتراب دلالات توحي لها بالحب أو بالوجع وفق جاذبية الروح وجهات نهوضها، وفق تجدد الحياة مهما كانت ماضية على دروب المخاطرة، أو على دروب أشد العناصر إحياء للكائنات، فهي تتوغل داخل مناطق العزلة ذاتها لتبدل من ميادين عملها وما يطالها من مفاهيم ذاتية قد تكون سبباً في تحويل مساراتها نحو أسئلة تحمل أطروحاتها الجمالية والمعرفية بحرص الضوء على الفراشات، دون إنكفاء ودون تراجع، فهي التي سترسم الحدود والضفاف دون مساءلة وإن تعدتهما متعالية بما تمتلكه من لحظات تاريخية التي ستستجيب لها ضمن متطلباتها وما يضمن لها استمراريتها ضمن حيّز زمكاني قابل للقراءة والتأويل، فهي تفي حاجات متلقيها بقدر ما تفي حاجاتها هي ضمن مفاهيم ورؤية خاصة تتماهى إلى حد ما مع رؤية الأولين وإن بما تسلل إلى خبايا نصها لا للجمه بل لإستشراف لحظات النفاذ الكبير، وإطلاق سراحها بما يفتح لها مجرى للتغاير، وهو السبيل إلى التطهر من دنس الظلمات، لتصبح فيما بعد متلبسة بالكلام، يسرى في تفاصيلها صور اللحظات عند تشابكها، وثمة استراتيجية تمضي بها خلود خويص نحو بناء مبناها ومعناها، استراتيجية شروع الوجود بالتشكل في لحظة اندحاره، هنا يشرع الطفل بالخروج من صميم الحالات ولحظاتها ويتخلص مما طاله من ركام الآخرين لينجز حركته نحو الأرقى، نحو الأفضل فهو إنسان المرحلة، بل إنسان الأزمنة، فالبداية بوابات مشرعة على الآفاق، والنهاية نوافذ مفتوحة على البداية إلى أن يشار بالأمل لا بالألم إلى رعب الوجود .

من الواضح أن خلود خويص تستثمر الكثير من الأحاسيس بكل إيقاعاتها، بكل معانيها، وتنتشر في أعمالها من خلال قنوات تكاد تكون بإيقاعات موسيقية، إن كانت من خلال الذبذبات المرتبطة ببعض تفاصيلها، والتي ستتردد أصداؤها في مجمل المفاصل على نحو ملحوظ، أقصد مفاصل أعمالها الفنية، أو من خلال ما ترسمه من علامات والتي يستمر في حدوث تغييرات عديدة مصحوبة بالتوقعات الخاصة وبأسلوب حياة داخل العمل الفني ذاته، ومن الأدق أن نقول في ضوء ذلك أنها تنتمي إلى النموذج النشط التي تفضل إختيار أقوى العمليات التي تلائم مخططها المعرفي وكأنها في حالة ملاءمة الموسيقى الهادئة لعملية الاسترخاء، وقد تنتج عن ذلك مستويات مماثلة من التفضيلات الجمالية مع التأثيرات الخاصة التي ستزيد من احتمالية الإستجابة الجمالية التي تناسب موقفها واختياراتها، والتي ستعدل تصوراتها وفق اهتماماتها بالمتغيرات الجديدة وتأثير ذلك على استثاراتها المختلفة، أقول إن خلود خويص تهفو بأحاسيس، بنبرة البوح حيناً وحيناً بنبرة النوح وكأنها بذلك توقع مسيرتها، فالحلم مهما كان كئيباً، تبقى هناك شموع تبتسم وهي تحترق، يبقى هناك قطبان يتجاذبان بين الخفاء والتجلي، فالملفوظات قد أستلت من مكونات بانية لأحاسيس ترشح بها الأعمال لحظة تشابكها وتعالقها، وهكذا لا تتخلى خويص عن تلك المكونات التي ستضمن لها " السقوط عالياً " في دائرة قد تحقق مبتغاها، وإن كانت لا تفي حاجتها الجمالية وهذا يشير صراحة إلى أنها كلما اهتدت إلى منجزات حققتها / تحققها هنا أو هناك فهي تمكن من رحلة بحثها وما ابتنته من رموز ودلالات في شكل صور تتلقف الكلام وتداخله، وتصر أنها تحاول جاهدة أن تنتشل الطاقة كنوع من إستعادة الدفق الدلالي وما يجاريه، أو وما يجسده من إشارات هي محصلة الإحتماء من وهن كانت قد عطلته من كل مآزقه، فهي لا تنكفىء في إستدعاء التكثيف الدلالي، التكثيف الذي لا يخذلها، وسيتبين حجم ذلك وهي حالمة في حضرة رؤيا لا يمكن أن تعصف بها مهما كانت الرياح هوجاء .

فضاءات خلود خويص لا تنفصل عن زمنها، فالزمن مهما كان مروياً من المرويات لا يخلو من دلالاته، وتستدل عليها فنانتنا بالإحساس الذي يفوق احساس المؤمن بوصايا الكهنة، فتشمر عن واحاتها الكثيرة لتنطلق منها وجوهها الكثيرة، الوجوه التي ترفض أن تنقاد بريش مقيدة، نحو مآلها، فلا بد أن تنزع اللثام عنها تجبرها على التواجد في النطاق الذي يزاحم تعبيريتها في مساهمة رسمه، فهي تركز على ما هو قابل للتأويل، وتبدي إهتماماً لكل الموجودات والتي ستفسر بوصفها مصادر للغد الذي لم يأت بعد، فهي الأكثر إيماناً لا بالناموس المقدس، ولا بالقضاء والقدر، بل في فلاحة الوجوه، وحرثها بالريش، منتهكة حرمتها حتى تنعم بالعواطف والأحاسيس والرموز الإنسانية، وتصغي إليها كلما ومضت من بين أصابعها، فقد تلح مثلاً على توسيع دائرة الإنفتاح لوجوهها بوصفها دائرة المكاشفة بإمتياز عن لحظات التقاطع المستتر بين الواقع واللاواقع، عن رغبة جارفة في شدها إلى المجاز، المجاز المكافىء لطموحها، وهي تستثمر خبرتها في خدمته، وتحرز نجاحاً تلو الآخر، وهي بذلك تزيد جرعة أخرى من الحب على ضفافها، إلى جانب مرانها الطويل لكل ما يملأ عليها تفكيرها، فهي تمتلك من الإتقان والإجادة فيما تصنعه من أولويات ما تشغل دواخلها بالأحاسيس التي تغرد على هيئة أشكال مختلفة في تلك الوجوه التي تغطي جزءاً مهماً من سيرتها من أمد طويل، فهي قد تتخذ منها أقصد من وجوهها بلبلاً أو عندليباً، حبات إنتظار ذاعت صيتها ولم تهطل إلا حينما تذهب هي إليها تجرها بملامح لا تفارقها، أو رماد من التعب تذروها الريح بعد أن تعرضت لتلك الريش الهائلة، ولتلك القسمات التي تغلفها النوافذ من الخارج، والجدران من الداخل فيدب الذعر بشظاياه، والحب بحرارته، فالأمر في مجمله حياة وإنسان وكليهما يتساقطان بين الحقول النائية التي استحالت بدورها إلى رماد يندفع إلى مسافات بعيدة في الروح .

قد لا تشكل لحظة المواجهة مع المساحة البيضاء لكثير من الفنانين ما يبعث على الخوف أو القلق، والتي قال عنها فناننا الذي لا يموت عمر حمدي / مالفا بأنها لحظة الصفر أو العدم، هي حالة الحياة والموت في جسد واحد، هي أهم لحظة التي ستقودك إلى الإبداع، أقول إذا كانت هذه اللحظة المصيرية لا تعني الكثير فهي تعني خلود خويص كثيراً، وهي سر هذه الحيرة الذابلة على وجوه شخوصها، الحيرة التي ستستوعب كل ما قاله مالفا بما فيها متعتها، متعة هذه اللحظة بما فيها من قلق وتوتر لا توازيها متعة إلا تلك التي يقطفها عاشقان بعد غياب طويل، بعد إنتظار كاد الزمن يغتاله، فهي وأقصد خويص تمتلك خصوبة الحياة، الخصوبة التي ستكون آداتها الأهم في كشف الآخر بمكنوناته الداخلية، وهذا سر آخر تمضي به لتحقق شيئاً مختلفاً، نعم شيئاً مختلفاً وما طريقتها في رسم البورتريه بهذا الحس العالي والجديد إلا ثمرة ذلك، فهي تحقق شيئاً جمالياً إبداعياً لاتشبه إلا تلك اللحظة التي تحدثنا عنها، شيئاً لا يمكن أن يستغنى عنه مهما تعاملنا مع مفاهيم تنبت فيها أسئلة جديدة، فالدفء الشرقي الذي يطغى على شخوصها تجعله يسافر في العمل كله وبالتالي إلى متلقيه الذي يبدأ حينها بالإنعاش ضمن دهشة البحث في حقول من اللون بكل أحاسيسه، ضمن دهشة الإنتماء إلى زمن بكل مرارته .