دبلوماسية الكوارث

ينجز الزلزال ما عجزت عنه السياسية والدبلوماسية. العرب هبوا لمساعدة سوريا وتركيا. حتى اليونان طوت صفحة الخلاف وذهبت تساعد.

لم تعد ظاهرة عابرة تجاوز الخلافات وحتى النزاعات الكبرى بين الشعوب والدول، بل باتت بمثابة عرف دولي سرعان ما يُتبع في زمن الكوارث الطبيعية، وكما في السابق، شهد على ذلك الزلزال المدمر الذي ضرب كل من تركيا وسوريا، في ظل وضع سياسي إقليمي ودولي ضاغط جدا وغير مسبوق في علاقات دول المنطقة، فسرعان ما تبدلت الأحوال والعلاقات وذهبت الى مستويات اتسمت بقمة الإنسانية في التعاطي مع ظروف الدولتين اللتين اصابهما دمار وخسائر غير مسبوقة بشريا وماديا، وبالتالي حاجتهما الماسة لسيل من العناية والاهتمام في كافة المجالات.

وعلى الرغم من مستوى التباعد بين الدولتين وكذلك بينهما وبين الدول المجاورة سجل حراك انساني لافت تخلله صور وملامح يمكن ان تُفسر وتستثمر سياسيا في سياق العلاقات الإقليمية والثنائية اللاحقة بعد ما يناهز عقد من الزمن تخللها الكثير من فتور وسخونة العلاقات للعديد من الأسباب والاعتبارات التي بدت في بعضها غير قابلة للتجاوز او الحل..

الا ان حجم الكارثة غير المسبوق اسهم بشكل او بآخر في تجاوز العديد من المعوقات التي يمكن ان تقف عائقا في في وجه تدفق المساعدات الإنسانية، ان لجهة تركيا او سوريا. وفي هد الاطار لوحظ تسارع في حجم المساعدات وتدفقها وكيفية التعاطي الإقليمي والدولي بخاصة ان ثمة عقوبات مفروضة على دمشق تحديدا، وفي ظل وجود منسوب عال من فتور العلاقات بين انقرة وجيرانها الاقربين والأبعدين.

وفي هذا الاطار، سُجل حراك في اتجاه الدولتين، حيث قدمت المساعدات اللافتة لدمشق بهدف المساعدة على تجاوز كارثتها، ويشار ان هذه المساعدات لم تأت من فراغ، يل هي نتاج انفتاح متواصل مع سوريا لجهة تفعيل إعادة العلاقات الدبلوماسية والزيارات الرفيعة المستوى التي نُظمت خلال السنوات الماضية، وهي مؤشرات إضافية على تفعيل العلاقات الثنائية التي ترافقت مع تداعيات الكارثة الزلزالية في المنطقة. في المنقلب التركي الآخر، فقد شهد أيضا خرقا دبلوماسيا غير مسبوق، عبر تنشيط العلاقات اليونانية التركية التي شهدت دفئا لافتا سجل بزيارة وزير الخارجية اليوناني الى تركيا ومساهمة بلاده في جهود الإنقاذ والإغاثة والمساعدات بعد سنوات من القطيعة والتدهور في العلاقات الثنائية التي وصلت في بعضها الى نزاعات وحروب على قاعدة الازمة القبرصية.

لقد شهدت المنطقة حراكا دبلوماسيا لافتا انطلاقا من الكارثة التي حلت في المنطقة والتي ارخت بتداعياتها ثقلا تعجز عنه الدولتان في تجاوز آثاره المادية والبشرية وتداعياته المستقبلية في المنطقة اذا تركت الأمور لقدرها. كما لوحظ في هذا السياق تجاوبا واضحا لتجاوز العقوبات المفروضة على بعض كيانات المنطقة بهدف تسريع وتنويع المساعدات للمنكوبين.

لقد باتت الكوارث الطبيعية ونتائجها المدمرة في عالمنا المعاصر سببا وجيها تستعمله الدول لتجاوز خلافاتها ونزاعاتها، وغالبا ما تُسعف هذه الانماط من الوسائل والأدوات الدبلوماسية في رسم صور مطلوبة في العلاقات بين الدول، لاسيما وان دفء العلاقات بات مقصدا ينبغي البحث عنه وتعزيزه وتكريسه كسياق دبلوماسي يبنى عليه لسمو الإنسانية.

لقد اتى هذا الزلزال الكارثي في زمن صعب جدا، أزمات اقتصادية تفتك في الدول ومجتمعاتها، وكوارث صحية بعد ازمة كورونا وغيرها من السلالات المتتابعة، علاوة على أزمات اجتماعية وسلوكية في مجتمعات معظم الدول كبيرها وصغيرها، وبالتالي فعل هذا الزلزال فعله وتضاعفت آثاره ومتطلبات تجاوزه، ومن هنا تبدو الجادة ماسة لإعادة هيكلة جديدة لعلاقات الدول وبخاصة منطقة الشرق الأوسط الغنية بالكوارث الطبيعية والسياسية التي فعلت فعلها في شعوبها ودولها. فهل تستبع دبلوماسية الكوارث بارتدادات دبلوماسية متسارعة تبني وئاما بين دولها؟