دراما شكسبيرية في قصة صحافية


دومينيك كامينغز بقي بعد خروجه من مبنى 10 داونينغ ستريت، قصة صحافية مستمرة، تمنح الصحافيين كما السياسيين درسا في خيار مزيد من التعلم أو الاستمرار في الغطرسة.
مثلَ كامينغز واحدا من أكثر المستشارين ضررا لرئاسة جونسون للحكومة عندما قطع الجسور بينها وبين وسائل الإعلام التي كان يثير اشمئزازها

منذ أكثر من أسبوع والصحف البريطانية مشغولة بمن أطيح به مؤخرا وكان يكنّ لها العداء ويثير اشمئزازها داخل الحكومة، لأنه يمثل قصة صحافية بامتياز عندما كان في موقعه كمستشار لرئيس الحكومة وعندما غادر منصبه.

ذلك هو دومينيك كامينغز كبير المستشارين لرئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون، رجل الحملات الدعائية الملقب بـ”مهندس اللااتفاق” في إشارة إلى تحمسه المفرط أثناء التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

خروج كامينغز من مبنى 10 داونينغ ستريت كان مثيرا بالنسبة إلى وسائل الإعلام، عندما تعمّد حمل حاجياته في صندوق والخروج من الباب الرئيسي لمبنى الحكومة، بينما مكتبه أقرب إلى أبواب خلفية أخرى كان أسهل عليه الخروج منها. تعمد هذا الخروج كي تبقى الصورة في الأرشيف الصحافي، وكأنه مستمر في غطرسته في التعامل مع وسائل الإعلام!

أعتقد أن قصة كامينغز الذي يتقلد منصبا مرموقا في الحكومة البريطانية لكنه لا يظهر على هندامه الرث أبدا، مفيد للغاية لكل صحافيي العالم العربي، خصوصا أولئك الذين أغرتهم المناصب الحكومية وصاروا هامشا لصوت الحكومة في تحويل النقائض إلى ما يشبه الحقائق والدفاع عنها!

يغادر الصحافي غرفة الأخبار إلى أروقة الحكومة ولا يقف – لسوء الحظ – مع زملاء الأمس، بل يكون مصدر خذلانهم أكثر من السياسيين أنفسهم.

كامينغز بالنسبة إلى وسائل الإعلام البريطانية معادل تاريخي لـ”سفنغالي” الشخصية الشريرة في الموروث الروائي الذي يهيمن على شخص آخر ويتلاعب به ويتحكم في قراراته، كما أطلقت عليه لقب “غريغوري راسبوتين” الذي عُرفَ بتأثيره على العائلة الحاكمة في روسيا إبان حكم القياصرة مما دفع القيصر إلى قتله والتخلص منه.

وبالأمس، استعادت وسائل الإعلام تلك الوقفة المثيرة لكامينغز عام 2016 وهو يهتف أمام مجاميع المصوتين لبريكست “نحن نستعيد السيطرة” فيما شبكات التلفزيون أعلنت للتو نجاح حملة المغادرين من الاتحاد الأوروبي.

وبعد فقدانه السيطرة في معركة السلطة في 10 داونينغ ستريت، صار قصة صحافية مستمرة، كان كذلك وهو داخل مبنى الحكومة، تمنح الصحافيين كما السياسيين درسا في خيار مزيد من التعلم أو الاستمرار في الغطرسة.

كان هناك منطق غريزي في اختيار بوريس جونسون لكامينغز مستشارا له، بحكم رغبته التواقة دائما للشعبوية، بينما كان لدى كامينغز أيضا رؤية أيديولوجية لحكومة جونسون، حيث تعهد بمواجهة وسائل الإعلام، ومع ذلك لم يثق به نواب حزب المحافظين الواقفين خلف جونسون، وهو بدوره عاملهم باحتقار غالبا، إلى درجة وصف فيها وزير البريكست السابق ديفيد ديفيس بأنه “كثيف مثل اللحم المفروم” و”كسول كالضفدع”.

كان يعامل كل فريق العمل داخل الحكومة البريطانية وخصوصا أولئك الذي يفضلون التعامل بوضوح مع وسائل الإعلام ومناقشة حملته عالية المخاطر بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق، بطريقة “إذا كنت لا تحب الطريقة التي أدير بها الأمور، فهناك الباب أمامك واللعنة أيضا”.

قاد كامينغز حكومة جونسون المنتصرة في بريكست إلى حرب مع هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” والقناة الإخبارية الرابعة عندما تم منع الوزراء مثلا من التحدث في برامج القناة، وصحيفة الغارديان ووسائل إعلام أخرى كان يُنظر إليها على أنها تمثل آراء البريطانيين الذين يشعرون بأن قدرهم جزء من أوروبا وليس خارج الجغرافيا، رافضين خروج بلدهم من تاريخه. بل كان يعمل فقط من أجل الذين صوتوا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.

وفي الوقت الذي بدأت تنهار فيه مقاربته للتعامل مع وسائل الإعلام بمغادرته منصبه الراسبوتيني المسيّر لسياسية جونسون، فإن الموقف العدائي الذي يكنه 10 داونينغ ستريت تجاه وسائل الإعلام لا يعني أنه لم يكن له تأثير. فقد كانت إحدى المفارقات إصرار كامينغز على أن التغطية الصحافية اليومية ليست مهمة، بينما كانت حكومة جونسون تأمل في استباق الفضائح التي تلوح في الأفق وتزويد وسائل الإعلام، ما يجعلها تخفف من انتقادها لسلبية أداء الحكومة خصوصا ما يتعلق بمعالجة وباء كورونا.

وهكذا مثلَ كامينغز واحدا من أكثر المستشارين ضررا لرئاسة جونسون للحكومة عندما قطع الجسور بينها وبين وسائل الإعلام التي كان يثير اشمئزازها، الأمر الذي يفسر جانبا من خروجه بعد أكثر من عام على تقلده منصب كبير المستشارين لرئيس الوزراء.

وظيفة المستشارين للزعماء ورؤساء الحكومات، وخصوصا ما يتعلق بالمستشارين الإعلاميين، تكمن في إضافة بُعد سياسي إلى المشورة. وليس التصرف كمسؤولين تنفيذيين كما يحدث في الغالب. سنجد عشرات من كامينغز في عالمنا العربي يجلسون في مباني الحكومات، وبدلا من الدفع باتجاه حرية تبادل المعلومات وإشاعة ديمقراطية حرة من الأفكار، فإنهم يعملون على حصر الأخبار لمنع وصولها إلى الجمهور.

لذلك أرى أن الدراما الشكسبيرية التي خلفها خروج دومينيك كامينغز من أعتق قلاع الديمقراطية في العالم، تمنحنا درسا لا ينتهي تأثيره بعد زمن قريب.