دروس الحرب النفسية الإيرانية في المواجهة الأخيرة

أتقنت إيران لعبة التوتر مع الكيان الصهيوني مهما كانت نتيجة الهجمات عسكريا.

لأول مرة في عصرنا الحديث تتهيأ أمام المختصين في علوم الحرب النفسية دراسة تأثير الحرب النفسية الإيرانية الأخيرة ودروسها والرسائل التي أرسلتها طهران للعالم في المواجهة الأخيرة مع الكيان الصهيوني بغض النظر عن وجهة نظرنا بإيران إن كنا خصوما لها أو نعبر بحيادية عن طبيعة تلك الحرب، حين تمكنت إيران من فرض وجودها كأمر واقع في هذه الحرب النفسية العسكرية شئنا أم أبينا.

ومن وجهة نظري كمختص في الحرب النفسية منذ أربعين عاما أجد أن إيران نجحت في حملة حربها النفسية في معركتها الأخيرة مع الكيان الصهيوني في إستخدامها للمئات من الطائرات المسيرة والصواريخ البالستية وتلك التي تسمى بعيدة المدى والتي أطلقتها وشاهدها العالم أجمع بغض النظر إن حققت أهدافها التدميرية أم لا.. لكنها كانت رسائل بالغة التأثير بكل تأكيد.

ومما يلاحظ ان إيران من خلال أول مواجهة عسكرية في تاريخها مع الكيان الصهيوني بإستخدام قوات ردع متعددة الأوجه فإنها إستطاعت تحقيق حملة رعب نفسية ضد الكيان الصهيوني طوال فترة تجاوزت الإسبوع قبل أن تبدأ إطلاق صواريخها وكان العالم كله يترقب كيف سترد إيران على إستهداف قياديين عسكريين إيرانيين كبار لها في دمشق قرب قنصليتها بسوريا، وحيرت كثيرا من المتابعين في الشأن العسكري في الطريقة التي سترد بها وقد إستخدمت كما ذكرنا طائراتها المسيرة وصواريخها البعيدة المدى للوصول الى داخل الكيان الصهيوني بالرغم من أنه تم إسقاط الكثير منها بتعاون عسكري أميركي فرنسي إسرائيلي لمواجهة تلك الصواريخ والمسيرات قبل وصولها الأراضي الفلسطينية وفي قلب تل أبيب، لكن بعضها وصل لقواعد عسكرية جوية إسرائيلية وإستهدفها وإن كان التأثير محدودا بطبيعته.

وثاني تلك الدروس المهمة أن إيران إستفادت من إختبار قدراتها العسكرية الصاروخية والطائرات المسيرة وعرفت نقاط الخلل التي تعترضها لإمكانية تلافي تلك الأخطاء في المستقبل وتطويرها بقدرات أكثر تأثيرا، بل أن مجرد وصول تلك الصواريخ والطائرات المسيرة الى داخل الكيان الصهيوني فهي تعد رسالة قوية وفترة عصيبة في تاريخ هذا الكيان الذي حاول على الدوام التقليل من مخاطر خصومه الآخرين في المنطقة ومنهم إيران التي شاركت لأول مرة في هذه الحرب إنتقاما من ضرب قنصليتها بسوريا وإستهدافها قادة عسكريين إيرانيين كبار، كانت إيران تعدهم خسارة كبرى لا يمكن أن تعوض إلا برد إيراني يتناسب وطبيعة تلك الخسارة الباهظة.

كانت الحملة التسقيطية التي واجهتها إيران من جهات حرب نفسية من دول إقليمية وغربية كبيرة الحجم، في محاولة منها للتقليل من تأثيرات ما إستخدمته إيران من وسائل ردع عسكرية والإدعاء بأن أغلبها سقط قبل وصوله الحدود مع الكيان الصهيوني وتم تدميرها قبل أن تبلغ أهدافها، بل حتى من وصل منها لم يحقق الهدف من الردع كون تأثيرات المسافات الطويلة التي تمتد لما يقرب من 700 كم هي من تجعل أمد تلك الأسلحة قليلة التأثير وبلا فاعلية تذكر، كما حاولت بعض جهات الدعاية المعادية لإيران تكرار طرحها في الأخبار من أنها عوامل تحد من أن يكون لتلك الأسلحة قدرات تأثير ردعية.

لكن إذا ما تم إعتماد معايير لتأثيرات حملة الحرب النفسية الإيرانية ضد الكيان الصهيوني فإنها قد أجادت إستخدام الحرب الدعائية النفسية كعامل له تأثيرات كبيرة رافقت حملة حربها الصاروخية وطائراتها المسيرة التي إختبرت قدراتها لأول مرة كما أسلفنا، ووجدت أن إستخدامها لوسائل ردعها قد حقق لها الكثير من الأهداف، بالرغم من حملة التشكيك الكبرى التي واجهاتها إيران من أجهزة دعاية وحرب نفسية شملت دولا إقليمية وصهيونية ودولية أخرى.

ومما تم توجيهه من إنتقادات لإيران أيضا أنها هي من أعلنت عن توقيت إطلاق مسيراتها وصواريخها قبل أن تتجه الى الكيان الصهيوني وفقدت طابع المفاجأة والسرية في توجيه تلك الحرب، ولكن الحروب الحديثة لم يعد أنها تشترط طابع المفاجأة والسرية في توقيت الإطلاق كونها معروفة عبر الأقمار الإصطناعية وأجهزة التجسس والمخابرات والإستخبارات، بل هي قلدت أساليب الغرب نفسه في حروبه الردعية التي إستخدمها الأميركان ضد أهداف داخل العراق وبعض دول المنطقة للتأثير في حملة حربها النفسية كونها تعرف مقدما أن تأثير تلك الحملات في الجانب النفسي هي أكثر تأثيرها من بعدها العسكري نتيجة بعد المسافة بين إيران والكيان الصهيوني والتي تقدر مسافاتها الطويلة بمئات الكيلومترات.

والأكثر من هذا أن الرسالة الأكثر تاثيرا من قبل إيران لدول المنطقة ومنها دول الخليج والسعودية على وجه التحديد بل وأية دولة تعد من خصوم إيران في المنطقة أن هذه هي قدرات إيران الردعية التي تمتلكها وهي قادرة على الوصول الى أهدافها في هذه الدول متى شاءت وعلى تلك الدول أن تتعظ ألف مرة قبل أن تفكر بمهاجمة إيران عسكريا.

بل إن إسرائيل نفسها إستفادت من حملة الردع الإيرانية هذه في أنها عرفت نقاط قوة أو ضعف وسائل الردع الإيرانية لأغراض مواجهتها في المستقبل.. أي أن كلا الطرفين إيران والكيان الصهيوني إستفادا من نقاط ضعف تلك المواجهة، وعرف كل منهما كيف يواجه عدوه أو خصمه في أي حرب مقبلة.

إن إيران في مواجهتها هذه مع الكيان الصهيوني أبعدت عنها الإنتقادات التي كانت توجه لها على الدوام من أن هناك توافقا مشتركا في التوجهات بين الطرفين حتى في إختيار توقيت لمعركة ونوعية الأسلحة وأين تسقط داخل الكيان الصهيوني، لكن المصلحة الإيرانية إقتضت الرد على هجمات الكيان الصهيوني على شخصيات إيرانية وضرب قنصلية لها بدمشق، وإن دول العالم أعطتها حق الرد إنطلاقا من إستهداف أرض إيرانية عندما يتم إستهدف قنصلية أو سفارة لها أينما تكون.

هذه حقيقة حملة الحرب النفسية الإيرانية التي أجادت إستخدامها في معركتها الأخيرة مع الكيان الصهيوني ليلة الثالث عشر من نيسان 2024، وهي برغم كل الإنتقادات وحملات التقليل من شأن تلك المواجهة وتأثيراتها إلا أن كثيرا من المنصفين وجدوا أن إيران إستفادت من تلك الحملة في حربها العسكرية والنفسية وحتى التقنية، واختبرت قدرات وسائل ردعها لتتجاوز أخطاءها في المستقبل وقد أدت أغراضها على أكمل وجه.