راهنية التعليم في مصر بين تطويره وتدميره

لماذا الاصرار على تخريج متعلم مشوه الملامح، لا هوية وطنية له، وكان الهدف من ورائها ربحيا وسياسيا لخدمة مشروع التوريث.

بالضرورة الحتمية، كثيرا -بل مطلقا أيضا- لا يفطن القائمون على تطوير المشهد التعليمي في مصر في أية فترة زمنية راهنة أو منصرمة طبيعة المتعلمين وكذلك نوعية المعارف والمعلومات وكذلك المهارات النوعية التي ينبغي أن تقدم للطلاب في المراحل الدراسية المختلفة، حقيقة أؤكدها بتوصيفي أحد أساتذة التربية والتعليم ليس كمتفرج على المشهد أو متلق سلبي لإحداثيات التعليم.

والشعب المصري الفصيح هو الشعب الوحيد القادر على الحديث في أمرين بالغي الصعوبة؛ أعني التعليم وكرة القدم، وكلا الأمرين يعانيان من ظواهر مرضية تحتاج إلى جراح عالمي كالدكتور مجدي يعقوب. ويمكنني أن أختزل السطور المقبلة في ملحوظتين سريعتين: الأولى مستوى خريجي المدارس المصرية؛ والثانية مستوى أداء اللاعب المصري الذي أصبح مشغولا بقضايا لا تتعلق بالمستطيل الأخضر، كالمعلق والناقد والمشجعين والمشجعات والهتيفة (أي هواة الصراخ والهوس التشجيعي دونما وعي) والألتراس والبنات الجميلات اللاتي يذهبن لمشاهدة مباريات كرة القدم على طريقة اللون البينكي لا يناسب شفتي.

وأما بالنسبة للكتاب المدرسي فأنا وغيري كثيرين من المتخصصين في التربية والمناهج والتدريس في شتى بقاع الأرض لا زلنا في عجب من إصرار وزارة التربية والتعليم وأولياء الأمور والتلاميذ والمدرسين أيضا في قصر المعرفة على كتاب محدد يمتحن فيه الطالب آخر العام، وتصر الوزارة ومؤسساتها التعليمية على تغييبنا بأنها تمارس أنشطة معرفية خارج حدود وتخوم ورسوم الكتاب المدرسي صغير الحجم قليل الفائدة. وتزيد من إصرارها في التغييب على الاعتماد على بنك المعرفة المصري و"السيستم" الإلكتروني بحالة صحية سلبية، فضلا عن سقوط عشرات الخطوط اللاسلكية المتصلة بشبكات الإنترنت.

إن فكرة الكتاب المدرسي ذي الصفحات المحدودة والمعلومات المكرورة منذ نصف قرن تقريبا باتت عقيمة لا يأخذ بها سوى بعض البلدان العربية التي منها مصر المحروسة، وكذلك معظم الدول والبلدان الإفريقية التي لا تعرف من التعليم غير هيئة وشكل الفصل ذي الجدران الخشبية والسبورة شبه السوداء، والمدرسة غير ذات الأسوار والمعلم الذي يذهب إلى مدرسته مكبلا بالقيود الإدارية والتدريبات الفنية العقيمة وتمرد وشغب التلاميذ وأولياء أمورهم الذين أصبحوا يتدخلون في التعليم وكأنهم صانعو قرار المعرفة والتعلم.

ليتنا نفكر قليلا في ماهية وفكرة الكتاب المدرسي الذي يحمل معلومات وأرقاما وأفكارا ليست جديرة بالاستخدام والممارسة والتطبيق، فمثلا لو التقطنا بعضا من كتب اللغة العربية بالمراحل التعليمية المختلفة، وقمنا بمحاولة تحليل محتواها الذي من المفروض أن يكون هذا المحتوى لغويا وقائما على المهارات اللغوية في المقام الأول والأخير، فماذا نجد؟ سنكتشف أن الكتاب لا علاقة له باللغة، بل هو كتاب في غالب الأمر يعالج مواد أخرى كالجغرافيا والتاريخ والسيرة الذاتية والعلوم وبعضا من قضايا المواطنة وحقوق الإنسان، أما اللغة ذاتها فلا شيء يذكر.

وهنا يتقمص معلم اللغة العربية أدوارا أخرى غير أدواره اللغوية المعروفة، حتى يصير شريدا لا يفطن أهو يعلم ويكسب طلابه خبرات لغوية ومهارات قرائية وكتابية وتحدثية أم صار معلما للتاريخ والجغرافيا والعلوم، إني أتمنى أن يأتي صباح جميل على مصر يعلن فيه الوزير المحترم الدكتور أحمد زكي إلغاء الكتاب المدرسي في صورته الروتينية الذي صار عبئا على الطالب، وعبئا على ولي الأمر الذي يهرع لشراء الكتب الخارجية باهظة الثمن، وأخذ يبحث عنها كالمخدرات التي تسكن أوجاع ابنه وبنته وتغيب عقليهما طيلة ثمانية أشهر هي مدة الدراسة الرسمية.

وإذا فكرنا قليلا في إلغاء الكتاب المدرسي فإن هناك نتائج إيجابية بالغة الأهمية، منها أن الطالب سيصير متعلما وليس تلميذا قابعا في الفصل بجوار زملائه، بل سيقفز باحثا عن معلومة تم تقديمها داخل الفصل، وسيفتش عن شاعر استمع إلى بعضا من أبياته من معلمه اللغوي أي الذي يقدم له لغة لا معرفة مجردة. كما أن الطالب الذي سيصبح متعلما نشطا سيرى بنفسه أن هناك مصادر أخرى للمعرفة ولاكتساب المهارات اللغوية كالإنترنت، والمكتبة، والندوات والصالونات الأدبية وجماعات اللغة بالنوادي.

وبدلا من تحارب وزارة التربية والتعليم صناع الكتب الخارجية وتجارها فإن إلغاء الكتاب العقيم سينهي فجأة -وبدون جلسات قانونية بالمحاكم- قمع وسطوة تجار الأحلام وأصحاب المصالح الذين يلهثون وراء المال والتواجد متجاهلين مستقبل هذه الأمة المتمثل في أبنائها الأبرار بل المساكين أيضا.

فالطالب بمجرد أن يلتقط كتاب الوزارة ذا الأنشطة الباهتة الضعيفة والتنسيق التكراري المحفوظ يهرول إلى أقرب مكتبة لبيع وتداول الكتب الخارجية فيلتقط أيا منها المهم أنه يهرب من صورة وشكل كتاب الوزارة المدرسي الذي يذكره دوما بنصائح أبيه وأمه وجدته المسنة. وهذا الكتاب الخارجي هو بمثابة مسكن موضعي سرعان ما يذهب مفعوله عقب الانتهاء من الامتحان، فهو مجرد تدريبات وأسئلة تدور في فلك الكتاب المدرسي الرسمي نفسه الخالي بالضرورة من اللغة وتنمية مهاراتها المتنوعة.

ومن المؤسف حقا في تاريخ هذه الأمة العظيمة أن يتفرغ بعض السياسيين لمناقشة أزمة وزارة التربية والتعليم وليتها التفكير أيضا، مع أصحاب دور نشر الكتب الخارجية، وكأنهم يتدافعون دفعا لتقليص المعرفة في كتاب ضيق الصفحات والسطور والصور ذات الألوان المحددة والتي يتفاخر واضعوها بتحديد ألوانها في نهاية كل كتاب، فالسياسيون في مصر من دورهم أن يفكروا جليا ماذا لو أصبحت المدارس خالية من كتاب مدرسي تقليدي يجرد المعرفة، ويقنن المهارات اللغوية التي ستنقرض قريبا، بالتأكيد ستكون فرصة عظيمة كي يبحث المعلم عن معرفة غير تقليدية، وسيفكر الطالب في آليات جديدة لتقديم أعماله المدرسية بدلا من أن يصنعها أبوه الموظف الذي لا يقرأ الصحف اليومية.

إن التعليم استثمار، وقضية أمن قومي تشبه الجدار الفولاذي الذي تشيده مصر عند حدودها، والتعليم كما عرفت وعلمت وتلقيت وألقيت وعلمت ودرست هو عملية مستمرة مستدامة، لا ترتبط بشخص أو مسئول أو كتاب، بل تتعانق مع سياسات واضحة المعالم، ورؤى استشرافية تهدف إلى الإصلاح والنهوض، وكم أتمنى أن أرى في عهد وزير التعليم المصري طارق شوقي المهموم بالتكنولوجيا أكثر من اهتمامه بالعقل المصري نفسه، هذا العام طفلا يتحدث العربية بطلاقة، وآخر يقص لي قصة عن أهمية التسامح الديني، وثالثا يكتب مقالا عن التيارات السياسية في مصر، ورابعا يعد صحيفة مدرسية تعلق على جدران الفصل لا يخططها والده.

والحقيقة أن فكرة الهجوم على المؤسسات التعليمية غير واردة في هذه المرحلة التي تعاني فيها مصر من أزمات تموج بطولها وعرضها، لأننا في هذه المرحلة نحتاج إلى ترميم أركان هذا الوطن ومن ثم المساهمة بخطى ثابتة صالحة في بنائه من جديد، لذا فالهجوم في حد ذاته مرفوض، أما التنويه والإشارة إلى مواطن الخلل فهو أمر جائز من الناحتين الشرعية والوطنية.

ولعل الذين هرولوا إلى إلحاق أبنائهم بمدارس أجنبية أو دولية لها صفة الازدواجية الفكرية لم يخطر على بالهم أن مخطط التوريث قد يفشل، لأن هواء الرئيس المخلوع مبارك قد حمل لهم نسائم مفادها أن الفكر الجديد والعبور للمستقبل مرهون بالعلاقة الوثيقة بالتوسع والتجديد في النظم التعليمية، وبالتأكيد لم يقصد ذلك لا هو ولا نجله الذي كان يعد وريثا محتملا لخلافته في إدارة مصر.

وهو في ظني كان يدجج هذه الأنماط التعليمية بل يحاول لي ذراع الوطن في جعل هذه الأنماط تكتسي بالصبغة الحكومية غير الربحية من أجل تهميش أكبر قدر من العقول والقلوب لأن هذا سيسهل مهمته في تنفيذ مخطط التوريث الذي بات أمرا واضحا لا يقبل الشك منذ عام 2003.

ولأنه ورئيس حكومته آنذاك الدكتور أحمد نظيف والمجموعة المختارة بلجنة السياسات كانوا جميعا رهن العقلية التقليدية التي أفرزت فيما بعد موقعة الجمل، فكروا أن الطريق الوحيد لتنفيذ وتسهيل مخطط التوريث هو التعليم لجأوا إلى عدة حيل لم تفلح مع هذا الشعب العجيب في قدرته، فكدسوا المناهج بالتعليم العام بمعلومات ومعارف لا يطيق بها الطالب والبيت ولا المدرسة أيضا، ولجأوا إلى أنظمة تعليمية لا تتمشى مع وطن كان يخطو نحو الديموقراطية بخطى وئيدة، فاستحدثوا ملف الإنجاز والتقويم الشامل والاختبارات التجريبية وغير ذلك من عجائب التعليم الذي هو في الأساس أصبح ماء آسنا وهواء فاسدا.

ثم اقترح بعض عباقرة مهندسي مخطط التوريث بالتوسع في التعليم الأجنبي في مصر، وزيادة قاعدة المدارس ذات الهوية المزدوجة لا لوجه الله والوطن، وإنما لتطويق أية محاولات تجهض هذا المشروع الخبيث، فإن اهتمام الآباء والأمهات بتعليم استشرافي لأولادهم يجعلهم ينتظرون أي جزرة تلقى عليهم من رأس النظام، وما أجمل أن يعطي الوريث إشارة أو عبارة عابرة باللغة الإنجليزية حتى يلتقطها هؤلاء الآباء والأمهات إيذانا شرعية هذا النمط التعليمي الذي اختاروه لأبنائهم، وكأن لسان حالهم يقول: أرأيتم هذا وريث الخلافة المصرية يتحدث مثل أبنائنا، إذن فالمستقبل لنا.

ولكن سرعان ما تبدد حلم الوريث، وأعقبته الفوضى الذهنية التي خالطها الغموض والالتباس لدى أولياء الأمور والطلاب أنفسهم حول جدوى هذه الأنماط التي وئدت مع خلع مبارك، وانتفاء الصفة السياسية لوريثه إلى أبد الدهر، بل ينبغي أن نؤكد على أن هذه الأصناف الشهية من التعليم كانت في الأساس لبنة في بناء أعد خصيصا من أجل بقاء مبارك وولده ورجاله وحاشيته المقيمين في طرة الآن.

وستظهر المشكلات التعليمية لهذه المدارس التي تتبنى أنماطا تعليمية لم تعد صالحة لهذا الوطن الآن، هذه المشكلات ستنكشف تدريجيا من ساعة ما يدرك الآباء أنهم لعبوا لعبة خاسرة مع النظام البائد وأنهم لم يكونوا سوى أداة صماء استخدمت لتكريس ثقافة التوريث، وأن المستقبل التعليمي الذي كان في الماضي يبدو في صورة وردية جميلة سرعان ما سيتحول إلى كابوس حينما يرفض المجتمع دخول أفكار وتيارات وأنظمة تعليمية وافدة لا تنتمي لثقافة شعبية مصرية الصنع والإعداد. وسنفاجأ بأن هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم من هذه المدارس المشوهة تعليميا والمخالفة لتقاليدنا الثقافية يحاولون الولوج في النسق المجتمعي وهم يحملون فكرا مغايرا وهوية مختلفة وطريقة حياة لا ولن تتفق مع وطن بدا يستفيق عن ديموقراطية وحرية وعدالة اجتماعية.

وستنكشف الرؤى أيضا حينما تزول الغشاوة التي صاحبت حلم هؤلاء الآباء بمصير جميل لأبنائهم لم يكن يتم إلا في ظل عقود مبارك ومن بعده الوريث الذي كان محتما، فسيعيدون النظر عشرات المرات في طبيعة هذه المدارس التي تقدم نهجا مغايرا لطبيعة مصر الحالية، وسيكتشفون مثالب هذه الأنظمة التعليمية والقيادات القائمة عليها التي أختيرت بنفس منطق الإعداد للوراثة المزيفة، والتي كان مفادها اختيار أهل الثقة البعيدين عن أي ملمح للكفاءة التعليمية أو التربوية.

بل إنني لا أزعم أن بعض القيادات لهذه المدارس التي تقدم نظما أجنبية تنفذ أجندات مشبوهة لا يمتلك أية خبرات تعليمية ناجحة، بل إن الأمر كله خضع لسياسة المصالح تتصالح.

وفي ظل محاولة جادة من أبناء هذا الوطن فإننا نطمح من نواب هذا البرلمان التاريخي غير المزور أن يدرك طبيعة هذه المؤسسات التي بحق تستهدف تخريج متعلم مشوه الملامح، لا هوية وطنية له، وكان الهدف من ورائها ربحيا وسياسيا لخدمة مشروع التوريث، وإذا كان النظام البائد يأمل في محاولة اغتيال هذه العقول الناشئة، لكن هذا الشعب نجح بالفعل في قمع محاولته البائسة، فإنه من حقنا الآن أن نحتفي بوطن قرر ألا يغتال مرة أخرى.