رمضان .. طقوس مصرية محببة

تتعدد الطقوس مع دخول رمضان، فالاستعدادت تبدأ من رجب بتدبير ميزانية المنزل وتوفير احتياجات الضيف الكريم.
البعد الزمني للطقوس، وارتباطها بالمعتقدات الدينية، يكسبها قدرا من القداسة
طقوس أخذت من بيئتنا وارتبطت بها لتترك الثقافة والموروث الشعبي بصماتها 

"بكره أول رجب ياسيادي"
نداء كان يجوب به المنادي قديما ينبه الناس بأن الغد هو أول أيام رجب، وكان الناس يستقبلونه بطقوس محببة إلى النفس بتبادل التهاني وكثرة الدعاء وعمل صواني الأكل وتوزيع الحلويات فيفرح الصغار، ويبدأ حساب الأيام المتبقية على رمضان. 
والطقوس هي: مجموعة الظواهر السلوكية المتكررة التي اتفق عليها أبناء المجتمع،  متمثلة في عدة أنواع وأشكال مختلفة تتناسب والغاية التي دفعت الجماعة للقيام بها. أو هي كما عرفها  محمد الخطيب، في كتابه الأنثربولوجيا الثقافية: إبداعات ثقافية بالغة الإتقان تقتضي ترابط أفعال وأقوال وتصورات أعداد كبيرة من البشر على امتداد أجيال عديدة. 
ولعل هذا البعد الزمني للطقوس، وارتباطها بالمعتقدات الدينية، يكسبها قدرا من القداسة. كما أنها تتحول مع الوقت إلى نزوع نوستالجي، نشعر بالحنين إليه، كلما اقتربت المناسبة، ونبدأ في الاستعداد له بشغف. وهكذا فالقداسة والحنين متلازمتان مرتبطتان بالطقوس عموما، بغض النظر عن طبيعة المناسبات والمعتقد الديني المرتبط بها، ولهذا سنجدها بأشكال مختلفة في كل الثقافات. كما أنها ترتبط بتحديد هوية هذة المجتمعات، ومن ثم تحتفظ بجذورها العميقة على الرغم من كل مظاهر التطور التي تشهدها المدنية.   
تتعدد تلك الطقوس مع دخول رمضان، فالاستعدادت تبدأ من رجب بتدبير ميزانية المنزل وتوفير احتياجات الضيف الكريم الذي يتفنن المصريون في حسن استقباله مع أن لسان حاله يردد دائما أنا شهر الزهد ياسيادي. 

ليستمر الصوم ككثير من الممارسات الدينية له طقوس أخذت من بيئتنا وارتبطت بها لتترك الثقافة والموروث الشعبي بصماتها على الإيمان الجمعي كنوع من التدين الشعبي المرتبط بالعادات والتقاليد

ويمكن ملاحظة أن هذا الاحتفال بمقدم (رمضان) يشمل جميع  الطبقات، بما يعكس مظاهر التوحد الاجتماعي في الاهتمام بالمناسبة، وإن ظلت كل فئة لها طريقتها الخاصة في الاحتفال، فالغني غير الفقير، والكبير غير الصغير. أما أول دلائل البهجة في استقبال رمضان، فتبدأ عادة مع الأطفال بتزيين الشوارع والحرص على إضاءتها قدر الإمكان. فكنا نحرص على الاحتفاظ بكتبنا الدراسية حتى نتفنن في صنع شرائط من الزينة بصحبة أولاد الجيران، ولصقها بعجينة من الدقيق والماء، وتلوينها، ثم يأتي دور الشباب الأكبر سنا لجلب السلالم وتعليقها بطول الشارع وعرضة، وفي وسطها فانوس كبير يضىء الشارع بأكمله بصحبة أشرطة من النور أيضا، وبعضنا لا يزال يعلق فانوس رمضان - الذي نحتفظ به  داخل منازلنا - في بلكونة البيت. وهي مناسبة للابتكار والتفنن في صنع (ماكيتات) مصغرة للرموز المقدسة (الكبعة الشريفة، الأهلة، المساجد، والفوانيس..). 
صحيح أن أدوات الطقوس تتغير بفضل التطور الصناعي، لكن الطقس نفسه في معناه الديني يظل قائما، فالفوانيس التي كانت تضاء بالشموع في طفولتناـ أصبحت الآن تضاء ببطاريات داخلية تعطي ألوانا وأصواتا تزيد من بهجة الأطفال.
وكنا نفرح بزحفة هواء ناعمة تخشخش أشرطة الزينة، فنسمع نغما عذبا مصحوبا بنفحة إيمانية، وكأن هذه الخشخشة يد تطبطب على الروح وعطر نتشممه بأنوف ونقول رائحة رمضان حلوة  ياولاد!
نعم فرائحة البيوت تكون لها خصوصية في رمضان، تمتزج روائح البخور بالعصائر التى تطورت كثيرا بتطور العصر بدءا من التمر وقداسته عند المسلمين لكسر الصيام قبل الإفطار أو تناوله مع السحور لضمان عدم العطش وتطور ليختلط باللبن ثم بأنواع متعددة من الياميش ليتحول إلى كوب خشاف معتبر "ومبتشربوش شخاف ليه جملة أحمد حلمي الشهيرة في فيلم عسل أسود".
وروائح الطهى والحلويات. التي ارتبطت أيضًا برمضان، فلا تخلو مائدة رمضان من القطايف والكنافة ومع تنوع طرق إعداد الكنافة فأنه يظل لها طعم خاص في شهر رمضان، والأكل له مكانته الخاصة في رمضان. 
و"الأكل" عموما تعبير مصري أصيل في المناسبات والأعياد أقوى من أي تحول، ويظل المحشي ودكر البط فطار أول يوم رمضان في الصعيد كطقس من الطقوس المقدسة. 
وللأذن أيضا متعتها التي تتشبع بأغاني رمضان الجميلة التي مهما مر عليها وقت تظل محافظة على هويتها لا تتغير ولا تستبدل بأخرى حديثة.
خارج المنزل كنا صغارا نحمل فوانيس بشمعة تحولت فيما بعد إلى لمبة صغيرة نردد "وحوي يا وحوي إيوحة"، دون أن نعرف من هو "وحوي" ومعنى "إيوحة"، والكثيرون إلى الآن لا يعرفون أنها كلمات فرعونية.
قيل إن عبارة: "وحوى يا وحوي إيوحة"، ترجع الى اللغة الهيروغليفية، ومعناها: "افرحى يا إيوحة"، وإيوحة هي أم أحمس الذي طرد الهكسوس من مصر، فلما نجح في طردهم خرج الناس يهنئون أمه بذلك فهى الملكة الصابرة التي فقدت زوجها وابنها ودفعت بابنها الأصغر ليحشد الحشود لطرد الهكسوس. فكلمة "إياح" وهى الملكة إياح حتب أم أحمس معناها قمر وكلمة "وحوي" الفرعونية معناها مرحبا أو أهلا، فمعنى الجملة التي رددها المصريون "وحوى إياحة" أو "أهلا ياقمر" أصبحت تعويذة وشعار المصريين لاستقبال كل قمر يحبونه وعلى رأسه قمر رمضان.
وكنا نررد مع المنشد ببهجة خاصة ممسكين الفوانيس الملونة ومع كل عبارة نردد "إياحة":

بنت السلطان... إياحة، 
لابسة الفستان .. إياحة 
بالأخضرى .. إياحة
بالليمونى.. إياحة
ويارب تخليلي سي عثمان 
وتخليلى نينته سي عثمان
لولا سي عثمان لولا جينا.. يالاالغفار
ولا تعبنا رجلينا ... يالا الغفار
ولا تزال حاضرة في أذهاننا وستزال تلك النصوص الفلكورية التي استوحى منها  الشاعر حلمي المانسترلي صاحب قصر المانسترلي بالمنيل أعنيته الشهيرة والتي لحنها أحمد الشريف وغناها أحمد عبدالقادر منذ 80 عاما ولا تزال باقية يرددها الأطفال لأن لها بهجتها الخاصة مهما مرت السنون، فالأطفال هم بمثابة البهجة الأولى لرمضان الذين نبثهم حنيننا وذكريات طفولتنا لنورثها لهم ونستمتع وهم يرددونها وحبذا لو سردنا سير الراحلين من خلالهم لنشبع نوستالجيتنا. 
وحوي يا وحوي إياحة
روحت يا شعبان إياحة
وحوينا الدار .. جيت يارمضان
وحوي يا وحوي إياحة
هل هلالك والبدر أهوه بان... يالله الغفار
شهر مبارك وبقاله زمان... يالله الغفار
جيت في جمالك سقفوا ياعيال.. يالله الغفار
محلا صيامك في صحة وعال.. يالله الغفار
نفدي وصالك بالروح والمال
وحوي يا وحوي
****
طول مانشوفك قلبنا فرحان... يالله الغفار
يكتر خيرك أشكال وألوان ... يالله الغفار
بكره في عيدك نلبس فستان
وحوي يا وحوي
هاتي فانوسك ياختي يإحسان ... يالله الغفار
آه ياننوسك في ليالي رمضان.. يالله الغفار
ماما تبوسك وباباكي كمان
وحوي يا وحي
وربما مناسبتها للأطفال ومواكبة لقانون التطور ما جعل محمد منير يغنيها بكلمات ولحن آخر محافظا على روحها: 
وحوى يا وحوي
وحوي يا وحوي مرحب رمضان
رمضان جنة جت من الرحمن
شمعة بتكبر.. إيوحة
في فنوس أخضر.. إيوحة
رمضان نور.. إيوحة 
.................
وتكثر أغاني رمضان الفلكورية التي لا يكتمل الإحساس برمضان إلا بسماعها "مرحب شهر الصوم مرحب" غناء عبدالعزيز محمود:
مرحب شهر الصوم مرحب ..
لياليك عادت بآمان ..
بعد انتظارنا وشوقنا 
جيت يا رمضان ..
مرحب بقدومك يا رمضان ...
أن شالله نصومك يا رمضان .
"رمضان جانا" من غناء محمد عبدالمطلب وكلمات حسين طنطاوي ولحن محمود شريف:

Ramadan
اصحى يانايم وحد الدايم

رمضان جانا وفرحنا به ..
بعد غيابه وبقاله زمان..
غنوا معانا شهر بطوله ..
غنوا وقولوا أهلا رمضان.
ومن لا يشعر ببهجة وهو يستمع لمحمد فوزى بصحبة الأولاد و"هاتوا الفوانيس ياولاد": 
هاتوا الفوانيس ياولاد 
هانزف عريس ياولاد، 
هيكون فرحه تلاتين ليلة 
هنغني ونعمل هوليلة
وهنشبع من حلوياته، 
هاتوا الفوانيس ياولاد ..
كل حبايبة راح يعزمهم، 
متواعدين وياه هيفطرهم ويسحرهم. 
ومن الأغاني التي أحببناها أيضا أغنية "أهلا رمضان" لمحمد عبدالمطلب، "وحالو ياحالو"، وأغنية "سبحة رمضان لولوى ومرجان"، "وأهو جه ياولاد" للثلاثي المرح صفاء ووفاء وثناء. 
ومن منا لا يتذكر المسحراتي وطبلته المدوية في ظلام الليل ينادى أفراد المنزل كل باسمه، وهو أحد طقوس شهر رمضان التي رافقته منذ بداية ظهورها في مصر 238 للهجرة واسمه مشتق من السحور، أي تناول وجبة السحور، قبل أذان الفجر، والبعض يرجع التسمية إلى جذرها اللغوي "سِحر" لما رافق شخصية صاحبها من جاذبية وتأثير روحاني.
يردد: اصحى يانايم وحد الدايم  ... سحوررر يانايم، رمضان كرييييم...  
لتنقرض طبلة المسحراتي مع وجود المنبهات والتطور التكنولوجي وعدم النوم فلا نحتاج لمن يوقظنا ونحن لازلنا ساهرين نتمنى أن نغمض أعيننا ويعود بنا الحنين لغرف نومنا وطرقات أمنا على الأبواب أو ربتاتها الخفيفة فوق أجسادنا ونحن نيام لنستيقظ على قبلة منها اصحوا السحور ياولاد ...فننهض بجانب الشباك نشاهد المسحراتي والأولاد بصحبته حاملين فوانيسهم وهو ينادى  بأسمائنا التي اتفقنا معه على ترديدها  بينما أمى تعد السحور.
ولا ننسى مدفع رمضان وقت الإفطار وصيحاتنا تعلو ضرب المدفع وبعدها يعلو الأذان بصوت الشيخ محمد رفعت. 
وللعين نصيب من تلك المتعة برؤية زينة رمضان بألوانها المبهجة والتفنن في أشكالها التي لم تعد تقتصر على الأشرطة التي كنا نصنعها من كتب العام السابق التي نحتفظ بها خصيصا لصنع الزينة تطورت لأشرطة ملونة تباع في المحلات وأشرطة كهربائية مضيئة بفوانيس وأهلة صغيرة. إضافة لأقمشة الخيامية التي تصنع منها مفارش السفرة والمناضد وبياضات الأنتريهات والكنب في غرف المعيشة. 
فالطقوس ليست مجرد واجبات أو عادات نستقبل بها رمضان فقط، إنما هي تغذية روحية تعطينا المزيد من البهجة وتعمل على اتزاننا النفسي وتستمد فاعليتها الحقيقية والأمان الذي تمنحه للذات، والقدرة على تعديل المواقف من خلال تماسك الجماعة التي تقيمه، فنستعيدها لنستشعر ذلك الحنين الطفولي للحظات دفء واحتواء ومتعة حسية وبصرية. 
لتجتمع الحواس كلها محتشدة بقدسية الشهر الفضيل من شم وسمع وتذوق وبصر ويتبقى اللمس بالأحضان والقبلات التي نستقبل بها الأقارب والأصحاب في عزومات المنزل وعلى المقاهي .. تلك الحاسة التي أفقدنا إياها كوفيد 19. 
ليستمر الصوم ككثير من الممارسات الدينية له طقوس أخذت من بيئتنا وارتبطت بها لتترك الثقافة والموروث الشعبي بصماتها على الإيمان الجمعي كنوع من التدين الشعبي المرتبط بالعادات والتقاليد.