روسيا وسياسة نبش القبور

بوتين يتصرف كلاعب أساسي في الشرق الأوسط. نقطة الالتقاء عند سوريا جعلته قوة إقليمية بحكم الأمر الواقع.

بصرف النظر عما إذا كان ثمة تنسيق روسي سوري مسبق لإعادة رفات الجندي الإسرائيلي زخاريا بومل إلى إسرائيل أم لا، ثمة مؤشرات تعزز وجوب إعادة قراءة هادئة للعلاقات الروسية السورية والإيرانية من جوانب مختلفة، لاسيما وان هذه الواقعة بتوقيتها وظروفها وما سبقها وما لحقها فيها الكثير من الأسئلة التي لا تجد أجوبة منطقية لها.

ما جرى ميدانيا في سوريا خلال السنتين الماضيين أفرز موازين قوى جديدة حاول كل طرف فيها صرفها سياسيا في المنطقة من خلال الأزمات المتصلة بالأزمة السورية الأساس، بحيث رأت موسكو وهي اللاعب الأبرز بين أقوياء، أن من حقها ريادة وقيادة هذه الوقائع الجديدة، في وقت تتعرض الأطراف الأخرى إلى ضغوط متنوعة عسكرية وأمنية من جانب إسرائيل، وعقوبات اقتصادية وسياسية من جانب الولايات المتحدة، وفي الوقت ذاته ترى هذه القوى، أن موسكو لم تبذل جهدا في هذه المواجهات في مقابل الطرف الإسرائيلي، وهو ما طرح علامات استفهام كبيرة حول دوره كحليف في الحدود المفترضة واقعيا، وبالتالي كيفية تنظيم الأولويات بين هذه الأطراف.

في الواقع هناك مصالح متقاطعة وأخرى متباينة، حاولت روسيا التوفيق بينها بدراية في بعض الفترات من عمر الأزمة السورية، إلا أنها شهدت مؤخرا وقائع تثبت أولوية امن إسرائيل في السياسات الروسية، بصرف النظر عن التحالفات القائمة، وبدا ذلك جليا في كيفية إدارة الأزمات الناشئة عن التدخل العسكري الإسرائيلي في سوريا وقصفها لمواقع عسكرية إيرانية حساسة دون رد فعل واضح من موسكو، كما أجج هذا السياق خرق إسرائيل لقواعد الاشتباك حتى مع الجانب الروسي في أيلول الماضي بعد نكبة الطائرة الروسية التي أسقطتها إسرائيل والذي لم يُلحق برد فعل روسي مناسب لمستوى الحدث.

ويبدو أن ثمة سباق أميركي روسي على كسب ود إسرائيل، وبالتحديد رئيس وزرائها الذي قُدم له كل الدعم لإعادة وصوله إلى رئاسة الحكومة لولاية خامسة وهي سابقة في الحياة السياسية الإسرائيلية، واشنطن قدمت له الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل وبعدها الاعتراف بالقرار الإسرائيلي بضم الجولان المحتل، فيما قدمت موسكو هدية مجانية بإعادة رفات الجندي، والتي كانت بمثابة عبور لبنيامين نتنياهو لرئاسة الحكومة قبيل أيام من إجراء الانتخابات التشريعية، وهي بذلك تعزز العلاقات الشخصية بين بوتين ونتنياهو الذي حطَّم الأرقام القياسية في زيارة المسؤولين الإسرائيليين إلى موسكو خلال سنة والتي بلغت تسع زيارات تُوجت باتفاقيات ذات صفة نوعية واستراتيجية.

وروسيا بوتين التي عززت علاقتها بإسرائيل عبر مسارات متعددة، وسّعت من قاعدة انتشارها السياسي باتجاه تركيا. فرغم حساسية العلاقة نسجت موسكو مؤخرا تفاهمات مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ما جعلته شريكا مقررا في مختلف أزمات المنطقة ومن بينها السورية تحديدا، ويبدو إن اللقاء الأخير بين الرئيسين الروسي والتركي أتى في نفس السياق الذي لمّح فيه إلى استعداد تركيا لعمل عسكري في الشمال السوري كنتيجة غير معلنة لموافقة روسية على ذلك.

في مقابل ذلك، لم تشهد العلاقات الروسية الايرانية تطورا دافئا رغم التحالف القائم مقارنة بالعلاقات الروسية مع دول الإقليم الأخرى، وبذلك ثمة مؤشرات تشي ببعض التباين بين الجانبين والتي يمكن أن تتوسع لتأخذ مسارات أكثر حساسية إذا مضت موسكو بوتيرة متسارعة إزاء الوقائع المستجدة.

في المحصلة، مشت موسكو في سياسة نبش القبور وهي تدرك تماما مدى تداعيات إعادة رفات الجندي الإسرائيلي وحساسية الموقف السوري منه، ورغم أن الواقعة بحد ذاتها هي متواضعة الحجم، إلا أنها تؤسس لمسارات أخرى إذ لم يتم تداركها، قاعدتها تنظيم وتحديد قوة أطراف الحلف الروسي السوري الإيراني وكيفية صرفه سياسيا في المنطقة. فموسكو واقعيا القوة الأبرز، وبالتالي لن تسمع للاعبين الآخرين التصرف إلا وفقا لمقاييس وقواعد هي من تضعها وتفرضهاـ ذلك كتوزيع لموازين قوى جديدة بين الحلفاء أنفسهم قبل مواجهة الغير به. بمعنى آخر، ربما تكون سياسة نبش القبور المعتمدة بداية روسية جادة لإعادة ترتيب سياساتها في المنطقة وفقا لصور وقواعد ليست بالضرورة أن تكون مغايرة جذريا عن السابق إلا أنها ستكون مؤشرا على الكثير من التباينات المحتملة.