رومانوسكي.. وتأثيرات الغياب الأميركي عن الأنبار

يتعمد الأميركيون عدم الاهتمام بجزء مؤسس من أعمدة العراق الحديث.

ربما كانت السفيرة الأميركية فوق العادة الينا رومانوسكي أكثر حظا من بقية السفراء الأميركيين في أنها إستطاعت أن تمسك بالملف العراقي وتضع الحكومات العراقية التي رافقت ظهورها أمام الأمر الواقع في أن لتلك السيدة حضورا يحاول أن يفرض نفسه وليس بمقدور ساسة بغداد وبخاصة من "الإطار التنسيقي" إلا وأن تكون لديها معهم علاقات قوية ولن يكون بمقدورهم إلا وأن يستمعوا الى نصائحها وما تسديه اليهم من وجهات نظر يجدونها أنها أمر واقع ينبغي الرضوخ له شاءوا أم أبوا، بالرغم من أنهم يجدون أنفسهم مرغمين بضغوط خارجية من عدم الإستجابة أحيانا للشروط التي تفرضها على العلاقة معهم، كونهم يرون أنفسهم بين نارين.. نار الولايات المتحدة التي سلمتهم مقادير السلطة ومركز قرارها وهي من تفرض أجندتها عليهم بالقوة وبين نيران إيران التي يدين الكثير منهم لها بالولاء وهي من تحرضهم على عدم التوافق مع المطالب الاميركية.

لكن هناك نقطة جوهرية كما يبدو لم تلتفت اليها السفيرة رومانوسكي كثيرا، ولا الساسة ألاميركان بوجه عام وهي عدم إهتمامها بأهل الأنبار وبخاصة بنخب تلك المحافظة ورموزها الذين كانت تتشكل منهم سلطات أية دولة عراقية منذ قرون وهم من كانوا أهم معالم تلك الدولة وهم من رسموا إستراتيجيتها وأحكموا قبضتهم على الدولة العراقية ووضعوا أسس بنائها وادوارها وكيف تكون علاقاتها مع دول العالم، وبخاصة مع دولة كبرى هيمنت على العالم مثل الولايات المتحدة. وربما لم تزر رومانوسكي الأنبار وتلتقي برموزها الا مرة واحدة قبل عام، وكأن الأنبار ليست مرتبطة بالعراق، بل هي العنصر الأساس في ركائز الدولة العراقية ومركز معادلتها، وكذا الحال بالنسبة لمحافظات كبيرة ومهمة مثل نينوى التي تغافلتها السفيرة الأميركية وبقية السفراء الأميركيين كليا ولم توليها الإهتمام الذي يستحق إضافة الى غيابها الواضح عن محافظات سنية أخرى مثل صلاح الدين وديالى وكركوك.

وبالرغم من أن الأنبار تحظى بأهمية إستراتيجية في السياسة الأميركية ولديهم فيها قاعدة عسكرية كبيرة في البغدادي هي عين الأسد وشركاتهم الكبرى تفتح عينيها على ثروات مهمة مقبلة في الأنبار وبعضها موجود من أزمنة سابقة، والاكتشافات المهمة للغاز في الأنبار وحتى النفط وما تكتنزه هذه المحافظة من ثروات الفوسفات وكونها احد أعمدة الزراعة العراقية والصناعات التي كانت تزخر بها كالزجاج والسيراميك والفوسفات والاسمنت، وفوق كل هذا وذاك نخب السياسة والثقافة الذين تزخر بهم الأنبار وبرموزها إلا أن الاهتمام الأميركي مع إدارات الأنبار ونخبها المهمة، وما أكثرها، لم يرتق الى الحالة المطلوبة كمكانة ودور، ولم يكن بتلك الحالة المرضية والمقبولة الذي يفترض بأن يكون الإهتمام بها على رأس أولويات الولايات المتحدة كدولة كبرى يهمها أمن الأنبار ومستقبلها.

أبقت الولايات المتحدة الإهتمام يتركز على بغداد ومحافظات الوسط والجنوب وأهملت كليا الإهتمام بالأنبار وبقية المحافظات السنية وشكلت حالة الغياب تساؤلات كثيرة وحالات من الريبة والشك لدى ساسة وجمهور ونخب تلك المحافظات عن تلك الإزدواجية غير المنصفة في النظرة الى مكانة المحافظات العراقية والى دور أهلها ومكانتهم عبر التاريخ، وكأن بغداد وحدها هي من تحكم ومن نصبتهم عليها هم وحدهم من يقررون مستقبل العراق وليذهب الآخرون الى الجحيم. وهو أمر خطير أبقى تلك العلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة وعوامل الإضطراب يتسع مداها دون أن يستطيع الاميركان منذ أكثر من 20 عاما من وجودهم في العراق من وضع الأمور في نصابها. ولم يكن لدى الولايات المتحدة نوعا من حالة التوازن في النظرة الى المكونات العراقية الأساسية، وبقي هذا الإختلال الكبير أمر مستغربا ويدعو للأسف والرثاء، ولم يلتفت اليه كل السفراء الأميركيين وحتى صانعي قرارهم في الولايات المتحدة التي أبقت على تماس مع قادة الشيعة وأهملت بقية المكونات العراقية، وهم أنفسهم الان من جاءوا بهم وسلموهم مقدرات العراق ليتلاعبوا بها على هواهم واذا بهم أول من يظهرون لها الان العداء ويحملون بوجهها السلاح لانتزاع السلطة منها وتسليمها لمقدرات دول خارجية تتحكم بمستقبل العراق منذ أكثر من عشرين عاما وبعلم الولايات المتحدة وبمباركة منها في كثير من الأحيان.

لقد شاءت الأقدار بالنسبة لي كإعلامي وباحث في الشؤون الإعلامية والسياسية أن أكون أحد المتابعين للسياسة الاميركية ولتطورات علاقتها بالعراق صعودا أو نزولا منذ السبعينات ولدي خبرة متراكمة تكونت عن سياسات الولايات المتحدة عبر كل تلك السنوات بكل رؤاها وتوجهات كبار مسؤولي من يضعون الإستراتيجيات الأميركية ويرسمون معالمها ولهم أدوار مهمة في القرار الأميركي على مستوى وزراء خارجية أو وزراء دفاع ومستشاري الأمن القومي الأميركي ومراكز بحثية أميركية نقرأ عنها ونعرف مديات توجهاتها ولنا معرفة متعمقة في الكثير من معالم تلك الإستراتيجيات التي رسموها وهي معلنة ونحفظ بعض أنماط توجهاتها ربما عن ظهر قلب، ولدينا كتابات وبحوث متعمقة في الكشف عن توجهاتها وأنماط تفكيرها والنظريات التي رسمت في زمنهم وكيف تغيرت الأحوال بين فترة وأخرى، بالرغم من أن السنوات الأخيرة من عهد الولايات المتحدة لم يبرز فيها منظرو سياسة وواضعو إستراتيجيات وكأنها اصبحت تعاني من جدب فكري وإستراتيجي وقيمي وهي تعتاش الان على بقايا ما خطط له مفكرون وراسمو إستراتيجيات أميركيين منذ عقود وعهود مضت.

أجل.. إن أهل الأنبار، وأقصد رموزهم ونخبهم وحتى شيوخا ورموزا من عشائرهم ما يزالون ينظرون بعين الإستغراب والحيرة من عدم اللامبالاة باحوالهم ودورهم ودور بقية محافظاتهم التي لم تر الإهتمام الجدي والمطلوب من قبل الولايات المتحدة بالعلاقة مع تلك الرموز والنخب المهمة وهم في أغلبهم أعمدة العراق ورايات نهوضه وتقدمه وفيهم أعلام بارزة وقدرات أكاديمية وعلمية وثقافية وفنية تكاد تملأ الدنيا بخبراتها وحنكتها، لكن الولايات المتحدة وحتى السفيرة رومانوسكي ما تزال بعيدة عن إهتمامها بأحوالهم ومستقبل اجيالهم، ولا يجدون الإهتمام الذي يفترض أن تمنحه الولايات المتحدة التي كانت التهمة الموجهة لها منذ سنوات عديدة أنها تعاني من الغباء في أشكال علاقات ساستها مع دول العالم وهي أقرب من أن تكون أحادية التفكير وبعيدة عن النظرة الشمولية التي يفترض ان تنظر بها الى مكونات أية دولة ومنها العراق الذي له حصة الأسد من الإهتمام، وإن كان إهتمامها بهذا البلد في السنوات الأخيرة ليس بالدرجة والأهمية التي كان عليها قبل سنوات، لكنها قبلن أن يحكم العراق من طائفة بعينها حصرت لديها مراكز السلطة السياسية والعسكرية والأمنية ولم تبق للآخرين من المكونات الأساسية العراقية سوى قشور من دوائر ووزارات لا تقدم ولا تؤخر.

كان المؤمل أن تقيم السفيرة رومانوسكي علاقات وطيدة ليس مع بعض رموز الأنبار الموجودين في ظاهر السياسة في بغداد أو مركز المحافظة فقط، وعلى عدد محدود جدا منهم ولكن مع بقية نخبها المخبئة التي لم تظهر الى الوجود لظروف مختلفة كانت الولايات المتحدة وإهمالها لمكانتهم هي من دقت هذا الأسفين الكبير في العلاقة مع أهل الأنبار ومحافظات المكون السني وتركت معاول الهدم وهي تحاول الإبتعاد من الإقتراب من الولايات المتحدة بعد أن تجاهلت دورهم ومكانتهم فما بقي منهم إلا أن يقابلونها بالمثل في التجاهل المتبادل، وخسرت الولايات المتحدة بسبب تلك السياسة التمييزية القاصرة بين المكونات العراقية خسرت الكثير من سمعتها ومن فرصة أن يكون لها وجود مؤثر وقوي يمنحها مكانة أقوى لو أعطت لتلك المكونات الإهتمام الذي يستحق.

بل أنه حتى من كانوا بارزين على مستوى سياسي من أبناء محافظات المكون السني ومنهم رموز الانبار الذين كانوا في الواجهة السياسية كانوا أبعد ما يكونون من علاقة طيبة مع السفيرة الأميركية ومن كل السفراء الاميركيين السابقين الذين كانوا يقبعون ببغداد، ولم يكن بمقدور المسؤولين الاميركيين وبخاصة سفرائهم أن يتجولوا ولو بأمتار ويقيموا علاقات مع رموز العراق التي لم تظهر الى الوجود وحتى مع شعب العراق وكانت علاقتهم شبه غائبة وتحكمها علاقات تباعد وافترق كثيرة أكثر من علامات التقارب والود التي تركت آثارا سلبية خطيرة على تلك العلاقة وبقيت تحكمها حالات الريبة والتشكك والابتعاد بسبب الإنكماش الاميركي وسياسة عدم الإنفتاح على المكونات العراقية التي تشكل اعمدة الثقافة العراقية وإرثها التاريخي الأصيل الزاخر بالرموز الكبيرة والمؤثرة والتي بقي أغلبها خارج العراق، ولم تبذل الولايات المتحدة جهودا كما يفترض لإعادتها الى الحياة السياسية، إن لم تكن قد حاربت من عادوا منهم بطرق مختلفة، ولم توليه الاهتمام المطلوب وبقي الاخرون من المستويات الرفيعة من أهل العراق بعيدين عن الاقتراب من الأميركان، كونهم هم قد عانوا من مخلفات السياسات الاميركية ولامبالاتها إزائهم وتجاهلها دورهم وهم بالآلاف وليس بالعشرات.

وهناك غيض من فيض من المرارات وتراكمات من الماضي الثقيل والسحيق المحمل بالنظرة القاصرة والأحادية وغير المتزنة أو غير العادلة التي يسجلها أهل الأنبار وبقية المحافظات العراقية التي لم تنل الإهتمام الاميركي وحتى الاوربي الذي يوازي مكانتها ودورها، وهي من أكثر من نالت من أذى السياسات الأميركية وإرهابها عليهم في سنوات مضت ووجهت لهم مختلف التهم التي لا يستحقونها وقد إعترفت الولايات المتحدة بأحقية معارضتهم لسياساتها الإحتلالية في بداية دخولهم الى العراق، بالرغم من أن هناك فرصا سانحة قد توفرت لإقامة الكثير من حالات التلاق والتقارب مع نخبها وساستها ومع من لهم بعضا من سلطة القرار.

بل أن الولايات المتحدة بنرجسية ساستها ولامبالاتهم هي من أضاعت فرصا كثيرة لبناء علاقات متينة مع من لهم أدوار مهمة في تلك المحافظات التي عانت من حالات الجفاء والتباعد والافتراق مع الولايات المتحدة، وربما نحتاج لـ مجلدات للحديث عن الجروح المثخنة والآلام الكبيرة ومخلفاتها الكارثية التي تسببت بها الولايات المتحدة في سياساتها القاصرة، التي لا ترتقي الى دولة كبرى يهمها أمن العالم وإستقراره، وكانت سياساتها المتخبطة والمفرطة في النرجسية والإستعلاء غير المبرر، وربما بسبب حالة الغباء التي عانت منها السياسة الأميركية إزاء محافظات المكون السني ومواقفها غير العادلة من القضايا العربية وبخاصة القضية الفلسطينية وانحيازها السافر للكيان الصهيوني كليا هي من وضعتها في هذا المصير الذي لا تحسد عليه.