سؤال التنوير والحداثة بين كانط وفوكو

خارج مفهوم القطيعة المعرفية والانفصال عن الزمن ينظر فوكو إلى الحداثة في حينها بأنها عبارة عن نمط في التفكير والشعور، ونمط في الفعل والسلوك تؤشر في الوقت ذاته إلى علاقة تنتمي لذاتها وتقدم ذاتها كفعل ضروري التنفيذ.

في عام 1784 نشرت مجلة ألمانية يطلق عليها "شهرية برلين" إجابة عن سؤال ما التنوير؟.

وكان هذا تقليدا تمارسه المؤسسات الليبرالية في المشروع الثقافي الغربي والتي تشكلت على قاعدة الحرية والمساواة وديمقراطية الشعوب، فكانت الإجابة  لفيلسوف الحداثة الكبير إيمانويل كانط الذي يرى في التنوير تحرر الإنسان من القصور الذي أحدثه بحق ذاته، ليس في افتقاره لعملية التفكير، وإنما لافتقاره العزم والشجاعة على ممارسة فعل التفكير من دون توجيه شخص آخر "إذا تشجع على التفكير بنفسك" ذلك الشعار الذي تبناه عصر التنوير في تلك الحقبة.

كما يرى كانط إن الكسل والجبن لهما دور كبير في القصور الذي يخضع له البشر بعد أن حررتهم الطبيعة من قيودها.

فيرى كانط إن استعمال ملكة العقل استعمالاً سليما ً بعيدا ً عن كل الإكراهات، وعن وصاية الآخرين هو الذي يتيح لنا منهجا ًسوياً في التفكير بحرية. فنشاط الفكر المستمر هو الذي يجعلنا قادرين على خلق الأسئلة والنقاش والتحليل في أي موضوع، أو أي فكرة حتى لو كانت مناقضة لهويتنا ومعتقداتنا. إن العودة لذاتية الفرد في مسألة التنوير بوصفه مركزا كونياً في عصر الحداثة هو الذي ساهم في تشكل الكثير من القيم والأنماط الحضارية في الفكر الغربي.

إذا تشجع على التفكير بنفسك

لكن كانط يقسم بين الاستعمال الخصوصي للعقل وبين الاستعمال العمومي.

ويقصد بالاستعمال الخصوصي عندما يكون الفرد في منصب وظيفي معين في الدولة أن لا يستعمل عقله الحر داخل هذا الجهاز الوظيفي، وإنما خارجه، لأن مهمة الجهاز الوظيفي هي التوجيه نحو الصالح العام،ومهمة الفرد هنا الطاعة وليس النقاش.

يقول كانط "إن الإنسان يستعمل عقله الخاص عندما يكون ترسا ً في آلة"، أي عندما يكون له دور يمارسه في المجتمع ووظائف يؤديها،لكنه لا يطلب من الناس الطاعة العمياء،وإنما يطلب توظيف استعمال العقل في ظروف محددة.

وفي نفس الوقت يدعو كانط إلى عدم تدخل الأجهزة الوظيفية في التفكير الحر للأفراد خارج مؤسسات الدولة،وبذلك يضمن الفرد حريته الفكرية وسلامته الشخصية داخل  الدولة كمواطن عالمي حر، كما تضمن الدولة أمنها وسيادتها بعيدا عن القمع وانتهاك الحقوق.

إن الإنسان يستعمل عقله الخاص عندما يكون ترسا ً في آلة

ويرى كانط في هذا الصدد إن تنمية البذرة الداخلية للقيام بالتفكير الحر ستؤثر تدريجيا على خصائص الشعب وشخصيته، فيصبح الفرد حرا ً ومسؤولا في الوقت نفسه وقادرا على توجيه دفة حريته بالاتجاه الصحيح،مما سيؤدي في النهاية إلى التأثير على مبادىء الحكومة التي ستجد منفعتها في أن تتعامل مع الناس لا بوصفهم أجهزة ميكانيكية،بل بحسب كرامتهم.

إن التنوير عند كانط هو تلك اللحظة التي تسعى بها الإنسانية لاستعمال فكرها الذي يخصها دون الخضوع لأي سلطة، وهذه اللحظة هي بعينها  التي يكون فيها النقد ضروريا.

ميشيل فوكو في التعليق على نص كانط حول جوابه 'ما التنوير؟'

يقول ميشيل فوك "لقد حدث في القرن الثامن عشر أن اقترح محررو المجلات سؤال على جمهور الرأي العام بشأن المشكلات التي لم تجد لها حلولاً بعد، لكني لا أعلم إن كانت هذه الممارسة لها تأثير كبير على الأوضاع، أم أنها كانت نوع من الأسئلة المسلية".

عندما نشرت مجلة برلين إجابة كانط عن سؤال ما التنوير؟ يبدو إنه كان مؤشرا مهما لدخول تاريخ الفكر سؤال لا يمكن للفلسفة الحديثة الإجابة عنه ولا يمكن أن تحرر منه لكن هذا السؤال ما زال يتكرر بأشكال مختلفة  منذ هيغل مروراً بنيتشه، أو ماكس فيبر، إلى هموركهايمر هابرماس بشكل مباشر أو غير مباشر.

ذلك السؤال الذي يحدد ما نحن عليه وما نفكر فيه، وما نعمله الآن.

الاستيلاء على ما هو خالد أو دائم لا يوجد وراء اللحظة الحاضرة، ولا خلفها، ولكن في مجالها

إن سؤال اللحظة  الراهنة.. ماذا يجري اليوم؟ ما هي اللحظة الحالية التي نعيشها؟ هي من دفعت فوكو لتأسيس أنطولوجيا للحاضر في حفرياته المعرفية.

ما الذي يشكل في الحاضر معنى للتساؤل الفلسفي؟

ويرى فوكو في نص كانط رغم صغره إلا إنه بؤرة للتأمل النقدي وحقل فلسفي لا يجب أن نغفل عنه في خطاب الحداثة ومشروعها التنويري فبالرغم من تأملات كانط في التاريخ وشروط المعرفة، والتصاقها بالنظريات العلمية في ذلك العصر،إلا إنه في نفس الوقت يكتب عن اللحظة الحاضرة بوصفها مشروعا فلسفيا متكاملا.

خارج مفهوم القطيعة المعرفية والانفصال عن الزمن ينظر فوكو إلى الحداثة في حينها بأنها عبارة عن نمط في التفكير والشعور، ونمط في الفعل والسلوك تؤشر في الوقت ذاته إلى علاقة تنتمي لذاتها وتقدم ذاتها كفعل ضروري التنفيذ.

وما يميز خطاب الحداثة عند فوكو هو خطاب هذه اللحظة الراهنة التي انبثق منها مشروع كانط في التنوير كمحور دائم للتأمل الفلسفي، تأمل العلاقة مع الحاضر.

يعطي ميشيل فوكو مثالا عن تعريف بودلير للحداثة وطريقة وعيه بها في كتابه رسام العصر الحديث حيث يقول"إن الاستيلاء على ما هو خالد أو دائم لا يوجد وراء اللحظة الحاضرة، ولا خلفها، ولكن في مجالها".