ساعة يسلم فيها الشرق

تعديلات كثيرة طرأت على مشروع الشرق الأوسط الجديد.
لا أكثرية في الشرق سوى الانحطاط ولا أقلية سوى الحضارة
قاعدة "محتاج يسعى إلى محتاج" أساس التفاهمات بين واشنطن وموسكو
تغييرات الشرق الاوسط لا يفرضها فريق منتصر كليا على فريق منهزم نهائيا

منذ سنوات والشرق الأوسط يستيقظ كل يوم على جديد يضاف إلى قديمه. حروب لا تنتهي وحلول لا تأتي، وإن أتت تحمل في ثناياها بذور حروب لاحقة. لكن ما يجري منذ أشهر قليلة ينبئ بمرحلة قيد التحضير كأن الحروب بلغت مبتغاها، والتسويات نضجت، والعالم ضجر من موازين القوى القائمة. هذا يسمى تنفيذ تفاهمات توصلت إليها الديبلوماسية السرية بين الدول الكبرى. هكذا حصل مع اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور ومعاهدة يالطا وغيرها. لم تدر بها شعوب الشرق قبل تطبيقها بالقوة أو بالحسنى أو بالتواطؤ مع مرجعيات محلية، فصدم البعض وسر البعض الآخر.

يعكس هذا المعطى تفاهما أميركيا/روسيا، وإن هشا وجزئيا، حول عدد من ملفات الشرق الأوسط أبرزها: العراق وسوريا ولبنان. ملفات هذه الدول الثلاث تحتوي ملفات أخرى أيضا. ملفات دول: إسرائيل وإيران وتركيا والصين والسعودية وفلسطين. وملفات أديان ومذاهب: المسيحية والإسلام واليهودية والشيعية والسنية. وملفات مصير الشعوب: الوحدة واللامركزية والفدرالية والحكم الذاتي والتقسيم. وملفات المشاريع الإقليمية: الهلال السني والهلال الشيعي وحلف الأقليات؛ وملفات الإرهاب: التكفيريون والجهاديون وإرهاب الأنظمة. وتخلط الدول الكبرى أحيانا بين مقاومة الشعوب والإرهاب.

التفاهم بين أميركا وروسيا لا يغطي جميع هذه الملفات لأن الصراع الدولي المفتوح بينهما أكبر من تفاهمهما المحدود في الشرق الأوسط. تفاهمهما هنا على قاعدة "محتاج يسعى إلى محتاج"، إذ إنهما موجودان عسكريا على الأرض ويخشيان أن ينزلقا في رماله المتحركة، ولأن الأطراف المتقاتلة والمهيمنة تحتاج إلى مخارج. فباستثناء روسيا، الاستحقاقات الداخلية للدول المنتشرة عسكريا في الشرق الأوسط تكاد تطغى على طموحاتها الإقليمية.

خلافا للتغييرات الكيانية التي حصلت في الشرق الأوسط بعد الحربين الأولى والثانية، التغييرات المقترحة اليوم تعقب مجموعة حروب وثورات لا حربا واحدة ولا ثورة واحدة. ولا يفرضها فريق منتصر كليا على فريق منهزم نهائيا. والدول الإقليمية الكبيرة تطرح نفسها شريكا في التسويات. لا يوجد منتصرون كاملو الهوية محليا أو إقليميا أو دوليا ليفرضوا الحلول، ولا يوجد مهزومون يعترفون بهزيمتهم، بل تراهم يتصرفون كأنهم منتصرون. لم يعلن أحد انتصاره ولم يوقع أحد على هزيمته. في الشرق، وحدها الشعوب تنهزم.

تعديلات كثيرة طرأت على مشروع الشرق الأوسط الجديد بحكم: تعاقب الإدارات الأميركية وتناقض سياساتها، عودة روسيا إلى الساحة، تمدد إيران أكثر مما كان متوقعا، تورط تركيا عسكريا، وانكفاء السعودية. كل تعديل نقض الآخر عوض أن يكمله. قرروا تغيير الأنظمة ونشر الديمقراطية فبقيت الأنظمة واختفت الديمقراطية. راودتهم بدعة تغيير الحدود الدولية فبقيت الحدود وانهارت سيادتها واجتازتها الجيوش الغريبة. فكروا بالتقسيم وإنشاء كيانات جديدة فوصلوا إلى فدراليات هجينة وإدارات ذاتية تنتظر اللمسات الأخيرة. لعبوا ورقة الهلالين فتغاضوا عن الهلال الشيعي ثم تحسروا على الهلال السني. ورفعوا شعار الأقليات بعدما تفرجوا عليها - بلامبالاة - تنحر في كل الشرق، وهي أهل الشرق. وأصلا لا أكثرية في الشرق سوى الانحطاط ولا أقلية سوى الحضارة.

إن أكثر ما يعوق تنفيذ الشرق الأوسط الجديد بتعديلاته الديمغرافية على غرار ما حصل بعد الحربين الأولى (1918) والثانية (1945)، هو أن دوله اليوم قائمة بحدودها وأنظمتها وشعوبها وبهويتها الوطنية ومعترف بها دوليا، خلافا لما كانت الحال بعد الحرب الأولى حين كان الشرق الأوسط، أرضا وشعوبا، تحت احتلال دولة واحدة مهزومة وغريبة عن العرب هي السلطنة العثمانية. ما خلا لبنان الصغير (المتصرفية) المعترف به دوليا كيانا خاصا، كانت المنطقة المشرقية ولايات وسناجق يسهل استعمال المقص فيها ضما وفرزا. وكان الوعي السياسي فيها يقتصر على نخب في طور التكوين القومي.

بعد الحرب الأولى تحمست الشعوب العربية للدولة العربية الكبرى، فيما تؤثر عليها اليوم الدول الصغيرة حافظة الخصوصيات. وبعد الحرب الثانية طالبت الشعوب بالاستقلال وبانسحاب الجيوش الغربية، بينما تستأنس اليوم بالحماية وببقاء الجيوش الأجنبية. صار الأمن محور الحياة لا الحرية. وصار الخبز قبل الثورة. صار الشرق عدو الشرق، والغرب الذي كان "العدو" صار هو الفاصل بين شعوب الشرق، بين العرب والفرس...

غير أن التفاهم الأميركي/الروسي الأول حول مصير الشرق الأوسط الصغير (العراق وسوريا ولبنان) بين كيري ولافروف أرجأه انتخاب ترامب وإلغاؤه الاتفاق النووي مع إيران، ويخشى الآن أن تعطل "صفقة العصر" التفاهم الثاني بين ترامب وبوتين. إن الرجوع عن حل الدولتين وعزم إسرائيل على احتلال 30% جديدة من الضفة الغربية وغور الأردن خطوات تعكر التسويات أو تحيلها إلى امتحان عنف آخر تتبارى فيه إسرائيل وإيران، ونحن في الوسط.

لذلك، يبقى الدور الإيراني الوارف القاسم المشترك والمستهدف بين روسيا وأميركا في هذه الدول الثلاث. لا تزال إيران تشكل قلقا عربيا ودوليا رغم وقوعها تحت الحصار العسكري والعقوبات الاقتصادية والضيقة المعيشية ووباء كورونا والتباينات الداخلية والغارات الإسرائيلية. لقد صدر القرار بتحجيمها: في العراق تتكفل بها أميركا ودول الخليج، في سوريا روسيا وتركيا، وفي لبنان أميركا والاتحاد الأوروبي؛ وتظل إسرائيل حاضرة لإعطاء قوة دفع أو ضغط حين تدعو الحاجة. لكن الإشكالية أن إيران لم تعد فقط قوة عسكرية منتشرة - مباشرة وعبر وكلائها - في هذه الدول الثلاث، إنما باتت حالة دينية وعقائدية متغلغلة في مجتمعات هذه الدول. ولا يكفي، بالتالي، الحد من وجودها العسكري، وقد بدأ، لوقف هيمنتها. لا بل يخشى أن يؤدي بطء آلية أميركا في الحد من دور إيران ووكلائها إلى القضاء على بنية العراق وسوريا ولبنان.

وها نحن، في لبنان، شهود على ذلك وضحاياه منذ ثلاث سنوات، وبخاصة منذ اندلاع الصراع بين حزب الله والليرة اللبنانية. من ينقذ لبنان؟ ليس المهم أي يد تمد لإنقاذنا، إنقاذ لبنان هو المهم.