سعد سعيد وتعالق الواقعي بالخيالي في 'كلمات لا تستحي'

في الرواية يلمس المتلقي كيف يقسّم الروائي وقت السرد بين واقع قد يدفع به للملل، وبين سرد يوجد مساحة لا بأس بها من الخيال.

يعدّ من المستساغ وجود الخيال داخل منظومة السرد الواقعي، ولكن دخول الواقعية إلى خانة السرد المعتمد على الخيال يجعل كثير من النقاد يتحفظون على هذا التداخل، حيث وقف هؤلاء المتحفظون بالضد من كل التجارب التي حاولت فرض الواقعية كضيف على الخيال، لأنهم يرون فيه ضيفا ثقيلاً يخلخل البيت السردي.

في روايته "كلمات لا تستحي" يدخل الروائي سعد سعيد خانة المستساغ، حيث يصنع لنا فعلاً سرديا فيه كثير من التعالق بين الواقعي والخيالي، حيث يلمس المتلقي كيف يقسّم الروائي وقت السرد بين واقع قد يدفع به للملل، وبين سرد يوجد مساحة لا بأس بها من الخيال.

يقول فرانسوا موراك في كتابه "الروائي وشخوصه" ما نصّه "إن ما تقدمه الحياة للروائي هي رسوم أولية أو ملامح أولية للشخصية ونواة أو مدخل للدراما أو المأساة التي من الممكن أن تحدث في روايته".

وفي رواية "كلمات لا تستحي" يتناوب شكل شخصيات الرواية، فتارة تجدها بصورة الضحية وتارة تجدها بصورة مغايرة، حيث يستلّ سعد سعيد شخوص روايته من الواقع العراقي بمراراته الكثيرة ومسراته الشحيحة، وينفتح تماما على ذلك الواقع من خلال توظيف "الإيروتيكا" كمريض ومعالج في آن واحد، فهو يمنح بطلة الرواية "سميعة" أو "سمسم" صفة الضحية المستسلمة، التي قادها مجتمع مريض إلى ممارسة الرذيلة "لو صح هذا الوصف أو المفردة"، لكنه لا يسلبها المقاومة تماما، فيدخل عبر خانة المستساغ الذي أتحدث به، وأقصد المقاومة الخيالية التي تعتمد على مصادفات عدّة تغيّر الواقع الذي تعيشه بالاتكاء على أحداث يختلقها الراوي.

في مقال لها تؤكد الكاتبة الفرنسية دانييل سالناف "تجعلني الشخصية أدخل إلى عالم التحولات الكبيرة، فبواسطة الشخصية تستطيع الرواية أن تكون تجربة من عالم آخر، لذلك هي تجبرني أنا القارئ على التحوّل بدوري إلى كائن خيالي".

في الرواية التي نتحدث عنها نجد شخصية "سمسم" تحديدا هي التي تحظى بوافر من المشاهد السردية غير الواقعية، بل تكاد أن تكون كائنا خياليا، فالسارد وضعها مقدما في بيت يعتاش على الدعارة، لكنه أدخل الغرابة في كونها نمت على سجية أنها لا تعرف ما يدور حولها، وهو ضرب خيالي أدخله الروائي على المتن الواقعي، وجعلنا نؤمن بحدوث ذلك، فصرنا لهذا السبب نتعاطف مع "سمسم" التي يقدمها في مكان آخر كقارئة نهمة للكتب، حيث تأخذ مصروفها لتشتري الكتب وتستمتع بها، رغم أنها وكما أسلفنا تعيش في كنف عائلة تمارس السمسرة والدعارة، وتسكن بيتا صاخبا.

في أكثر من مكان من روايته كرر الروائي سعد سعيد لقطة تنتمي لحياة الأشباح، وهي قدرة "سمسم" المتعددة الشخصيات والحضور على الاختفاء من بين الأنظار بسرعة البرق، حتى أن المتلقي سيجد الخيال متجسدا في هكذا مشاهد سردية تنتمي لعالم الكائنات الخيالية، أضف لذلك قراءتها لدواخل من يحاورها، فهي تعرف مسبقا ماذا سيقول ذلك المحاور، كما تعرف ما يدور بداخله من أفكار، وتلك صفة هي للخيال تنتمي وليس للواقع.

شخصية "طه" تعالق في مسرى تواجده في الرواية بين الخيال والواقع، فهذا الشرطي دخل سلك الشرطة لسببين واقعيين هما المال والجنس، حيث يظهر في البداية كشرطي يعشق النساء ويزور بكثرة بيوت الدعارة، ثم وبعد فصله من الوظيفة، يعيده لنا الراوي عبر فعل كان غرائبيا وفانتازيا قبل عام 2003 كون الافتراض في المجتمعات غير المريضة أن الشرطة وبيوت الدعارة في عداء دائم، لكنه صار مستساغا بعد 2003 وأقصد حين يعيده الروائي إلى الأحداث عبر تسلمه منصبا في عراق ما بعد سقوط النظام السابق، في إشارة إلى الفوضى التي تجتاح العراق والتي ترعرعت في كنف أحزاب السلطة وهذا الفعل لولا كونه يحدث الآن في العراق لبقي ضمن الفانتازيا، وهنا أجاد الروائي في عرقلة الافتراض الذي يؤمن باستحالة كون الشرطة رعاةً لبيوت الدعارة.

يقول الكاتب الفرنسي الشهير جان بول سارتر في مقال له بعنوان "فرانسوا مورياك والحرية" ما نصه "إذا انتابني الشك وعلمت أن أفعال البطل المستقبلية مثبتة مسبقا بوساطة الوراثة أو بتأثيرات اجتماعية أو بأي آلية أخرى فإن زمني سيرتد عني وسأبقى وحدي أنا الذي أقرأ".

سعد سعيد في منتصف الرواية صدمنا بتغيير كبير في أفعال بطله "طه"، فهذا الشرطي الفاسد الذي فصل من وظيفته في الزمن السابق بسبب فساده، أعاده لنا الروائي كمسؤول في الدولة ويمارس ذات الفساد قبل أن يلتقي بـ"سمسم" التي ومن خلال جمالها وثقافتها جعلت منه إنسانا عاشقا ومتعاطفا مع إنسانة تمارس الدعارة كمهنة، وهنا سأتحدث عن الصدمة التي كان سببها التحوّل الغرائبي الذي صنعه الراوي، فذاك الشرطي الفاسد بقي وارثا لفساده، وقد حصل على أدوات جيدة تسهم في ازدياد فساده، لكن الذي حصل هو ارتاد كبير في الوقائع السردية حين صار ذلك الفاسد ملاكا يدافع عن حبيبته ويوظف أدوات المال والسلطة في حقل حماية حبيبته التي كانت قبل اللقاء الأول بينهما، مجرد فتاة عاهرة، وهنا حدث التعالق الملموس بين الخيال والواقع وبالتالي فأن الراوي منحنا أفعالاً غير مثبتة في أحداث روايته، بل ابتكر أحداثا لم يتوقعها المتلقي.

سعد سعيد قدم لنا سردا واقعيا لأحداث حقيقية، لكنه وباشتغال مختلف، وظف لنا تعالقا جديدا بين الخيال والواقع، فهو جذّر نصه بالواقعية، لكنه ترك لأغصان المتن المفتوح حق امتلاك الصور الغرائبية لتخرجنا من سماجة الواقع الذي لو طرحه خاليا من مخيال مخصّب لأصابنا بملل.

...............................

خمس ق. ق. ج

قصي الخفاجي

أوراق

من الخير لنا ونحن على مشارف الحدود أن نحرق أوراقنا الثبوتية خشية وقوعها بأيدي شرطة الحدود/ ربما استطعنا أن نحتمي بالطبيعة، وانهمر المطر واجتزنا الأسلاك الشائكة ولامستنا أذرع الصخور، والأعشاب الجارحة/ انحدرنا صوب الوادي الكبير، وحلّ الغروب علينا.. جاءنا رجل يمتطي حصانًا ويحمل بندقية على كتفه/ كان يتطلّع إلى وجوهنا المخطوفة.. قال لنا سيروا خلفي.. وفي كوخ من الخشب البلّوط أضرم لنا الموقد، وعمل لنا شايًا.. لقد أعرب لنا عن فكره النزيه ونواياه الطيّبة "إنّ القدر المجهول هو الذي يسيّر مصائر الناس فقبل ساعة واحدة مرّتْ من هنا الدوريات.. لو كنتم هنا لضعتم في السجون السورية أو اللبنانية" بعد مبيت ليلة دفع بنا إلى دورية متواطئة مقابل المال/ هرّبتنا إلى تلال لبنان البعيدة/ هناك افترقنا، وافترقت مصائرنا/ فكلّ شيء يحكمه القانون الخفيّ المجهول.

ضريح

حين يصفو الجوّ، والجموع تنطلق، عبر الضوء الخافت/ ثمّة موكب يأتي دائمًا في الغبش ويعلن نافخ البوق أنّ العربات القادمة تحمل أباريق الخمور، وزجاجات الحليب، وقناني الزيت، والطيب، وباقات الزهور/ هنا أمام الضريح الذي جعله الناس مقدّسًا/ وحين ظلّتْ أكفّ النساء تخضّب ذلك الضريح بصبغة الحنّاء... وفي الشتاء يأتي رجل ملتح يستقبل العطايا والنذور عبر ارتعاشة في كفيّه، وعينيه/ ارتعاشته تشجّع على القدوم وتقديم المزيد من النذور... وفي الشتاء القاسي حين تساقط الأمطار، وتزخر السماء بالريح الباردة/ هنالك نسوة يتقدّمن إلى الضريح والوحول تلطّخ ثيابهنّ، واكفهنّ، ووجوههنّ.. وحول قذرة/ بينما الروائح الكريهة جدًا تعفّر أجسادهنّ/ وكلّما تزداد قسوة البرد تقلّ الزيارات إلى الضريح، عدا الأقلّ القليل من النسوة اللواتي يضطررن للمكوث داخل الضريح/ ذات فجر شوهدت امرأة مغرية كانت مفككة الثياب، محلولة الشعر، تهيم على وجهها، حيث المطر المدرار يغسلها غسلًا/ حين اجتازتْ منخفضًا يزخر بالماء/ رفعت ثيابها فوق صدرها،،، وقد أكملتْ عريّها في ذلك الشتاء الرمادي/ إنّه عريٌّ مقدسٌّ، وكفوفها المحناة انغمستْ في الماء البارد العنيف/ كان منظرها يلهم الرائي بروعة التحام الطبيعة بالجسد.

السنونو

حين ظهر السنونو فجأة أبهر الناس في المناطق النائية البرية ذات التلال المتماوجة الحمراء، هتف الجميع "إنّه السنونو يخطف ويفاجئ الناس/ وبزغتْ عيون" ليلى" واتسعتْ حدقتاها وأبهر بريقهما فتية القرى الشجعان/ أنثى الأيل كانت عيناها ترصد العاشقين.. ذات ليلة عندما كان السنونو يمارس ألعابه الهوائية اختفتْ "ليلى"،،، وطال اختفاؤها/ حينئذٍ ترقّب الناس قدومها، ولم يحدث ذلك... واندلعت الحرب، واقتيد شباب القرى إلى جبهات المعارك/ مات الكثير ووقع منهم في الأسر الكثير/ صارت القرية خالية من شبان القرية الشجعان/ وفوجئ الناس ذات غروب بــــــ"ليلى" تطلّ على القرية ومعها ثلاثة أطفال.. ولا أحد نطق بحرف/ إنّ القرية خالية من حضور الشباب/ كانت ليلى مفعمة بالأنوثة، مفعمة بالأمل.. بينما القرية انطفأتْ بسبب الحرب وهي تنتظر قيامة جديدة أو معجزة لتخضّب ليلى من جديد.

النزيل

لقد تهدّم السجن وتهشّمتْ أعمدة الحديد، وهرب الحرّاس والشرطة واختفى السجناء بلمح البصر/ كانت المرارة في حلوق رجالات الأمن وإدارات السجون/ بقيت الحديقة التي غمرها التراب،،، وذات صباح كان هنالك رجل يسكب الماء بواسطة دلوٍ صغير على شجيرات الفلفل.. وحين قدمت اللجان الحكومية لتتقصّى عن الجهات التي قامت بالهجوم على السجن وهدمه/ انبرى ذلك الرجل الحدائقي يحيّي المسؤولين/ سألوه مَنْ يكون؟ أجابهم بأدب جمٍّ: أنا نزيل في هذا السجن هدم السجن وأخرجونا، السجناء لاذوا بالفرار.. أنا بقيتُ هنا بانتظار إعادة بناء السجن لأعيد نفسي نزيلًا يحترم القانون.

تطلّعوا إليه بغرابة، وذهول، ركبوا سيّاراتهم وعادوا أدراجهم، بينما ظلّ هو يقلّم شجيرات الفلفل.

دنسٌ مقدّسٌ

هذه الليلة سأحدّثك عن القوافل القادمة من وراء التلال/ كان الوقت برأي البعض رخيصًا يُذكّر بربيع خلعتْ فيه النساء الجميلات ثيابهنّ/ وحين انطفأت النجوم في السماء البعيدة ظلّت الجدران المتآكلة مليئة بالثقوب.. ثمّة صبْية يتلصصون على مرأى النساء العاريات/ كان هناك رقص جماعي صاخب.. رقصٌ مفعمٌ بالعريّ حتى كأن سعي الحركات الموتورة لأجل إثارة خلاعة ناشطة وكان أنْ دهمت المكان سيّارات مكشوفة نزل منها رجال عراة.. وحدث ما حدث: كان هنالك التحام وثنيّ في ليل طويلٍ يشي ببركات الجسد، حيث العرق والدم، والروائح اللامرئية تُصَّعدُ دنسًا مقدّسًا.

.........................

القصيدة

عايدة بدر

على غصن الصدأ

قصيدة تعتمر أنوثتها تعتلي ظهر المعبد

تصرخ من فوق أسواره

بروميثيوس...

لا تخش عار الصرخة الأولى لميلاد فارس

قصيدة تعتني بأوجاع الانتظار في ليال الغياب

تنشف قلبها حين يعتليه رذاذ الوحدة

تبتسم في وجه الريح الأعمى بوميض النار

قصيدة تقتلع جذور الموج من بين جفون البحر

تسرق نار الآلهة فيسيل عسل عينيها ملحا

تدفن في قبرها برودة كفين

وكبد بوسيدون ينهش صفرتها

قصيدة ترتب أركان صوتها قبل أن يذبحوا حلمها

لأساورها وقع انتعال الشوق حين تزغرد مرحبة بالموت

تقيد ما تبقى منها بمعصمي السماء فتتفتت أوثان وجع

قصيدة تتلو ما تيسر منها على قلب الفراااغ

فتنبت سماء وعشب مطر

على غصن الصدأ

...............................

الطبعة الضائعة

علي الإسكندري

لي ملامح في شبق الأزمنة

 وفي جيب ذاكرتي

جبال من الوجد

وكسرة دمع...

رافقت نطفتي

وفي مهجة التاريخ لي بصمة نسيتها الفجائع

وكذلك لي شبيه في هذا الركام....

 الذي خلفته الأضرحة والشواهد..

المطمورة تحت ذبائح من مروا

عالق في ماسورة التكوين

لا برزخ يأويني بعد خراب جنائني

ولا حكمة تفرق بيني وبين...

 شجر الأنوثة

فأنا لست الطبعة الأولى

 بقيت مخفورا على قمامة الوقت

 تتناسل تحت جلدي غرائز الفردوس

حدائقي عظام الأولين

وزوادتي خرائط التكوين وما مر من الظلمات

على ذاكرة الطبيعة

ابصرني الرائي اتعـمّـد بشرارة العماء الأزلي

 وانفخ في وجود البحر..

 وهو يسلُّ أمانيه في مخدع اليابسة

مرضوضا

تحت لوثة السماء

يتدثر بجموح الغيب..

ويفرق أيامه على متون الأزمنة

ويتعثر بكواكبه التي لا تشفى من الظلمة

هو تحت الشاهدة الخطأ

وأنا فوق خازوق الأرض

الرجراجة.