سيف داؤود يقتفي أثر اللحظات

ثمة مفاجآت في حكاية داؤود أقصد في عمله، فهو لا يلاحق الحدث مهما كان موجعاً، لأنه يدرك بأن العمل الفني إذا إقترب من الحدث قد يحترق به وفيه، وهو يدرك أيضاً بأن وجع العمل الفني يختلف عن وجع الحدث.

من الواضح أن سيف داؤود (1960 القامشلي) يقتفي أثر اللحظات بوعي درامي ليلتقط أشدها ألماً، أشدها وجعاً، أشدها كثافة، يتجلى ذلك في إختزالاته لواقع مفجوع بالإستسلام للخراب، بل للموت الذي بات يسري في كل شيء، بل في تفاصيل كل شيء، يسري فيها ثقيلاً مرعباً وكأن لحظة المكاشفة باتت على الباب بلا جدوى، باتت في حضرة الغياب لترتمي في أحضان ألوان طافحة بالشجن، مقترنة بإتلاف كل سبل الروح، السبل التي تشرع في "خراب دورتها الدموية" وفي تغريبتها المحملة بأمواج ذي حمل ثقيل لا بد أن تترك في ملامح فضاءاتها حيوية ونشاطاً خذلتها تفاصيل الأمكنة وذاكرتها البصرية بنوافذها الواسعة بإعتبارها موروث يمضي في رحلة حديثة بتفصيلية شيقة علّها تواكب المفاهيم الحديثة في الفن التشكيلي، فسيف داؤود يعود بريشته قليلاً إلى الأمس وصعوباته ليكون مستهله وهو يخوض في الحراك التشكيلي، بأبعاده المختلفة، ووفق ما يفي مقاصده من الدلالات وشحنتها، ووفق ما يعتري إستيهاماته الفردية  من علاقات تحول مجازاته بإستحضاراتها إلى جدل مفترض بين الوعي واللاوعي للمضي بنصه / عمله إلى إبهار متلقيه وبالتالي منعه من إشاحة وجهه عن النص / العمل كما جرت العادة في أكثر الأحيان، وهذا يحثه على الإستمرارية في المضي في حضرة منجزه نحو تلمس ما يستدعي التوغل فيه تقديراً لمقولاته في كل تعالقاتها وحركاتها.

ثمة مفاجآت في حكاية سيف داؤود أقصد في عمله، فهو لا يلاحق الحدث مهما كان موجعاً، لأنه يدرك بأن العمل الفني إذا إقترب من الحدث قد يحترق به وفيه، وهو يدرك أيضاً بأن وجع العمل الفني يختلف عن وجع الحدث، ولكل منهما آلامه وآهاته وإن كان التقاطع بينهما بيّناً، ومهما حاول الفنان أن يغرق عمله بوجع الحدث لن يرتقي إلى آلامه وويلاته، بل هو أعجز من أن يقترب منه، ولهذا فالفنان يتحاشى هذا التقاطع، بل يتحاشى الإقتراب ذاته، وهذا نابع من وعيه الحداثي الذي يدفعه أيضاً إلى عدم الإكتفاء برشق العمل الفني بمحن الواقع، بل يُحَمِّله لواء مساءلة الروح  ويجسده فيه بنمط مغاير، وهو بذلك يحاصر منجزه من الداخل محاولاً إبعاد المؤثرات الخارجية على نحو ما، ومن الظاهر أن رغباته بالخروج من سلطة الخارج يدفعه إلى تفعيل سلطة الداخل بجرعات أعلى غير آبه بما سيؤول إليه منجزه، كل ما يهمه أن يأخذ ذلك المنجز تشكله الفعلي ويبدأ بالشروع في الخروج المنشود دون أية مجافاة من اللحظة ذاتها، فهو يتطلع إلى إيجاد شكل فيه تبنى الحقائق المعلنة منها وغير المعلنة وفق صيرورة من العلاقات المستترة التي تحكي حاجات ومتطلبات المُنجِز والمُنْجَز، ومن خلال ذلك كله نستطيع أن نقول بأن البحث كعملية عاتية للفنان فهو لم يغادر مضجع داؤود، بل بقي يلح عليه عله يوصله إلى ما يفي بحاجاته كإنسان أولاً وكفنان ثانياً، حينها قد يقوم بإيجاد نصه / منجزه الخاص، بإيقاعه الخاص في لحظات إستدعائها دون أن يعصف به ماهية كل ذلك.

سيف داؤود يختزل أبعاد ويلغي أبعاد أخرى، يختزل بعض عناصره بمكوناته البنائية، ويلغي ما يستدعي المراوحة في العمل الواحد، فيتطلع للإنتقال من نبع إلى آخر ، من حالة إلى أخرى، متجنباً الركود والمآزق التي تلد منها، ذاهباً بخياله إلى مناطق مفتوحة، مأهولة بأحاسيسه، تستوعب رؤياه، وأفكاره غير التقليدية، حاملاً بين طياتها لغة إدراكية يقوي من فرص قراءتها من قبل المتلقي على نحو أكثر، يجعل من خطواته أكثر ثقة لا ينكر ذلك التجاور داخل فضاء عمله، ولا تلك الصور المكدسة، الموغلة في أثره، فثمة إزاحات تمكن نصه من الإنغراس بمكونات لا يلغي التعاقب، ولا ما إبتلاه نصه بتزامنات تتسم بالعودة إلى البدايات المفتوحة على النهايات الموجعة، فتتعاضد مفرداته وتلك اللحظات التي تنام بين أحاسيسه وكأنها جبال كيف بها أن تنزاح هي أيضاً وهي المكللة بثلوج ودماء، كيف بها أن تردد النشيد وهي الممتلئة بالنحيب، فلم يعد للكهرمان بيت، وما تبقى من زمن قذف به  آباؤنا لنا، بدأ الموت فيه يتسلل إلينا رويداً رويداً حتى بتنا في عتمة ليس بمقدور جثامينا مغادرتها، ففي هذا الابتهال الحزين يشتغل داؤود دون أية عذول عنها، فالهزيمة مقيمة والمهزومون كثر وهو ونحن منهم، فهل يستمهل قليلاً ليفاجئنا كعادته بدفء مشاعره ونسائم أحاسيسه دون إرباك، فالوباء يتشدق بالجميع، والأمكنة باتت بحيرات دم، والحضور بات بأصابع ترتجف توكيداً على إستيقاظ الهلع الكبير، فثمة جلجلات تنزوي في الروح، وتشامخ الأبواب الموصدة، فهل يفعلها داؤود، ويكون قادراً على كسرها، أم أنه بدوره سينزوي في العتبات حتى توافيه الملفات بكل عسرها.