سيكولوجية الشعر: غواية اليأس ومشقة الأمل

النور قادم لا محالة

إن الدارس المدقق للتاريخ البشري من خلال الأدب؛ سيخرج ببعض السمات الحاكمة والمقاييس الدالة التي تربط الأدب بالظاهرة الإنسانية ككل، ويعد الشعر جوهرة التاج وأعلى التمثلات الأدبية وواحدا من المعايير التي يمكن بها اختبار الحالة الحضارية لأمة ما بين النهضة والنكوص، فتستطيع أن تصفه - سواء أقر كتابهُ بذلك أو امتنع بعضهم - بأنه من المقاييس المعبرة عن ضعف أمة أو قوتها، من خلال اتكائه على مستودع هويتها واستحضار ذاكرة قديمة مطمورة، أو استبدال ذاكرتها بوافد بديل عنها يمثل حالة استلاب وخروج من الذات.

• سيكولوجية الشعر: معادلة الدافع والتوحد

كما أن للشعر عملية سيكولوجية محددة وضابطة بدقة، فلا يكتب إلا عند حالة من التوحد والتشبع بروح ما.. تقوم على الإحساس بالقدرة والامتلاك والسيطرة على إنفعال أو عاطفة أو مثير أو دافع بعينه، فيمكن القول إن عملية كتابة الشعر وإنتاجه تتطلب في كل لحظة إبداعية شيئين متلازمين، أولا: لا بد من وجود الدافع أو المثير تجاه شعور أو عاطفة أو انفعال ما. ثانيا: لا بد من الوصول لحالة التوحد أو التشبع أو السيطرة على هذا المثير، لتخرج اللحظة الشعرية إلى النور، وهذه هى المعادلة النفسية الحاكمة للشعر أو سيكولوجية كتابة الشعر.

• كيف يمكن السيطرة على انفعال الأمل والصمود!

المعادلة النفسية المزدوجة للشعر لها شرط سهل التحقق وشرط صعب المنال، الشرط السهل هو الانفعال بعاطفة، والشرط صعب المنال هو التوحد مع هذا الانفعال والتصالح معه ومع ما يتطلبه من مستلزمات وطريقة حياة يفرضها الشاعر على نفسه، وشرط الصعوبة هنا يتوقف على نوع العاطفة التي يختارها الشاعر في مساره الإنساني.

يمكن القول إن هناك اختيارين رئيسيين للشاعر في علاقته بالحياة والواقع عموما؛ إما الأمل والصمود والبحث عما هو أفضل إنسانيا أقرب للقيم الإنسانية العليا في أي شكل أو تمثل لها، أو الاختيار الثاني وهو الخضوع والاستسلام للواقع أيا كان هذا الواقع وتمثله وأيا كانت مبررات هذا الاستسلام والانهزام له.

ومكمن الصعوبة في المعادلة النفسية للشعر وتحققها هنا، سيكون في الحالة الأولى تحديدا وقدرة الشاعر على التوحد مع الأمل والصمود، وما يتطلبه ذلك من انتظار وترقب ومرتفعات ومنخفضات تفرضها طبيعة الحياة، لأن السيطرة على الشعور بالأمل ومقاومة الواقع تتطلب قوة داخلية ووعيا مفارقا يوجه هذه القوة نحو المستقبل، ناهيك عن قدرة الشاعر على تجاوز ما سبقه والتعبير في صيغ بارعة عما يدور في داخله.

• كيف لا نستسلم لغواية عاطفة اليأس والهزيمة!

لكن الحالة الثانية لسيكولوجية الشعر والشاعر تعد على المستوى النفسي أكثر يسرا وهي القبول باليأس والهزيمة والتوحد مع حالة الاستسلام، فالاستعداد النفسي البشري لحالة التكيف مع الضعف والخضوع أكثر غواية وقربا للشاعر من قدرته على استيفاء شروط مقاومة الواقع والإصرار على شيء متخيل وغائب، لذا تصبح شروط الغواية النفسية أكثر جذابا من صعوبات ومتطلبات التوحد مع الأمل عند الكثير من الشعراء، لذا ستجد أن المحطات التاريخية التي ذاعت فيها الهزيمة والانكسار والاستسلام لروح العبث والعدمية في أشكالها المختلفة، ربما ستجد مقطعا عريضا من الشعراء ركبوا هذه الموجة واستطاعوا بسهولة تحقيق الشروط النفسية لكتابة الشعر أو سيكولوجيته بسهولة، في حين على العكس في محطات الأمل أو الصمود أو البحث عن استعادة الذات التاريخية لأمة ما، ستجد قلة قليلة هي التي تستطيع تحقيق المعادلة النفسية للتوحد مع الأمل واستبصار وعي ما نحو المستقبل، هنا الشاعر في هذه المعادلة لا بد ان يملك إرادة نفسية لقبول والتعايش مع الأمل، وفي الوقت نفسه لا بد ان يكون مبصرا طريقا ما نحو المستقبل.

وما أصعب الشروط السيكولوجية لمشقة الأمل ودربها المفارق، وما أيسر الشروط السيكولوجية لغواية اليأس.. لهذا في فترات الحلم وشيوع الأمل دائما ما يبزغ القلة من الشعراء، وفي فترات الضعف والاضمحلال يستطيع العديدون انتحال الحالة الشعرية لليأس واستسهال الشروط النفسية لها، في حين أن الشروط النفسية للأمل صعبة لأنها تتطلب أيضا بصيرة ما نحو المستقبل، فربما هناك من يمتلك الشروط النفسية لكنه لا يمتلك البصيرة، وربما هناك من امتلك البصيرة لكنه لم يمتلك الموهبة اللغوية للتعبير المفارق عن شعره.

على عكس غواية اليأس التي تضع الشاعر في منطقة شعورية مغرية وسهلة نفسيا – رغم ثمنها الفادح الذي ينعكس على حياة الشاعر وخراب روحه – فيستطيع أن يدخل أي مشهد حياتي بروح ذلك الفارس المنهزم المتحسر على الحال، وبكل يسر يؤنسن مجموعة من التفاصيل التي تقوم على الفقد وحنين الشخص غير المتحقق، لكن كما قلت في المقابل يعيش الشاعر الذي ندهته غواية اليأس حالة فصام شديدة في الحياة إذا كان صادقا، فتصطبغ روحه وبنيته النفسية بالفعل بغياب الجدوى ويظل حائرا بين روح الشاعر وتلك الذات القديمة المفترض أنها تعبر عن الجماعة، وبين ما يعلنه ما استسهال وغواية لليأس، وكأنه الراهب المشلوح، لا عاد راهبا ولا قبل بشلحه.

• غواية الهزيمة للشعر المصري

انطلاقا من البيان السابق لسيكولوجية الشعر والمعادلة النفسية الثنائية له؛ يمكن لنا أن نقدم نموذجا سيكولوجيا تفسيريا للمشهد الشعري المصري و\"النمط الشعري\" السائد فيه الآن الذي يتم الترويج له، هناك حالة من الشيوع لعدة نماذج شعرية جديدة ووسيطة (ثمانينية وتسعينية)، تقدم كتابة تجمع صفتين رئيسيتين: (الهزيمة - العاطفة الإنسانية)، وهذه الكتابة انتشرت انتشار النار في الهشيم وأصبحت تلمح العديد من النصوص البارعة على المستوى التعبيري خاصة في أنسنة الفقد والحنين للحزن والتوحد مع حالة الخسارة والتحسر على الحال، هنا يظهر السؤال كيف تجاورت كل هذه النصوص البارعة في حالة الفقد والحزن والتحسر على الحال وأنسنة الهزيمة!

أعتقد أن المعادلة السيكولوجية للشعر التي طرحتها بالأعلى هى النموذج التفسيري القادر على سبر أغوار ذلك المشهد المصري، لقد استسهل هؤلاء المعادلة السيكولوجية الشائعة لليأس في مقابل التخلى عن الوقوف منفردين في مواجهة الواقع واستحضار الشروط النفسية لمشقة الأمل والصمود.

وللتأكيد؛ كم شاعر مصري كان مشهورا وله تجربة مميزة في ظل المد القومي وحالة استعادة الذات المصرية في الستينيات (التي قد يختلف الناس حولها جزئيا أو كليا لكن ذلك ليس بيت القصيد هنا)؟ ستجد أسماء تعد على الأصابع.

ثم انظر مع السبعينيين؛ اتسعت مساحة التخلص من مشقة الأمل النفسية واستحضروا حالة ثنائية تجممع بين غواية اليأس ومشقة الأمل، لكن التجربة ظلت قاصرة وعاجزة عن إنتاج روح شعرية لها قامة واضحة لحالة البين بين تلك.

ومع الاختيارات التي قام بها التسعينيون حسم البين بين السبعيني لصالح غواية اليأس واستسهال الهزيمة والخراب.

• رومانتيكية أنسنة الهزيمة تواجه الرومانتيكية الثورية

ومع دخول العقد الثاني من الألفية الثالثة واستعادة الثورة المصرية لمشقة الأمل وحلم نهضة الجماعة المصرية مجددا فيما يمكن تسميته رومانتيكية ثورية (من خارج الطبقة الثقافية النمطية الموروثة)، ظهر في المواجهة تيار جديد في الشعر المصري له قوام قديم (ثمانيني وتسعيني) استقطب وأغوى بعض الشعراء الجدد أيضا، وحَوَّلَ فكرة التسعينين عن غواية اليأس وقبول العدمية والعبثية واستسهال الشروط النفسية، إلى حالة جديدة تتمركز حول الفقد وأنسنة الهزيمة والتحسر على الحال، وكأنها رومانتيكية الهزيمة وأنسنتها في مواجهة الرومانتيكية الثورية وحلم استعادة الأمل، وهذه الحالة الجديدة بشروطها النفسية التي تغلف غواية اليأس بالتحسر على الحال استقطبت شريحة تتسع كل يوم ويستسهلها الكثيرون، لأنها تقدم معادلة شعرية شروطها النفسية سهلة ومغرية للغاية، لكن ماذا بعد أن يمر التاريخ قليلا ويتنحى ذلك التيار من سيادة المشهد الثقافي والشعري المصري إن عاجلا أو آجلا!

• مشقة المتخيل الشعري المصري الغائب

نعم للشعر في التوحد مع الأمل مشقة وشروط لا يملك الكثيرون القدرة على الوفاء بها، وتظل غواية اليأس وسهولة التوحد مع حالة الهزيمة تتربص بالشعراء الجدد والقدامي؛ خاصة وأن الأجيال القديمة المسيطرة من السبعينيين والتسعينيين لن ترحب بنمط شعري مخالف يقدمه قلة تتمركز حول مشقة الأمل والإمساك بالذات والصمود!

وتبقى اللعبة في المشهد الشعري المصري سيكولوجيا كالتالي: غواية مناطق شعرية تقوم على استسهال التخلي والشعور بالفقد وسهولة الولوج لتلك المناطق الشعرية المؤلمة والحزينة رغم ثمنها الفادح نفسيا وإنسانيا، في مقابل مشقة الإمساك بحالة الأمل وما يتطلبه ذلك من شروط صعبة وقاسية على الشاعر فنيا وروحيا وبحثا عن رؤية للعالم، عالم يكاد يسيطر عليه العبث والوقوف ضد التيار السائد يستلزم مشقة يفرضها الشاعر على نفسه وفي حياته.

• الثمن للأمل والثمن اليأس

ويظل الثمن النفسي الذي يدفعه الشاعر حين يختار غواية اليأس ويستسهل حالة الشجن والشعور بالفقد والتحسر على الحال وأنسنة التفاصيل والبكاء على أطلال الذات، يظل الثمن باهظا لما يحكم به على نفسه وما يصيبها من شرخ جراء التصريح بفكرة الهزيمة، فالتصريح أو الاعتراف أو الموقف العلني يمثل أعلى درجات خضوع الذات البشرية، ليصبح الشاعر كمن ندهته النداهة يبحث عن ماذا لا يعرف! لا يكتفي من كتابات الهزيمة ولا تكتفي منه، ويظل كمن يحفر تحت قدميه باستمرار.

في حين أن الثمن الذي يقدمه الشاعر حين يختار مشقة الأمل، يظل في المجمل حياتيا يفرض به على نفسه طقوسا خاصة للبحث عن مسارات المستقبل واستشراف الدروب الشعرية لذلك، ويظل في حالة مطاردة واختيار للحظات شعرية مختلفة ومفاجئة، لأنه لا يستند على مفتاح الشجن والحزن كما في غواية اليأس والهزيمة النفسية، لكنه في المقابل يملك روحا خفاقة تستطيع التوحد مع حالات شتى للشعر غير محدودة بتصدير الشجن والحزن، ويملك بنية نفسية مؤهلة للدهشة واختبار مساحات جديدة دوما.

ويظل الوقوف منفردا أشد اختبارات وجوائز الشاعر الممسك بمشقة الأمل، فهو يسير عكس ركاب النمط الأدبي السائد، وتظل انتصاراته الشعرية غير معترف بها إلا بعد انحسار قدرات \"صنع النمط\" الادبي وتشكيله، واختفاء الهالة المزيفة التي يتم منحها لتلك القيم النفسية، عبر طبقات النقاد و رجال الصحافة الثقافية ودعم المؤسسات الثقافية التي يوجهها بعض الأفراد أصحاب المراكز المعرفية التي ترتبط باختيارات السلطة عادة.

• قياس الشعر على الأنواع الأدبية الأخرى

وما ينطبق على الشعر ينطبق على الأنواع الأدبية الأخري التي تقدم صورة البطل والذات في السرد والمسرح مثلا، لكن الشعر يقدم عليهم من الناحية السيكولوجية لأن الشاعر قلما يستطيع الهروب وراء قناع نفسي يمرر من خلاله اختيارات بطله المنسحب أو الآفل، في حين يمكن في الرواية أو القصة تمرير اختيارات الهزيمة من خلال أقنعة أخرى، وكذلك في المسرح حينما يكون البطل عبثيا محضا.

لكن الشاهد هنا أن أنواع الفن غير الشعرية كالمسرح والسرد؛ ينطبق عليها المعادلة النفسية ذاتها لمشقة الأمل أو غواية اليأس، وكلما كان الفن الأدبي أكثر مواجهة ومباشرة في مقاربته للعالم كلما اتضح دور المعادلة السيكولوجية المرتبطة في الأصل بالشعر كمعبر عن حال الجماعة ولسانها الأبدي.

فالروائي الذي يستسهل حالة العبث وكتابة الدستوبيا (المدينة الآفلة) يظن أنه من خلال التداعي وكتابة تفاصيل الهزيمة وأنسنة لحظات الخراب والتشيوء، يظن انه يحقق رابع المستحيلات، في حين تظل الصعوبة كل الصعوبة في قدرة سارد على تقديم رؤية فنية ما لبطل يمسك بذاته ويبحث عن الأمل.

وما ينطبق على الشعر المصري ينطبق على سرده؛ فانتشرت روايات الدستوبيا والعبث، وانتقل الروائي من مرحلة رصد الواقع كآلية للاحتجاج والتمرد عليه سابقا، لفكرة قبول الهزيمة والتشبع بالخراب واليأس للسهولة النفسية لتلك الحالة.

• خاتمة:

يمكن تقديم أمثلة شعرية وسردية دالة لنموذج التفسير السيكولوجي السابق للشعر، وتحديدا للمشهد الشعري المصري كتطبيق على فرضي العلمي، لكن ذلك ليس مجاله في مقال.

وختاما أعتقد أن الأدب المصري سيقف كثيرا أمام ما رَوَّجَ له النمط الثقافي السائد في سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي، وسيدرك المدققون ما يحاول فعله الآن ورثة النمط من التأكيد على سيكولوجية اليأس وغوايته، وما يبذلونه من جهد شاق لاستقطاب كُتاب العقد الثاني من الألفية الثانية نحو هذا المسار، والتخلي عن مشقة الأمل التي صَحبت الذات المصرية مع انطلاق حلم النهضة والثورة على الواقع في يناير/كانون الثاني 2011.

ويظل حلم النموذج المصري المعبر عن حاضنته التاريخية والراغب في استعادة مشروعه الحضاري القديم رهنا بالمشقة وناسها، وتظل البلاد \"طازجة مهما حدث\" حلمها لا يلين، رومانتيكية ثورية تسير في الظل، وتعلم ان موعدها إلى النور قادم لا محالة.