شتاء ماكرون المشتعل

احتجاجات السترات الصفراء تكشف سطحية المعالجات السياسية والحكومية في فرنسا.

كل وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، فضلا عن الصور التي تتقاذفها وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية، تؤكد أن فرنسا الجميلة تشتعل، بل ويتسارع الغضب بين مردتي السترات الصفراء وقوات مكافحة الشغب ويتصارع أيضا. وبعيدا أن أية تأويلات بليدة يمكن رصدها لتحليل لون السترات وحجمها ونوعها المصنوع بها، وبعيدا أيضا عن أية تفسيرات غير موضوعية تنحاز إلى فريق دونما الآخر، فإن الغضب الشعبي الفرنسي الذي يوصف إعلاميا بالاحتجاجات على استحياء قارس كبرد باريس بغير استخدام لكلمة ثورة رغم أن فرنسا هي صاحبة أكبر ثورة كما تذكر كتب التاريخ المدرسية والجامعية، هذا الغضب الشعبي لا أظن أنه اشتعل فقط بسبب أزمة زيادة أسعار الوقود، أو ضرورة فرض الضرائب على الأغنياء فقط، أو لسبب يتصل بثورات الربيع العربي منذ سنوات ألا وهو مطلب تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين الأحوال المعيشية. بل إنني أزعم ظنا قد لا يشارف لقوة اليقين أن أبرز أسباب اشتعال الاحتجاجات الفرنسية والتي أظنها لن تهدأ لأسابيع أخرى قادمة مفادها الخطاب السياسي الشعبي هناك، ومشكلة فرنسا أنها بخلاف بريطانيا العظمى؛ فالأولى تكترث بقضايا خارجية وتلقي بثقافتها الوافرة في شتى بقاع الأرض؛ في تونس والجزائر والمغرب ولبنان، وربما كافة دول أفريقيا الوسطى والغربية، في حين أن بريطانيا أكثر جدية وتفاعلا مع مشكلات الداخل وقضايا المواطن وحرص رئيسة الوزراء هناك على الظهور بصفة مستدامة لمناقشة أمور داخلية تمس حياة المواطن البريطاني بصورة مباشرة، وهذا الحرص هو ما دفع رئيسة الوزراء إلى الخروج البريطاني من حظيرة الاتحاد الأوروبي تحت ما أسمته صالح بريطانيا ومواطنيها.

لكن في فرنسا يبدو الأمر مختلفا، فرئيس الوزراء إدوار فيليب الذي بدا اسمه اليوم معروفا، بدأ يدعو لإجراء حوار مجتمعي مع رموز وممثلي حركة "السترات الصفراء" التي تنظم التظاهرات الاحتجاجية في باريس وجميع أرجاء فرنسا. ليس هذا فحسب، بل صرح متعهدا أن الحكومة الفرنسية المضطربة الآن سوف تقوم جاهدة بمعالجة فورية لمخاوف الفرنسيين بشأن ارتفاع تكاليف الحياة المعيشية. وفي نفس تزامن اشتعال فرنسا الشتائي أعلن نائب وزير الداخلية الفرنسي لوران نونيز، أن نحو 31 ألف شخص شاركوا في تظاهرات حركة "السترات الصفراء" في أنحاء فرنسا السبت الماضي، دون أدنى إشارة رسمية إلى حجم الاعتقالات والتوقيف الشرطي، أو حتى الهتافات المتصاعدة تحت شعار واحد هو "ماكرون.. تنحى". وأضاف رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب أنه تم اعتقال 481 شخصا في باريس في وقت نفذت الشرطة الفرنسية عمليات تفتيش للمواطنين والأجانب على السواء، استهدفت من يصلون منهم إلى محطات السكك الحديدية، وكذلك في المناطق الملتهبة غضبا واحتجاجا التي تركزت فيها احتجاجات أصحاب السترات الصفراء على غرار الشانزيليزيه ونصب الباستيل.

ولاشك أن الخطاب السياسي الشعبي في فرنسا ظل على الهامش لفترة طويلة باعتباره على الدوام خطابا خارجا عن سياق المؤسسة الرسمية، وبحد وصف كبار المحللين السياسيين في فرنسا، بأن هذا الخطاب ينفلت بحكم كونه منتجا خارجا عن المعايير الشرعية السياسية إضافة إلى أنه نص سياسي يفتقد الكثير والكثير من شروط إنتاجه، ورغم هذا التهميش القصدي ظل هذا الخطاب الشعبي الفرنسي يمارس كافة حقوقه الشرعية بل شكل صداعا مزمنا ومستداما برؤوس الأنظمة الحاكمة رغم أن فرنسا التي تدعي ليل نهار أنها حضن الحريات ومهد الثقافة الكونية أخفت ولا تزال تخفي هذا الخطاب السياسي غير الرسمي.

ورغم خطورة وأهمية الخطاب السياسي الشعبي الغائب في فرنسا نجد صورا أخرى لتخاذل بعض نواب فرنسا الممثلين للشعب هناك أيضا، فلقد تناقلت الصحف البريطانية أنه ضمن المؤشرات السلوكية لاشتعال الغضب الشعبي الفرنسي مؤشر يشير إلى تسلم النائب الفرنسي بينوا بوتيري، عضو البرلمان عن حزب ماكرون، رصاصة بالبريد الجمعة الماضية أرفقت برسالة كتب عليها "في المرة المقبلة، ستكون بين عينيك".

ومشكلة هذا الخطاب السياسي الشعبي ليس في لغته أو في نصه وإحداثياته، بل تكمن المشكلة الحقيقية له في عملية تأويله وتحليله، واختلاف آليات فهمه وإدراكه، وبالأحرى تباين التوجهات الأيديولوجية حينما تتلقى هذا النوع من الخطاب السياسي. وهو الأمر الذي لم يدفع الحكومة الفرنسية إلى الانتباه له وإدراك خطورته، وأن الأمر ليس مجرد احتجاجات من أجل زيادة أسعار الوقود فحسب، أو ارتفاع بعض السلع الاستهلاكية، لكن الأدهش أن خطاب الشعب الفرنسي سيستحيل بمرور الأيام لاسيما عقب الفعاليات السياسية الكبرى التي تعتزم الحكومة الفرنسية إلى تدشينها لتعطيل الوقت البطئ ولكسب مساحات أكبر من الانتشار والسيطرة على تلك الاحتجاجات، سيستحيل إلى ثورة أكبر وأعظم لا يمكن إخمادها بحفنة من القنابل المسيلة للدموع أو بالاعتقالات والتوقيف،

وقديما، وفي الأعراف الثقافية، كان الخطاب الشعبي يطلق عليه اسم منشور سري، وسرعان ما تحول المسمى القديم بفضل عقاقير الديموقراطية إلى مسميات معاصرة مثل بيان رسمي، أو إعلان، أو نداءات أو ثمة استغاثات تتحول إلى تحذير موجه إلى أي نظام حاكم، وكل هذه الأسماء التي التصقت بالخطاب السياسي دليل قاطع على تباين تلقي الخطاب نفسه، وربما معاناة خطاب الشعب السياسي من الإقصاء والتمييز هو الذي دفع إلى تعدد مسمياته، وحينما حاولت الأنظمة السياسية الرسمية في تهميش حركة الخطاب السياسي الشعبي وعزله عن الفكر السائد للمؤسسة الرسمية استطاع هذا الخطاب في حجز مقعد دائم له ولمدشنيه في الشهود المجتمعي والبقاء لفترات طويلة على الألسنة وفي الأذان أيضا.

وقد هيأ أصحاب الخطاب السياسي الشعبي أنفسهم على أن يكونوا على الدوام هامشيين يرتدون قناعات مستترة تقيهم وطأة بطش الأنظمة السياسية والدول البوليسية التي اعتادت ملاحقة النشطاء السياسيين، واكتفى هؤلاء بجعل نصهم السياسي هو المركز والمحور الرئيس غير مبالين بالتهميش الذي ينال أسماءهم وكنههم الشخصي، وربما هذا الاكتفاء بدور المهمش هو الذي مكن الخطاب السياسي الشعبي من الاستمرارية والبقاء ومن ثم التوالد والتكاثر من أجل وقوف رمزي أمام أي حاكم أو نظام سياسي رسمي. وإذا كان الخطاب السياسي الرسمي يعد في قوة القانون لأنه بالقطعية صادر من مؤسسات سيادية حاكمة فإن الخطاب الموازي له لا يتقيد بالقانون وإن كان يسعى بخطى وئيدة لأن يصير قانونا أو عرفا سياسيا شفاهيا غير مكتوب.

إن فرنسا الرسمية المتمثلة في الحكومة والرئيس، لم تستوعب المطالب الشعبية التي خرجت من أفواه وأقلام أصحاب السترات الصفراء، ولم تعِ جيدا الخطاب الشعبي الذي كان ينبغي أن يماثله خطابات أخرى رسمية بنفس المستوى، فخرج الغضب إلى الشارع، وخرجت القوات الفرنسية أيضا، ولكن على حد تعبير الكاتب خطار أبو دياب في وصف الأزمة الفرنسية "ومع التراجع الأولي من خلال إلغاء الضريبة الإضافية على سعر المحروقات، يكون الدرس الأول المستخلص هو نجاح العنف، وليس التحرك السلمي، بدفع الحكومة إلى تلبية المطلب الذي كان الصاعق لكل الحراك، لكنه درس لغير صالح الممارسة الديمقراطية واللعبة تحت سقف المؤسسات."

وإذا كان الخطاب السياسي الشعبي يتسم بالتشفير أو باللغة المشفرة لأنه عادة ما يحاول الفكاك من شرك الاستلاب الأمني، والتركيز على الدلالة والإيحاء الرمزي دون الاعتماد على الأسلوب المباشر في العرض، إلا أن احتجاجات فرنسا تخلت عن هذا المبدأ في التظاهر، وكأن هذا الظهور يشكل التحدي المعلن للحكومة الفرنسية والتي لم تدرك أن هذا الظهور العلني هو شكل للنهايات وليست طريقة لبداية الاحتجاجات والغضب، لكن رغم هذا التحدي المشتعل الذي سيستمر في زحفه لأسابيع قادمة، فإن الخطاب الرسمي في فرنسا لايزال يتقيد باستخدام مفردات لا تقبل التأويل أو اختلاف دلالة التلقي، الأمر الذي دفع البعض إلى الحيرة في تأويل وفهم وتحليل إعلانات رئيس الوزراء الفرنسي ووزير الداخلية الفرنسي التي تكتفي طوعا بالتلميح دون التصريح وبضرورة معاقبة الفوضى والاحتجاجات بعيدا عن الملامح الفرنسية التي كانت تستهدف الحديث إلى الحفاظ على المكتسبات الثقافية والحضارية، وربما الخطاب السياسي الرسمي الذي لجأت إليه الحكومة الفرنسية هو دليل كاف على عدم التنبؤ بمجريات الأمور المستقبلية بقدر ما هو وضع حلول سريعة لاحتجاجات آنية يجب إخماد نيرانها على الفور.

ورغم أن كافة دول العالم تدغدغ مشاعر وعواطف مواطنيها بدعاوى الديموقراطية والإيمان بالتعددية السياسية والنفور من الإقصاء والتمييز، إلا أن ثمة فوارق بينية تكشف عن التمايز بين الخطابين السياسيين الرسمي والشعبي، وهذا ما ظهر من مشاهد الغضب الفرنسية، وهي فوارق نجدها ثابتة وراسخة في جميع الثقافات الكونية أيضا، فبينما يبدو الخطاب الرسمي خطابا فوقيا، فإن تحتية الخطاب السياسي الشعبي أشبه برياضة تسلق الجبال، بل هو خطاب يشبه مقولة الروائي العالمي غابرييل غارثيا ماركيز إن المتعة تكمن في تسلق وصعود الجبال وليس البقاء والاستقرار على قمة الجبل.

الملمح الآخر الذي يفرق بين الخطابين هو مدى الشهود للآخر داخل الخطاب نفسه، فالخطاب الشعبي طالما أكد على أنه صوت ممايز لصوت النظام السياسي الحاكم، لذا فهو يحرص على وجود الآخر في سياقات الخطاب وإن اختلف كنه التواجد بين الإيجابية والسلبية، وعادة ما يكون الخطاب عبارة عن ثمة مطالب موجهة من الشعب إلى النظام الحاكم، بخلاف الخطاب السياسي الرسمي التقليدي الذي لا يرى ضرورة لوجود الآخر لأنه خطاب فوقي، وتختلف نبرة الاتصال بين الأنا والآخر تبعا لطبيعة الخطاب نفسه، فبين التوجيه والتهديد وتقديم النصيحة والرغبة في المشاركة السياسية دون تقديم إجراءات يمكن للشباب الاسترشاد بها.

ودلالة المعنى في الخطابين تبدو أيضا متمايزة، فالمعنى في كليهما يعاني من الاستهلاك والانتهاء إذا ارتبط بحادثة سياسية أو اجتماعية معينة، وهناك دوما حركة بين الدال والمدلول سواء كان الخطاب رسميا أو شعبيا، وإذا كان النظام السياسي الرسمي يتمتع بالقبول الشعبي ويتسم بالقوة والسيادة فإنه يستخدم خطابا سياسيا مباشرا بغير تورية أو مواربة للمعنى، أما الخطاب الشعبي فكثير ما يلجأ إلى تورية المعاني واستعمال رموز بهدف الحفاظ على سرية أصحابه.