شعرية التوحش التكنولوجي ورواية البريد الإلكتروني

أمين الزاوي يؤكد أن العالم المعاصر دخل في زمن "شعرية التوحش التكنولوجي" المثير.
منير عتيبة يتحدث عن الاستخدام الروائي المراوغ للمعلومات، ويقدم قراءة في روايتين للأفغاني خالد حسيني ورواية للروماني قسطنطين جيورجيو
محمد هندي يتناول غنائية البوْح وتداخل الحكي في رواية البريد الإلكتروني "وطأة اليقين" لهوشنك أوسي نموذجًا
هويدا صالح ترى أن الجنس الروائي انفتح على خطابات متباينة تعود إلى أجناس مختلفة

ترأس الناقد الدكتور أحمد درويش آخر جلسة بحثية من جلسات ملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي العربي "الرواية في عصر المعلومات" الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة خلال الفترة من 20 – 24 أبريل/نيسان 2019، وشارك فيها كل من: أمين الزاوي، ومنير عتيبة، ومحمد هندي، وهويدا صالح.
وتحدث الناقد الجزائري أمين الزاوي عن شعرية التوحش التكنولوجي والانقلاب السردي الروائي، وقال: دخل العالم المعاصر في زمن "شعرية التوحش التكنولوجي" المثير، حيث يوما بعد آخر تَتَجَاوَرُ بنية الإدهاش الخرافي وبنية الشيء الملموس في معادلة غربية يتماهى فيها اللامعقول بالمعقول، الجميل بالمفيد. 
اللامعقول، أو الذي كان بالأمس لامعقولا، ينسحب أمام زحف المعلوماتية المتجددة جيلا بعد جيل، ليدخل في باب المعقول والعادي. هذا الانقلاب المتسارع بوتيرة جنونية يتموقع داخل الذات الإبداعية الروائية من خلال تموقعه في المجتمع، حيث الذكاء الاصطناعي ينافس الذكاء البشري، وبذلك تأخذ الاكتشافات التكنولوجية المذهلة مكانها في اليومي الاجتماعي العادي وفي الثقافي العام وداخل السردي الروائي.
وأوضح أن شعرية التوحش التكنولوجي تلعب دورا في خلخلة جماليات المرئي (زمن الصورة) وفي الوقت نفسه تعمل على تثوير السرد الروائي، فكلاهما مرتبط بالآخر، يؤثر ويتأثر، فلا رواية بدون مُشَاهَدَةٍ، لأن المُشاهَد أي المرئي هو جزء أساسي في السرد، والسرد لا يعتمد اللغة فقط بل العين أيضا. 

Cairo forum for creative fiction
حجب بعض المعلومات، وتأكيد معلومات أخرى

وأشار إلى أن شعرية التوحش التكنولوجي أحدثت انقلابا في القيم الجمالية السردية الروائية خلال العشريتين السالفتين، إذ غيرت كثيرا في "فلسفة الزمن السردي"، وقال: لقد أحدثت شعرية التوحش التكنولوجي أيضا زحزحة في مفهوم الجغرافيا أو الفضاء السردي حيث أصبح ممكنا وبكل بساطة توسيع هذا الفضاء لما تقدمه  التكنولوجيا من إمكانيات تسخر الخيرات المعرفية وبشكل سريع ومذهل ودقيق للروائي. 
وأكد أن شعرية التوحش التكنولوجي أحدثت ثورة في المعارف التي يقدمها السرد الروائي، حيث أصبحت الموسوعات في متناول الروائي يستفيد منها بنقرة أو لمسة واحدة. كما أن هذا الانقلاب السوسيو - تكنولوجي خلخل بنية اللغة المستعملة في السرد الروائي، فالتكنولوجيا التي نستند إليها في التأسيس للنص السردي توفر تقاطعات لغوية كثيرة، فاللغة الأم في السرد، كالسرد بالعربية، تجد نفسها أمام سيل من اللغات والقواميس والعلامات والإشارات القادمة من رحم لغات أخرى، إذن فلغة السرد تكبر وتتنوع وتتوالد وتتأسس داخل غابة من اللغات الخفية أو المعلومة، وهي بوعي أو بلاوعي تمارس تأثيرها على اللغة الساردة  موسيقى وبنية.
ورأى الزاوي أنه في ظل شعرية التوحش التكنولوجي هذه، ومن خلال مغامرة السردية الروائية المعاصرة ستلتقي لا محالة سحرية وأسطورية "السجاد الطائر" كما هي في سرديات ألف ليلة وليلة بأسطورية وسحرية التكنولوجيا الجديدة، فأين هي حدود العجائبي وأين هي حدود  التكنولوجي؟ 
أما الكاتب منير عتيبة فقد تحدث عن الاستخدام الروائي المراوغ للمعلومات، وقدم قراءة في روايتين للأفغاني خالد حسيني ورواية للروماني قسطنطين جيورجيو، وقال إن المعلومات التي تبدو كحقائق نهائية غير قابلة للدحض أو التأويل بالنسبة إلى المؤرخ أو إلى العالم؛ هي من (الصلابة) بحيث يتم التعامل معها كما هي، لكنها تصبح بين يدي الروائي مادة (أكثر ليونة) مادة قابلة لإعادة التشكيل، وقابلة للاستخدام بحيث يمكن أن تنطق بما خلف ظاهرها، وأحيانًا تنطق بعكس ما يمكن أن توحي به للوهلة الأولى، أو حتى بعكس حقيقتها الجوهرية، يستخدم الروائي الانتقائية، وإعادة زرع المعلومات في بيئة مختلفة، أو إلقائها في مواقف مكانية وزمانية تُنطقها بما يريد لها أن تقول وليس بما تريد هي أن تقول أو بما ينبغي أن يُفهم منها، وهو هنا استخدام ربما يكون فنيًّا؛ بل هو فني بدرجة كبيرة خصوصًا إذا كان الروائي مدركًا لإمكانات فنه، وقادرًا على استخدامها بذكاء لا يصدم القارئ لكنه يحقق فيه (في القارئ) التأثير النهائي الذي يتغياه الروائي، لكنه يظل استخدامًا انتقائيًّا، بل أكثر من ذلك نسميه استخدامًا مراوغًا للمعلومات.
وأشار - بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع موقف الكاتب - إلى أن المراوغة هنا بالمعنى المعجمي لها وهو تحقيق الشخص لمراده بطرق خفية بها قدر من الخداع، وليس بها قطعًا موضوعية أو توازن أو عرض حقيقي لوجهات النظر المختلفة.
وفي قراءته لروايتي الأفغاني خالد حسيني "عداء الطائرة الورقية" و"ألف شمس ساطعة"، ورواية الروماني قسطنطين جيورجيو "شحاذو المعجزات" وجد عتيبة أن كلا الكاتبين يستخدم المعلومات المتاحة بالطريقة التي يريد أن يعبِّر بها عن وجهة نظره، فروايتا حسيني تنحازان إلى الولايات المتحدة انحيازًا واضحًا من خلال حجب بعض المعلومات، وتأكيد معلومات أخرى، بينما رواية جيورجيو تستخدم المعلومات للتنديد بموقف القوى الكبرى في خمسينيات القرن العشرين من البلدان الصغيرة. 

أما الباحث محمد محمود حسين (محمد هندي) فقد تحدث عن غنائية البوْح وتداخل الحكي في رواية البريد الإلكتروني "وطأة اليقين" لهوشنك أوسي نموذجًا، فقال: إن من بين الأشياء التي تمنحُ الرواية خصوصيةً وتفردًا فنيًّا، هو انفتاحها على المعطيات الخارجية سواء المرتبطة بالواقع وتحولاته، أو تلك المتعلقة بالفنون الإبداعية المتعارف عليها وبخاصةٍ الشعر، والمسرح، لذلك عُنِي الدارسون في كتاباتهم بمسألة انفتاح النص الروائي، وما ينتجُ عنه من تقنيات فنية، مثل: (تداخل الحكي، والتناص أو التفاعل النصي، وشعرية السرد، والمسرواية .. إلخ)، وهي تقنيات تؤكد تجريبية الرواية، وقدرتها على امتصاص هذه المعطيات، ومن ثَمَّ إعادة إنتاجها في رؤية جديدة.
وقد بات معروفًا في أدبيات النقد أن تغير الوسيط يصاحبُهُ تغيرٌ في الإبداع والتلقي، وهو ما تحقق فعليًّا في انفتاح الرواية وعلاقتها بالوسيط الرقمي (الحاسوب والإنترنت) الذي أصبح محورًا أساسيًّا في بنية كثير من الروايات المعاصرة، تلك التي اجتهد أصحابها في الإفادة مما أتاحه هذا الوسيط من تقنيات رقمية.
كان من بين هذه التقنيات المهمة التي تم توظيفها سرديًّا؛ تقنية الإيميل/البريد الإلكتروني، التي اكتسبت أهميتها من حالة الشخصيات التي تتراسلُ فيما بينها افتراضيًّا دون أن تلتقي وجهًا لوجه، مما أتاح لها مساحةً كافيةً للبوْح والاعتراف الذاتي، وقد تجسد ذلك في أعمال روائية تباينت في توظيفها لهذه التقنية، مثل: رواية "في كل أسبوع يوم جمعة" لإبراهيم عبدالمجيد، و"طريق الغرام" لربيعة ريحان، و"غواية الماء لابتسام التريسي، و"إيميلات تالي الليل" لإبراهيم جاد الله، وكلشان البياتي.
وأوضح هندي أن سمات أسلوبية كان لها حضورُها في بنية الروايات، صاحب توظيف هذه التقنية مثل: المونولوج، وتداخل الحكي، والاستفهام الحواري، والتناص التفاعلي، إلخ. وهو ما سيحاولُ مقاربتَهُ نقديًّا من خلال قراءة رواية "وطأة اليقين: محنة السؤال وشهوة الخيال" للسوري "هوشنك أوسي"، وكان للبريد الإلكتروني دورٌ فعال في تشكيل بنيتها السردية، بصورة تُشير إلى أن هذا النمط من الروايات من الممكن أن يُشكِّل مستقبلاً تيارًا سرديًّا له خصوصيتُهُ الفنية في الرواية التجريبية المعاصرة، ويمكن أن يُصطلح عليه فنيًّا باسم "رواية البريد الإلكتروني". 

Cairo forum for creative fiction
الإفادة مما أتاحه  الوسيط من تقنيات رقمية

وعودة إلى موضوع "الرواية وتداخل الأنواع" الذي نوقش في أكثر من جلسة سابقة، تقول الباحثة هويدا صالح: إن الروائي ما بعد الحداثي يسعى عبر التخييل ومفارقة ما هو سائد إلى تأكيد هوية الاختلاف عما هو نمطي من خلال تحقيق جمالية سردية تتمرد على الطرائق التقليدية للرواية الكلاسية، عبر الانزياح عن الشكل الروائي التقليدي المتعارف عليه في الكلاسيكيات العربية والغربية.
وتوضح صالح أن الكتابة الجديدة قد تكون في جوهرها كما يرى إدوارد سعيد: "تخريب السرديات الأوروبية عن الشرق وأفريقيا، واستبدالها بأسلوب سردي جديد أكثر لعبًا وأشد قوة، تشكِّل مكونًا رئيسًا في هذه العملية".
إن الكتابة الجديدة وهي تسعى للتجريب إنما تسعى إلى إقامة عالم تخييلي مفارق في نمط خطابه وصيغة تلفظه وطبيعة ارتباطاته بالمتخيل الاجتماعي وعلاقاته التناصية بالأجناس الأدبية والخطابات المعرفية والأشكال البسيطة والأعراف والقيم الثقافية.
وترى هويدا صالح أن الجنس الروائي انفتح على خطابات متباينة تعود إلى أجناس مختلفة، إذ نجد توافر الأداء المسرحي وامتزاج الشعري بالحكائي، والشفاهي بالديني، والخطاب الصحفي بالسياسي والتاريخي، ويأتي تداخل الخطابات وتعدُّدها في إطار انفتاح الخطاب الروائي عليها، وبتداخل هذه الخطابات يحدث اشتغال معرفي داخل المتن الروائي، مما يثري الخطاب الروائي الذي يمتح من الخطابات المختلفة التي دخلت فضاءه.
لذا أصبح الجنس الروائي هجينًا نوعيًّا منفتحًا في نصه على الأجناس الأخرى من شعر ومسرح وسينما وفن تشكيلي ومتون تاريخية وتراثية مما يجعله قادرًا على تقديم خطابات معرفية ثَرَّة.
وترى صالح أن الانفتاح على الذاكرة التراثية قد يُمثِّلُ رافدًا مهمًّا من الروافد التي تعتمد عليها الرواية المعاصرة، ويتجلَّى نجاح الروائي في أن يقدم نصًّا هجينًا متداخلاً في خطاباته دون أن يطغى خطاب على الآخر، ويظل في النهاية هذا الخطاب الهجين جنسًا روائيًّا، فلو استرفد الروائي نصوصًا شعرية يجب ألا تطغى على التشكيل السردي للرواية، وكذلك الأمر إن استرفد خطابًا تاريخيًّا يجب أن يحافظ على التشكيل السردي فلا يتحول المتن الروائي إلى نص تاريخي.