شعرية الذاكرة في "سبابتي ترسل نيرانا خافتة"

ثمة رؤية تتفرس في تفاصيل قديمة، تسترجع الأصوات البعيدة، تغريها الألوان والظلال.
قطع مسافة الخيال كل يوم تمرين ممتع حيث تمتد حقول العنب مذكرة الذات بمذاق النشوة وسكر اللحظات
لا تحدق كثيرا في عيني، لن تقدر على قطف ثمارها

مع مرور الزمن تقتنص الذاكرة أحاسيس الطفولة في فضاءات، شخوص، شخصيات جذابة ولحظات المتعة، تفتح في الروح الآفاق الجمالية وهي تبعثر صناديق الماضي باحثة عن لآلئ تمسح غبار اللحظة الآنية الكالحة المعطرة.
ثمة رؤية تتفرس في تفاصيل قديمة، تسترجع الأصوات البعيدة، تغريها الألوان والظلال. إنها تسترجع الأشياء في صفائها وجماليتها المدهشة. فيطل الماضي كضوء يغمر الروح المعتقة كلما حلت أقفال أبواب ونوافذ أسرها الجسد المرهق الواهن.
لا تحدق كثيرا في عيني، لن تقدر على قطف ثمارها
أمشي كل يوم في خيالي
أقطع حقول العنب ملتحفة برداء أمي الأحمر
أتوقف قليلا تحت سنديانة الطفولة
أبعثر صندوق الذكريات 
أعتدل في جلستي
فأسمع نحنحة جدي بين الرفوف
لا أحب الخروج من رأسي
تستهويني أرضه البكر
يأتي الشعر كزائر قديم لم تتغير قسمات جماله، طبيعة ربيعية تتغنى بمفاتنها، تغمر مجال الرؤية وتستعيد العين الرؤية من جديد. يكفي أن يطوف الخيال بأرجاء الروح ويغويها بالسفر للماضي حيث جمال البدايات ويمرنها على السفر اليومي كلما تيقظ الشعر كشمس لا تغيب إشراقتها كل صباح. 
قطع مسافة الخيال كل يوم تمرين ممتع حيث تمتد حقول العنب مذكرة الذات بمذاق النشوة وسكر اللحظات تحت تأثير شعور غامض، رداء الأم الأحمر هو لون الخمرة المعتقة لون التجربة والمغامرة والانغماس في لذة لا واعية. يمتد الماضي ويكبر في صورة سنديانة، هي سنديانة الطفولة تظلل مسافة عمر، تنبعث أصوات تحرك الروح كنغمة تعود للتو بعدما خمدت لسنوات. تنادي الذاكرة لتنبش المزيد من صندوق الذكريات الكامنة بين رفوف أوراق وكتب خلدت لحظات الماضي. تغادر الأنا الواقع تمتلئ بتفاصيلها القديمة بأحاسيس الانتشاء والخبرات الجمالية الأولى. 
اللغة قادرة على إيقاظ الصور وترتيبها في لوحة الورقة كتمرين يومي على استعادة شعلة خمدت في الأعماق وعثرت على فتيلها، تلك الفتيلة البكر التي تتوهج كلما عانقت اللغة ذاكرتها الشعرية. تبعث الأصوات كما اكتشفت في حيويتها الأولى، تسترجع ما علق في الذهن وخزن في الذاكرة من تجارب حسية شكلت لحظات إصغاء وشغف، تنهض الأصوات في عذريتها الأولى حيث لم تتشوه بالتكرار، الشعر هو انغراس في التجارب الخاصة، لا يردد أصداء وأصوات الآخرين. لذلك نهت الذات الآخر عن قراءة المعنى المباشر كانعكاس صور الأشياء على النهر بل هو ما يتدفق في مجرى النبض وما تزفه خفقات الاكتشاف والشغف والدهشة في اللغة.
للحياة اتجاهات معاكسة 
تماما مفترقات طرق، تأخذك للشيء وضده
تماما مثل كرمة جدي المسنة
نصفها يانع في تربتها
ونصفها مشجي ثياب ومعاطف!
تقاطع طرق مؤدية إلى قرية نائية
سياج صدأ وخطوات حافية 
وجوه سكانها على حيطان بيوتهم
شفاههم مغمسة في ضحكة باهتة
وعيونهم برك راكدة
للحياة اتجاهات معاكسة، 
نواعير ريح مهياة في كل اتجاه  

Tunisian poetry
كنجمة في عتمة

الحياة قد تدفعنا نحو الآتي الذي يذكرنا بتهرم الزمن وتأثيره على الكائنات والموجودات والأجساد والوجوه والحركة. كل شيء يتجه نحو النمو ثم يتراجع نحو الوهن (كرمة جدي المسنة، قرية نائية، سياج صدأ، ضحكة باهتة، عيون كبرك خامدة). والحياة في أعماق الروح حين تستعيد شعریتها لها طعم النبيذ المعتق تأخذك إلى ما تحت اللغة، إلى جذورها وبذورها الحیة، إلى مصدر الخلق حيث الجانب الذي لا يشيخ (نصفها يانع في تربتها، ونصفها مشجى ثياب ومعاطف)، كل ما هو قديم يذكرك بطعم البدايات، حيث لا شيء باهت ولا ركود .. ثمة شيء يتحرك في الطبيعة. أنت تصفو كلما صارت روحك أهم شيء يضيء لحظاتك. كل شيء يتلاقح تحت تأثير الرياح، الشعر يرى أعماق الأشياء، الحياة المرسومة في الذات والطبيعة والكون، بينما اللغة العادية تكتفي بتجرع مرارة تأثير الزمن على الأشياء والموجودات. تنعى الرحيل وتقيم المآتم، بينما الشعر لا يترك الكائنات تعيش عزلة وموتا في العراء، تنقذ الذات من العزلة والتصحر، فالأشجار تحيا واقفة تكتسي ثوب التمرد، الشعر هو وعي بقانون الخلق والحركة، نبش في تراب الذاكرة وتفرس ما حجب عن العين الناظرة.
كنجمة في عتمة
كنجمة في عتمة تمرين
تزرعين في ضفيرة الليل حباحب برق خافت،
تشيعين.
أغمض عيني كي أراك
أفتحهما وتختفين
يتسابق السرو على جنبات النهر 
شجرا يرتقي درجا حيث أنا وأنت 
قابعين هناك
هنا عشقي الرابض في صمت
يجر العمر بلا حوذي صوتي عربة،
عاشقة في الانتظار وأنت
وأنت ترتبك كعادتك أمام ضحكة الصباح
يخفق خطاف بين الروابي البعيدة باحثا عن جدران بيته
ويرقص نهر في مجراه
اخذ صورة للذكرى 
بينما تدوي في الأرجاء سقسقات فجر ات.
النجمة تتحرك كبرق خافت كضوء يبزغ في العتمة يحيي ذاكرة سرو تنعكس ظلالها على صفحات النهر، وتنقل إليه ظلالها حركاتها وهي لا تغادر وقفتها الأبدية تطل على الماء وترسم عليه رعشات أوراقها اللينة. يرتقي درجا كلما بحث عن مرايا تستجلي حركته ينغمس في رحلة تشكيل لوحاته. لا شيء شفاف عدا روح بالحلم لا تتأمل انعكاساتها وانعكاس الظل على سطح شفاف في فضاء شعري رومانسي. تتدفق العاطفة لتترك صمت انجذابها بالمشهد. إغواء الإحساس بخصوبة الماء. 
إنها عودة إلى فضاء الحنين، عودة دورية كعودة خطاف یألف المسافات والجدران،لا تتوه به السبل تماما كعودة الينابيع إلى مجرى النهر وإلى رقصة الأغصان على سطح الماء. إنها لحظة شعرية تستدعي أصوات المعنى في فضاء رحب وعودة إلى زمن البدايات.
الشعر وهو يأتي التماعات نجمة بعيدة تشق الظلام وتبعث إشاراتها إنما تشير إلى جمالية الصور التي شكلت مصدر شاعرية وتخيل وجمالية اللحظات.

الشعر وهو يأتي التماعات نجمة بعيدة تشق الظلام وتبعث إشاراتها إنما تشير إلى جمالية الصور التي شكلت مصدر شاعرية وتخيل وجمالية اللحظات