"صلصال أمريكي" قصص الحروب والكوابيس

ناجي الخشناوي، لم يكتف بقص الأحداث وإنما أقحم الراوي للتحدث مباشرة مع القارئ، كما كان يفعل بعض الممثلين في المسرح اليوناني القديم.
الأنا المتكلمة في قصة متخيلة هي تقنية اعتمدها السارد للتأثير علينا كقراء عبر التواصل الشفوي
الأحداث في قصة "شلت أصابعي" تدور في فضاء تطغى عليه مشاهد الدمار حيث تتكدس الحجارة والبنايات المنهارة

"صلصال أمريكي" مجموعة قصصية" للقاص التونسي ناجي الخشناوي، لم يكتف فيها السارد بقص الأحداث وإنما أقحم الراوي للتحدث مباشرة مع القارئ، كما كان يفعل بعض الممثلين في المسرح اليوناني القديم حين يخرجون من الركح، ويتحدثون مع الجمهور، ويكسرون الجدار بين المبدع والمتقبِل، أو كما هو الشأن في اكسسوارات الخرافة الشعبية التي تعتمد على عبارات توجه للمتقبل تتخلل الحكي لتشد انتباهه. وهذا ما جعلنا ننتبه لوقوف السارد أمام المرآة ، فلا نفصل من خلالها شخصية السارد عن شخصية الراوي المفترض.
 الأنا المتكلمة في قصة متخيلة هي تقنية اعتمدها السارد للتأثير علينا كقراء عبر التواصل الشفوي، ودمجنا في عوالم القصص لنصبح شاهدين على أحداثها. تواصل يتمرد فيه الراوي على السارد وذلك ما تجسد في قصة "رجل أصفر" على سبيل المثال: "إن أقصى ما يمكنني فعله الآن هو أن أعثر على آلة التحكم عن بعد وأهمس لكاتب القصص هذا "سيدي يمكنك إنهاء القصة الآن". كما يراود ذكاء القراء بقوله: "الأكيد أنكم تفطنتم لكذبي عليه وأنه لا وجود لأي طارئ عائلي". فهو لا يخاطب ذهن القارئ فحسب، بل يجر مدركاته الحسية ليخوض معه تجربة القص، خاصة وأن النصوص زاخرة بمشاهد الحرب والدمار وتأثيرها على حركات الشخصيات من خلال صور واقعية، ونفسية، إلى الحد الذي جعلنا نتساءل إن كانت صور الحروب مدونة في كتب التاريخ، تغزو الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، ألا يحتاج القارئ لتقيء صور هذا الواقع الدموي المدمر، أليست الكتابة قدرة على التطهر وشحن الواقع برؤى الفكر للبحث عن عالم بديل. وأي خصوصية يمنحها الكاتب لقرائه وصور الحروب تتشابه في عنفها وسادية مقترفيها عبر التاريخ والثقافات، فما الذي تقدمه الصورة من خصوصية يجد فيها القارئ ما يحفز على اكتشاف الجديد والمبتكر، فهل سيلوذ الكاتب بالرمز ليذكي قدرته على الابتكار أم أن للحروب مشاهدها المجسدة لنرى من خلالها وقعها على شخصيات مركبة مشوهة تحت وطأة صدمات دمرتها المشاهد قاسية، الرجل الذي يتبول لا إراديا  تحت تأثير كوابيس الحرب، والمصور في قصة "شلت أصابعي"، الصدمات النفسية التي تفضي للتعفنات النفسية السادية في قصة "رجل أصفر"، الشخصيات التي تتحول من القوة إلى الضعف. والأب الذي يتابع مشاهد الحروب في الصحف القديمة ويشارك ابنته تشكيل الأدوات الحربية بالصلصال في "صلصال أمريكي".

هذه عينات من مجموعة قصصية خاضت في موضوع شائك، مكرر، ممجوج، لكنها اقتنصت كوابيسه في اليقظة والأحلام

الصورة السينمائية في قصة "شلت أصابعي"
تدور الأحداث في قصة "شلت أصابعي" في فضاء تطغى عليه مشاهد الدمار حيث تتكدس الحجارة والبنايات المنهارة، تحولت فيه البنايات الشاهقة إلى  ثغور جائعة.. جدران مثقوبة بفعل طلقات الرصاص، أبواب ملقاة الكوابل تتدلى، الدخان، والغبار.
يتحول الفضاء إلى مكان واقعي تصويري يطل من شاشة ما، ترصد الكاميرا تفاصيل بعض الزوايا لتخطط للمشهد من جوانب مختلفة، لتواجه الشخصيات بعضها بعضا في واقع حربي ملطخ بالقذارة، ينشر الرعب، تشتد فيه المواجهة، واقع يصنع نمطا من الشخصيات لا من خلال صورها المسالمة وإنما في وضعيات متوترة صادمة.
"كانت الصغيرة جاثية على ركبتيها تمسك بيدها اليسرى قطعة حديد صغيرة صدئة. ملابسها تقطر وسخا من شدة الأغبرة التي خلفها غبار الشارع.. تبدو من بعيد مثل قصبة هواء صغيرة، ترتعش وترتعد بشكل يدمي القلب.. كانت مثل فأر صغير تسمر أمام جدار لا منفذ منه للهرب. لكنها كانت تحاول إظهار شجاعة ما، وقدرة على مواجهة أسوأ الاحتمالات".
تتحرك الكاميرا لترصد المكان والمواجهة الفاصلة مع هذه الفتاة المسلحة بقطعة حديد لتدافع بها عن نفسها  في قلب أحد الشوارع الخلفية تحت سماء رمادية مخيفة ترمز لوابل الرصاص المنهار على المكان. لم يكن الراوي وحده يواجه الموقف وإنما توجه للقارئ لنقل المشهد "وكأنكم أمام لقطة سينمائية تقدم مشهدا كلاسيكيا من أفلام الوستارن". فلغة المواجهة هي لغة رفع السلاح وإطلاق النار. ولكن الراوي أعزل، كان يواجه فتاة دمرتها الحرب وحركت فيها غريزة القتال، تحاصرها أكوام الحطام. فهرب إلى الأمام.
تمت المواجهة بين جسد محاصر بين الركام يتحكم في زمام المواجهة، وجسد له القدرة على الركض والقفز. ومع ذلك رمى جهاز التصوير، وفر عند انعدام لغة الكلام. فالحوار يغيب في الحروب وتحل لغة القنص. وقد استخدم السارد اللقطة العكسية عند الهروب وكانت الفتاة خلفه داخل الركام.
وفي عودته من الخلف عبر الشارع الموازي ليطل عليها من الفتحة المدمرة.  انقلب مشهد الصبية من طفلة هاربة من ويلات الحرب في المدينة الصغيرة إلى مقاتلة بآلة الكاميرا كأنها تتقمص وضعية جندي. "كان المشهد مغايرا تماما. أخذت الصبية وضعية جديدة، انبطحت على الأرض ببطنها الفارغ وجعلت قدميها الصغيرتين تتراقصان مثل المقص، وكان وجهها مصوبا نحو وجهي الناتئ من تلك الفتحة المدمرة".
تتحول الكاميرا إلى سلاح تركه المصور الهارب لتستحوذ عليه الفتاة المحاربة وعوض أن ينقل هو صورتها لصحيفته، تصوره هي وكأنها بصدد تغيير الأدوار.
"كانت أصابعها سريعة فوق زر القنص، تلتقط الصورة تلو الصورة وكان الفلاش القوي المنبعث من آلة التصوير ينهال علي مثل بريق النار الذي يخرج من فوهة البنادق عندما تطلق رصاصاتها".
وبذلك تحولت الفتحة التي تطل منها الفتاة إلى إطار للمجال البصري والمواجهة وجها لوجه، وهي تسمى المواجهة الفاصلة في لغة السينما الكلاسيكية. كما أن الراوي لم يكتف بالتواصل مع القارئ في وضعيات الخوف والهرب بل جعل القارئ يراه عند هربه من الخلف، وزخرت القصة بسلسلة لقطات سينمائية لتصور أجواء المواجهة والهرب. أما السارد فقام بتنظيم شخصياته من خلال شخصية المصور الصحفي المحاصرة في مكان شبه مغلق تتحرك في فضاء محدود وشخصية الفتاة المتحكمة في المشهد على الرغم من أنها محاصرة في مكان ثابت محدود. والرسالة التي أراد إيصالها للقارئ بأن السلاح أقوى من الصورة وهو الذي يتحكم في الصورة. فسياق الصور الفني مدرج في سياق سياسي في فترة تاريخية معينة. والحروب الجديدة صارت تعول على سلاح الصورة وهي تشحن عدتها. 

short story
اختلاق تهويمات متوترة 

فن القولبة في "صلصال أمريكي"
الفكرة التي نخرج بها حين نقرأ "صلصال أمريكي" أنه لا توجد حروب بل حرب واحدة تتكرر، تجدد آلاتها حسب التطور التكنولوجي. تفصل مشاهدها بصلصال لين عطر سهل التشكل كما اللغة التي تطاوع مستعملها. صورها تتكرر وتعاد بنفس الصيغة، تلازم الصحف القديمة والجديدة،  تعدد فضاءاتها لتواصل امتدادها، لكن من يطهر العالم من كل هذه الصور المدنسة، ألا تكفي كميات هائلة من المطهرات لإزالة صورها العالقة في الذهن والشعور.
فالراوي / الأب يداوم على قراءة الأخبار في الصحف القديمة، منتهية الصلاحية لأنه يدرك أن نفس الأحداث والأخبار تتكرر. الحرب هي الحرب.. جثث الأطفال والطائرات والصواريخ والبزات العسكرية. صور المجازر والقتلى والمصابين .. منظمات وهيئات دولية الغوث الإنساني والصليب الأحمر والأمم المتحدة.. صناعة الحروب الدينية والاثنية والطائفية والعسكرية من أجل تدمير شعوب بعينها.. بل نحن نعيش حربا يومية صارت مألوفة تتسلل صورها إلى أصابع البنت الهشة تحرمها من براءة الطفولة، تستبدل صور الطبيعة بصور الحروب، لتصنع من الأشكال المختلفة ذات الألوان الزاهية دبابات وطائرات وصواريخ وقنابل يدوية ومدافع وأحذية جنود وخوذات عسكرية وبوارج حربية ومكبرات صوت وجثث آدمية أيضا شكلتها البنت بالصلصال الأمريكي المرن.
ما تبقى من صلصال شكل به الأب مخيمات وطائرات هليكوبتر وشاحنات كبيرة وجعل قرب المخيمات عددا لا بأس به من صناديق الأدوية وكراتين العجين والحليب رؤوس آدمية بأجساد متهالكة تعلوها ملامح الجوع والتشرد.
والآخر الذي تحمله القصة المسؤولية على الحروب العربية لا يقدم قوالبه الحربية فقط، بل هو الذي يشكل العالم ويرسم مشاهد الدمار، ويتسلل إلى كل شيء حتى عادات الأكل، الفتاة تخير أباها في الأكلة التي ستشكلها من الصلصال إن كان يفضل  بيتزا أم برغر .. الصور إذن مرتبطة بإدراك الشخصيات أن هذا العالم متوحش. وزرع في أذهانها كل أدوات وصور الحرب، كما تسلل ايقاعه الآلي إلى عاداتها الاجتماعية، وفرض أنماطه الثقافية، لذلك اعتمد السارد على المشاهد البصرية المتراكمة في الذهن والذاكرة كتبت بلغات وأدوات شتى، وما زالت تتفصل من خلال الصور الإخبارية التي يتدفق بها الإعلام بل تسللت إلى رؤية الأطفال إلى العالم، ومن هنا يبرز صوت المؤلف وهو يعلي صرخة الإنذار بالخطر وهو لا يكتفي بالتحديق في الواقع بل يشعر أن جذوره تقويه وتزيد من حجم تضخمه. لذلك شكلت شخصية المعينة المنزلية التي تستهلك كمية مفرطة من مواد التنظيف وما ينتظرها من جهد لمسح آثار قوالب الصلصال الحربية حاجة هذا العالم للتطهر المفرط من كمية العنف المدمر.
الصور النفسية في قصة "الرجل الأصفر"
تنبري الصور النفسية للرجل الأصفر بتصرفاته الغريبة وهو يحول غرفته إلى مزبلة ليعبر عن فكرة متعفنة تجسدت بحركات هستيرية. من خلال إحساسه بانسداد الأفق وشعوره بالعيش في واقع معلب، وجد فيه الإنسان ومازال، يصنع علبه التي تحوي فوضاه وجموحه. فلم يرتب الأشياء من حوله بينما تتكدس على بعضها البعض في الحروب والنكبات وصور الهلوسات في الأحلام والكوابيس، ألا تحاكي تمثلاته الحلمية زيف هذا العالم المتنكر بلحاف السلام بينما يحركه المتوحش الجاثم في أعماق اللاوعي، ويراكم تضاريس صوره المفزعة. من هنا قدم لنا الراوي نفسه في قصة "رجل أصفر" وهو يعود إلى صور اللاوعي ويجسدها في الواقع حين يحول غرفته إلى أكداس من الأشياء والأدوات غير المرتبة كما عبر السارد عن ازدواجية هذه الشخصيى وانفصامها، وهو يقسم حكايته بين ضمير الغائب وضمير الأنا ليعكس انشطاره النفسي.
ما الفرق بين الأحلام والكوابيس والصور غير المرتبة، ألا تطغى على الواقع هلاوس الحلم المرتبة على شكل أكوام متراكمة على بعضها، هل تقدر الشخصية على التخلص من الهلاوس!  أم إنها عاجزة على مواجهة صور كبتها. لم يكن ما يفعله غريبا عن الواقع وصور ومشاهد الحروب.
العلبة هي الرحم المعلب الأول حيث هيأه للنزول لعالم لا طمأنينة فيه ولا سلام. يخلف شخصية سادية حركاته مركزة ومدروسة لتحرق كل هذه المحتويات برسم حزام دائري من البنزين وإلقاء عود الثقاب. الخروج من العلب. تدفعه لاختلاق تهويمات متوترة بينما الذئب المتوحش يعوي داخله. الحياة السهلة انتزعت منه مبررات الوجود. يصاب بذعر وتشل حركته ويتدخل صوت الراوي لينهي القصة. 
هذه عينات من مجموعة قصصية خاضت في موضوع شائك، مكرر، ممجوج، لكنها اقتنصت كوابيسه في اليقظة والأحلام.