"البيريتا يكسب دائما" الكتابة بالمسدس

رواية كمال الرياحي انعكاس لواقع مؤذ ترك شروخه على الجسد أو الروح في طبيعة قاسية تلتحف بالثلج، أين يعربد الذئب ويلتهم ضحاياه.
روايات ما بعد الحداثة تقوم على الوعي الذاتي وتقوض المسافة بين السارد وشخصياته
تمنى قتله حين انتبه لبشاعة أنيابه 

الكتابة في رواية "البيريتا يكسب دائما" هي مدخل للذات، تعكس ما تناثر من صور مؤلمة يلتقطها المبدع من الماضي البعيد. وهي انعكاس لواقع مؤذ ترك شروخه على الجسد أو الروح في طبيعة قاسية تلتحف بالثلج، أين يعربد الذئب ويلتهم ضحاياه.
من هنا انطلقت شرارة الكتابة عند "يوسف غربال" الشخصية الرئيسية في الرواية، وهو كاتب معارض من مكونات نسيج مجتمعي دولي، إذ ارتبط بالعمل مع صحفي فلسطيني يتنقل بين أوروبا وأميركا، يدمن الحشيش سماه "الحشاش الفلسطيني"، يدمن بيع الوهم للكاتب "يوسف غربال" في الوقت الذي وفر له لقب صحفي ورئيس تحرير في جريدة "الواشنطوني العربي" ليحرره من واقع ضيق، حيث إن عنوان الجريدة الفضفاض قد فك أغلال الكاتب والصحفي "يوسف غربال"، ومكنه من التنقل من بلد إلى بلد، بل انساق للانفتاح أكثر على حالات الحلم المفقودة من خلال الحشيش، وهو يكتب بعض يومياته الاجتماعية والسياسية والصحفية، بأسلوب مرتبط بتحرير الخيال، منطلقا من وضعيات عاشها، وكانت مطية لتحرير حكاية انتحار الكاتب الأميركي المعروف ديفيد فوستر والاس وتخيل علاقته بزوجته كارين غرين وصديقه جونوثان. وكان خياله يرتهن لخلفية ثقافية اجتماعية وبعض الديكورات والصور النمطية للمجتمع الأميركي، غير أن الحالات الإنسانية واحدة، جروح وقلق وعطانة وتقيؤ وبرود.
اكتفى الكاتب يوسف غربال بذكر اسم جوناثان دون لقب، ومن يكون غير جوناثان فرانزن الكاتب الأميركي صديق ديفيد فوستر والاس والذي جمعته على ما يبدو علاقة بزوجه بعد انتحاره، ولكنه اختار الهروب للانعزال في جزيرة نائية. ومن بين ما كتبه بأنه آثر عزلة روبسون كروزو على انتحار ديفيد فوستر والاس. فالانتحار فعل مشين كما صوره. وعند مغادرته لمنزل كارين غرين أهدته بعض رفات زوجها ليشاركه هناك الشعور بالسلام وهو يرتحل إلى نفسه.

كمال الرياحي يبحث عن دوافع انتحار فوستر لا في روايته "دعابة لا نهائية فحسب" بل من خلال تخيل سيرة حياته وتضمين بعض حواراته من روايته
 

ما أثار الكاتب يوسف غربال في شخصية جونوثان أنه الوحيد الذي تمنى قتله حين انتبه لبشاعة أنيابه، فهو رجل بلا ذاكرة للأشياء، رآه مجرد حيوان خرافي من الماضي السحيق يطل على أحلامه. أحيانا يراه مثل كلب أو نمر قاتم اللون يهرول نحوه. بل يراه كائنا ميتا، لأن ما تناثر بين طيات الرواية يؤكد رؤية يوسف غربال للكائنات الحيوانية التي يتمنى البشر موتها أو الحشرات التي يتمنون دعسها لا إراديا ما هي إلا صور أشخاص ماتوا وتلبسوا في هيئة حيوانية. "وكان صوت الغسالة يعيده لتناسخ الأرواح"  ص230. لذلك كانت كارين غرين ترى في نظرات الكلب الشاهدة على خيانتها مع جونوثان نظرات زوجها المنتحر.
ما يشغل الكاتب يوسف غربال في رواية "البيريتا يكسب دائما" التخلص من أرواح الموتى. فالكلب الذي أوصي به ليرعاه لم يكن غير صورة ميت. كان يرى في عينيه نظرات شخص  يريد أن يقوده للانتحار، ولكن لم يكن يجد الذرائع النفسية الكافية التي تجره لتعليق رأسه في السقف مع أنه كان يشعر بحالة من التأرجح بين الحياة والموت: "لا عشت ولا مت. معلق أنا منذ الأزل كفكرة خلقت  مشوشة". لذلك السبب نستخلص أنه قتل الكلب. كان بمثابة روح ضالة عن عالم الحياة تلاحقه، لذلك وجب التخلص منها من خلال رصاص البيريتا. وعدم الإذعان لفكرة الانتحار تتحول إلى كوابيس، وقد تحول جنود الموت إلى عناصر أمن يغطون رأسه بكيس أسود ويقتادونه إلى جهة مجهولة. فهو يشعر بنوع من الاضطهاد والخوف من أياد خفية تحمله إلى عالم معتم قد تنتهي به إلى الحلول في صورة حيوان ما. عالم يجرده من الإنسانية ويحوله إلى مرتبة الكلاب. فلا تبقى منه إلا نظرات باردة تشاهد ما يحدث من خيانات.
ويبدو أن الفكرة المسيطرة على الكاتب لا تقتصر على نظرات الكلاب فحسب بل شبّه الجثث  بالخنازير، حتى أن الخنزير المسلوخ المعلق في المطبخ لم يكن يراه غير جثة ديف المنتحرة. كما أن الضابط "علي كلاب" الذي كان يصطاد الكلاب بالبيريتا صوره على هيئة صياد الخنازير.
"بدا في الصورة عابسا، شعره أسود فاحم، وعلى رأسه مظلة قماش عسكرية، يشدها خيط، يمر عبر ذقنه نحو مكان قريب من أذنه الأخرى. بدا فيها مثل صيادي الخنازير". (ص16).
"البيريتا" في الرواية قتلت سياسيين معارضين وهما شكري بلعيد ومحمد البراهمي، تحتل البيريتا عنوان الرواية لكن لم تقتل بشرا بل حيوانات. "لا يعقل أن تصوب نحو رأس محشو بالأغاني" حسب يوسف غربال؛ حتى الشخصيات التي تعرضت للقتل فقد تم ذلك بطرق أخرى. قتل "علي كلاب" بائع البريتا بإجباره على أكل الخبز مغموسا بسم الثعبان على الرغم أنه أجبره على ذلك بتوجيه آلة البريتا، لكن بقيت نظرات الميت عالقة في ذهنه:
"نظرة الشاب ذي العينين الكبيرتين الميتتين كانت تظهر ما بين ماسحات الزجاج الأمامي وتختفي". وتحولت بعد ذلك إلى نظرات أي كلب يصادفه. وكان المحقق "علي كلاب" يتسلى بقتل الكلاب بالبيريتا وأخذ صورا مع جثثها. لم تكن الكلاب غير أرواح القتلى والمنتحرين. واستعملها يوسف غربال لقتل الكلب: "كان الكلب الأسود يملأ برأسه النافذة. عيناه جامدتان كجندي عائد للتو من معركة خاسرة". (ص 207).

novel
نوع من السبات الروحي

البيريتا سلاح اختفى في الواقع، ولكن تنقل من يد إلى يد دون إثبات الجرائم التي اقترفت بها،  ولكن ما سبب ليوسف غربال حالة من التوتر بوصول البيريتا إليه صدفة وقد شبهها بالكلب، أنها تستحضر أرواح الموتى: "ما حاولت أن أنكر إلى الآن معرفتي بهذا المسدس الذي يتمدد أمامي ككلب. منذ أن اكتشفته في الكيس صرت مجنونا. آلام في الرأس طوال الوقت".
إلى جانب الكلاب والخنازير كان للحمام إشارات بالغة في الرواية يربيه الاسترالي الذي بتر الضابط "علي كلاب" رجله بعصاه السوداء أثناء تبليغه عن موضوع أمني حساس. وكان الحمام يلاحق "علي كلاب" في مكتبه، وفي يقظته وكوابيسه إذ يشعر بأنه ينقر جمجمته ويهاجمه ويلوث دماغه. وعند مقتل "علي كلاب" سقطت جثث الحمام النافق، والسماء تتقيأ أحشاءها كآلة الغسيل تطهر الكون من كائنات مدنسة وتواصل عملها اليومي. فالحمام نذير شؤم في الرواية ولكن كل عناصر الموت ما هي إلا رغبة طبيعية في تطهير الكون من الكائنات الدنسة: "الحياة غسالة كبيرة للوجود، تدورنا داخلها ملابس وسخة للوجود لتعصرها في النهاية. ونمد السيقان الأربعة ونموت".
فبعد كل مشهد قتل في الرواية تظهر سحابة وتمطر السماء وهي تغسل الأدران: "حتى ازرقّ وجه الشاب وسقط على الأرض. انتبه علي كلاب أن سحابة سوداء غطت السماء، وصارت تمطر. (ص 124).
تلتف أحداث الرواية وشخصياتها بالكاتب يوسف غربال وهو يعيش حالات بين الشك واليقين أثناء كتاباته ليومياته حتى أنه يشكك في الوجود المادي لشخصيات الرواية من حين لآخر، بل يعتبر أن ملاحقة حدث انتحار الكاتب الأميركي ديفد فوستر والاس ما هو إلا مطية لتصوير ذاته، ليستخلص أن فكرة الانتحار قفز نحو العدم، ولكن بالنسبة إليه تبقى الحياة "ارتدادات صغيرة. نهاجم فنجد أنفسنا في موضع سخيف. تخوننا العضلات، كما يخوننا اللسان. لا أطمئن لهذا الجسد. أشعر أنه ليس على ما يرام. دوخة صغيرة أطلت واختفت. لكن لن أغامر به وأخرج". (ص 98).
لم يقطع خيط التواصل مع المقربين منه كما فعل جونوثان واختار العزلة في جزيرة نائية؛ بل اختار مواصلة الكتابة مستبعدا في الآن ذاته فكرة الانتحار لأن الكتابة لا تنفصم عن النسيج العاطفي والقيمي الذي ينقذ الإنسان من مأساة الانقطاع عن الوجود.
كان التأمل في السقف الأبيض كافيا لتسقط علي عبارة نيتشة: "أقارب المنتحر لا يغفرون له أنه لم يختر أن يظل على قيد الحياة مراعاة لسمعتهم". (ص 127).
لئن أدخلتنا رواية "البيريتا يكسب دائما" إلى عوالم القتل والانتحار، والبحث عن الدوافع الخفية التي تجعل الأصابع تضغط على الزناد أو تختار الانتحار بطريقة أو بأخرى، فهي لم تتخفف من عوالم "دعابة لا نهائية" لديفيد فوستر والاس، إذ أسقط كمال الرياحي حالة البؤس النفسي  التي تقود للقتل والانتحار على كل شخصياته من يوسف غربال لـ علي كلاب، لشخصيات تعيش تحت تأثير مخدرات شتى على غرار الأدوية والكتابة والحشيش. 
حالة الإدمان التي لم تكن تحتاج إلى علاج لأن العلاج يقذف النفس من الخدر إلى الألم. كان الانتحار كما ذكر إحدى شخصيات ديفيد فوستر والاس، موتا رحيما ينتشله من البؤس. فالبؤس  على حد تعبير ديفيد فوستر "نوع من السبات الروحي يفقد فيه المرء القدرة على الشعور بالمتعة" لذلك انتحر فوستر الروائي الباحث عن دافع إرادي لانتزاع نفسه من الوجود. وظل كمال الرياحي يبحث عن دوافع انتحاره لا في روايته "دعابة لا نهائية" فحسب، بل من خلال تخيل سيرة حياته وتضمين بعض حواراته من روايته التي كانت تعبر عن وجهة فوستر ضمن الشخصية المتخيلة المقنعة. 
نستخلص أن "البيريتا يكسب دائما" على غرار "دعابة لا نهائية" تندرج ضمن روايات ما بعد الحداثة التي تقوم على الوعي الذاتي وتقوض المسافة بين السارد وشخصياته.