شعوب من النازحين

النازحون هم جرح اجتماعي قبل أن يكونوا مشكلة سياسية.

غالبا ما نغمض عيوننا عن حقائق الواقع لكي لا نُجن. فللإنسان قدرة محدودة على المقاومة، بعدها ينهار كل شيء.

واحدة من أكثر حقائق العالم العربي التي لا يقبلها العقل بشاعة أن هناك ملايين من البشر قد نُزع منهم حق المواطنة بالإكراه والقسر وباتوا نازحين بعد أن تم طردهم من بيوتهم التي سويت بالأرض اما بشكل مقصود أو بفعل المعارك التي لم تبق حجرا على حجر.

ملايين السوريين يقفون بموازاة ملايين العراقيين هم ضحايا التهجير الذي مارسته ميليشيات تؤمن بعقائد شتى ليس من بينها ما يتطرق إلى حق الإنسان في مواطنته الأبدية التي لا يملك أحد حق انتزاعها منه. فهي ليست مكرمة أو هبة من أحد.

يمكننا النظر إلى تلك الملايين باعتبارها شعوبا نازحة.

هناك دول محترمة عديدة في العالم يقل سكانها عن عدد النازحين السوريين أو العراقيين. وما يحير أن صفة نازح التي حلت محل صفة مواطن لا محل لها في القانون. فليس هناك على سبيل المثال حقوق للنازح. إنه إنسان مطرود ومنبوذ ومنفي من وطنه ومجتمعه بل ومن ذاته التاريخية.

النازح عبارة عن ذاكرة مجروحة. صوته إن وصل ما هو إلا طلقة في الفراغ، ذلك لأنها لن تضرب هدفا بعينه، فهي ضائعة بين الاتجاهات.

لا يمكن للنازح أن يلوم وطنه بعد أن تحول ذلك الوطن إلى مجرد مصطلح تجريدي. فهل يلوم مجتمعه الذي تخلى عنه وبات ينظر إليه باعتباره نازحا ليس إلا؟

لا تاريخ للنازحين بالرغم من أنهم يعيشون داخل التاريخ كائنات حية، غير أن ما لحق بهم من التهميش والتغييب والعزل والاشفاق يجعل منهم كائنات عاجزة عن الفعل الذي يصنع تاريخا.

لا أعتقد أن نازحا في إمكانه أن يستعيد صفة المواطنة باليسر الذي فقدها فيه. هناك عقبات كثيرة تقف في طريقه. أولها يكمن في العثور على المتر الوطني الذي يجب أن يقف عليه بثقة كونه مواطنا أصيلا. لقد سبقه الكثيرون إلى ذلك المتر الذي لا يمكن تسجيله في دائرة العقارات فهو متر معنوي تقيم فيه الروح قبل أن تقع عليه القدمان.

كذلك فإن النازح لو توفرت له فرصة العودة إلى وطنه فإنه لن يكون موقع ثقة بالنسبة للجماعات التي هي جزء من المنظومة السياسية التي طردته ونبذته وهو من جهته لن يثق بأحد ولن يطمئن إلى مستقبله مواطنا. لقد جرب تلك الثقة في الماضي وتبين له أنها لم تكن إلا وهما.

ملايين النازحين هم عبارة عن ملايين المشكلات التي سيكون على العالم العربي أن يواجهها مهما طال وقت التهرب منها. هي مشكلة فرد قبل أن تكون مشكلة جماعة. هناك إنسان معلق في الفراغ. سوري أو عراقي، غير أن سوريته وعراقيته مؤجلتان إلى حين الاعتراف مجددا بمواطنته.

من غير الحصول على ذلك المتر الذي تقف عليه قدماه بثقة المواطنة لن يتحقق شرط انتمائه.

طبعا السياسيون لا يفكرون في تلك الطريقة التي يعتبرونها معقدة. هناك وزارة للمهجرين يمكنها أن تضع حلولا مستقبلية لقضية ثانوية من ذلك النوع. هي نظرة تبسيطية ساهمت في تكريس مبدأ الانتقام الذي يسيطر على علاقة النازح بمجتمعه.

في لحظة تاريخية عصيبة بعينها تخلى المجتمع عن عدد من أبنائه. لم يكن متوقعا أن يصل ذلك العدد إلى الملايين. وهو ما يعني أن هناك شعبا من المنبوذين قد تشكل بالصدفة. ذلك الشعب سيجد أن من حقه أن ينتقم ممَن أفقده حريته وأنتهك كرامته وضيع عليه فرص الحياة الكريمة.

لذلك فإن مشكلة النازحين لا يمكن النظر إليها بعين إدارية تنظر إلى الورق قبل أن تنظر إلى الإنسان. إنها مشكلة إنسانية عميقة.

النازحون هم جرح اجتماعي قبل أن يكونوا مشكلة سياسية.

فهل ستقوى مجتمعاتنا الهشة على معالجة جروحها؟