شيخ الجامع .. ماذا قال في مذكراته؟

عمر علي حيدر كان صادقاً وهو يسرد الأحداث التي وقعت معه والمشاعر التي أحسّ بها دون أن يُخفي شيئًا من الحقيقة.
شيخ الجامع مستودع أسرار ينفس الناس عنده همومهم، ويبثون له ما يثقل عليهم من شجونه
منظومة كاملة من الشخصيات بحكم مسؤوليات شيخ الجامع بين الناس

وعدتُ زميلي الكاتب عمر علي حيدر، أن كتابه الأثير "مذكرات شيخ جامع" سيكون من أولويات قراءاتي في عطلة عيد الفطر، وقد ندمتُ على وعدي، ليس بسبب ضخامة  الكتاب (706 صفحات في طباعة أنيقة جدا من الحجم المتوسط) إنما لفيض وسعة المعلومات والصور الاجتماعية التي عصفت في العراق خلال الاحتلال الأميركي في العام المحصور بين 2003 / 2004 .
بدأت في قراءة الكتاب، وفي عقلي الباطن، أنه مجرد كتاب يهدف إلى تنفيس الكاتب عن مشاعره والضغوطات التي اعترته في العام الأول للاحتلال، لكني وجدتُ مذكرات يومية مهمة ضمت العديد من الأحداث التي قد تصبح ذكرى عميقة الأثر في المستقبل، سطرها قلم باذخ العذوبة والذكاء. لقد أخذ مني الكتاب قراءة استمرت ثلاثة أيام، سحت فيها في كواليس عالم، خفي، غريب، هو عالم شيوخ الجوامع، في يومياتهم. فشيخ الجامع كما يحدثنا عنه الكاتب "منظومة كاملة من الشخصيات بحكم مسؤولياته بين الناس، فهو إمام جماعات، وخطيب جُمُعات، وقائد مسيرات، وخاطب نساء وعاقد زواج وخاتم عزاء، وحلال مشاكل وفاكهة مجالس، وموجه أسري، وأمين مخزن، وموزع مساعدات، وقابض معونات، ومُفسر أحلام، ومعالج نفسي وراقي من العين والسحر والحسد، وطارد للجن والشياطين من الجسد، ويفتي في الفقه والعقائد، وبعضهم يفتي حتى في علوم السياسة والاقتصاد والطب والفلك وعلوم الفضاء ! "

الكتاب، الذي اعتمد على مذكرات شخصية، واستند على 317 مصدرا رصينا، وعلى 20 صحيفة ومجلة، يمكن أن يكون مفتاحا لدراسة أكاديمية

في مذكراته، كان صادقاً، وهو يسرد الأحداث التي وقعت معه والمشاعر التي أحسّ بها دون أن يُخفي شيئًا من الحقيقة، لم أجده خائفاً من الأحكام التي قد يطلقها عليه الآخرون، ومن إحدى صور مذكراته قوله "إن شيخ الجامع (مستودع اسرار) ينفس الناس عنده همومهم، ويبثون له ما يثقل عليهم من شجونهم، أما أسرار بعض البيوت التي كانت تعرض عليّ، فحدث ولا حرج، تحترق من هولها المعدة ويطير منها العقل، وهي أسرار لا يمكن أن أبوح بها لا لصديق قريب، ولا لصاحب حبيب، وستبقى في صدري، وتدخل معي قبري، وليتني أنساها فأرتاح أو أتركها فتنزاح، يا لهذه البيوت كم تخفي من مصائب، ويا لتلك الجدران، كم تستر من عجائب، بعد ستر الله سبحانه .."
الخطبة الأولى ..
في مقدمته، التي أسماها "الخطبة الأولى" يقول عمّا احتواه كتابه "هذه الصور التي بين أيديكم ستنبض بالحياة اليوم، مع أنها التقطت في أعوام الموت، أخرجتها لكم من صناديق الذاكرة قبل أن يحولها الزمان إلى ركام، وقبل أن تندثر إلى الأبد شخوص بعض من كان جزءا من ذلك الحدث، راغبين أو مُرغمين". 
الصور التي يتحدث عنها المؤلف، هي صور اجتماعية يرويها للتاريخ عن مدة حرجة عشناها من تاريخ العراق، ومضى عليها اليوم أكثر من 18 عاما، وتروي فترة (2003 / 2004) وقبلها وبعدها بقليل. وهي صور لن تُفهم بمعزل عن مسرحها وشخوصها وأحداثها وزمانها، فلا هي تصلح للفهم على مسرح اليوم، ولا ما يحدث اليوم يصلح للفهم على مسرح الأمس.
وبود ومحبة، يقول المؤلف في خطبته الأولى، لأهله في وطنه العراق، تذكروا ولا تنسوا أنكم في مركب واحد، وعدوكم لا يفرق في أذاه بين وفي وخائن، وشريف وماجن ونقي وشائن. 

Sheikh of the Mosque
عمر علي حيدر

الكتاب حمل عنوان "مذكرات شيخ جامع" لكن محتوياته، أوسع من ذلك بكثير، حيث ضم قراءات فلسفية ودينية وتاريخية لواقع العراق في مراحله المعاصرة، وأيضا شمل فصلا مهما بعنوان "الشيخ الصحافي" عن حياة المؤلف في المجال الصحافي، وعن أسرته الكريمة، لاسيما أبيه صديقنا الجميل الزميل الراحل "علي حيدر"، وشقيقه زميلنا مشرق علي. لكن من المؤسف  أن الحيز لا يسع  هنا، للكتابة عن كل ما جاد به قلم الكاتب من معلومات مهمة، واستقراءات  جديرة بالإشارة، وأظن أن  من المفيد أن يطلع عليها قارئ الكتاب .
من هو شيخ الجامع ..؟
يخبرنا الكاتب، عن شيخ الجامع، كما يراه هو، وليس كما يراه الناس الذين يصفه بعضهم كجبريل، وبعضهم كإبليس، وبين جبريل وإبليس عالم كامل من القصص التي يقصونها عن هذه الشخصية الجدلية، فيقول عنه "شيخ الجامع، هو شخصية تختارها الأوقاف أو متولو المساجد للقيام بأمورها. هو موظف في الأوقاف وشيخ جامع بين الناس، يُصلي يهم المكتوبات، ويُقيم بهم الجُمعات، وينصحهم في العبادات والمعاملات". ثم يضيف "حظي الشيخ بإرث تاريخي، فيه الجميل، فهو يعلم الناس الخير، وتستغفر له حتى حيتان البحر، وفيه القبيح، فهو مضرب المثل في أكل الولائم والعقل البليد النائم، ولا أدل على ذلك من انتفاخ كرشه، وقلة قرشه وخراب عشه وضياع عرشه".
ويلفت الكاتب نظرنا، إلى جزئية في حياة شيخ الجامع، بالقول إنه لا يجوز له أن ينام، فهناك من يأتيه دائما حتى في أوقات العورة الثلاث، بلا فرق بين صيف أو شتاء أو حرب أو سلام، ربما ليستفتيه أمرا أو أن يحل عنده ضيفا، وقد يأتيه أحدهم بعد الثانية والنصف صباحا، ويطرق بابه كالشرطة، وعندما يخرج على الطارق فزعاً وهو يقول: منو؟ يأتيه الجواب سريعا "شيخنا عندك تابوت ".
الكتاب، فيه من الأسرار ما يسحبك لقراءته بنهم وشوق، وفيه من الشواهد والأسماء والحوادث ما يثير العجب والاستغراب. إنه كتاب جامع، عن شيخ الجامع، انصح بقراءته، فهو بمثابة دليل ميداني بأسلوب مبسط، وراق، مدعم بالأمثلة العملية المعاشة أشك أن أحدا تطرق إليها،  وقد عمل المؤلف على أن يبدأ كل فصل في كتابه، بأمثلة  واقعية. ولستُ مبالغاً بقولي إن الكتاب، الذي اعتمد على مذكرات شخصية، واستند على 317 مصدرا رصينا، وعلى 20 صحيفة ومجلة، يمكن أن يكون مفتاحا لدراسة أكاديمية. إنه بانوراما عراقية بامتياز، فكم نحتاج إلى مثل هذا الجهد المجتمعي .