عبدالعاطي كيوان وفوضى الخلط والتناسخ المنهجي

كيوان يؤكد أن الفكر الإنساني صار مشاعاً بين بني البشر؛ بوصفه ملكاً للناس جميعاً، يأخذه خالفٌ عن سالفٍ، أو جيلٌ عن جيلٍ سابق عليه.
معارك ضارية شغلت الناس في مراحل ممتدة من أدبنا، وآداب غيرنا
ثمة مناهج أخرى تجسد هذا الاختلاط وتكشفه لقارئه

صدر حديثاً كتاب "النظرية الأدبية ومناهج النقد فوضى الخلط والتناسخ المنهجي، قراءة في جماليات التلقي للدكتور عبد العاطي كيوان" أستاذ النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة الفيوم عن دار الآداب بالقاهرة. 
وقد أكد الكاتب أن الفكر الإنساني قد صار مشاعاً بين بني البشر؛ بوصفه ملكاً للناس جميعاً، يأخذه خالفٌ عن سالفٍ، أو جيلٌ عن جيلٍ سابق عليه، أو حضارة عن أختها، في سلسلة طويلة الحلقات، إذ لا يمكن أن تزعم فئة، أو طائفة، أو جماعة، أنها تختص به دون سواها، وإلا ما كان له من الذيوع، والانتشار، والانتقال عبر الثقافات والحضارات، خلال عصورها ومراحلها.
على أن ذلك - وإن بدا طبيعياً - يجعلنا في صراع دائم إزاء الآخر، ونظرتنا إليه، وهذا ما يفرض علينا الولوج مرة واحدة إلى موضوعنا؛ (النظرية الأدبية ومناهج النقد)، (فوضى الخلط والتناسخ المنهجي)، وقد شرعت تُصارع بعضها بعضا في فضاء النصوص، وعلى صفحات الكتابة، وميادينها، على مدار القرن العشرين كله، وإلى يومنا، وإن خَفُتَ بعضها، وطوى النسيان بعضها الآخر.
ولقد برز ذلك جلياً في معارك ضارية، شغلت الناس في مراحل ممتدة من أدبنا، وآداب غيرنا، وقد أخذ من فكرٍ لهم، في كل مرحلة كان فيها جديد يُضاف، أو هكذا كان يُظَنُّ؛ بوصفه خلاصة جهد يحيل إلى أصحاب له، أياً كان ذلك الجهد، وأياً كان هؤلاء الأصحاب. غير أن الذي لا مِرَاءَ فيه، أن ذلك قد خلَّف - في الحين نفسه - شيئاً ترامى ثراؤه إلى أجيالٍ ومراحل تالية، سواء أكان ذلك في منهج، أم في نظرية، أم في مصطلح، أم في مذهب، وسواء كان في مراحل متزامنة حاضرة، أو متتابعة موصولة الزمان، أو نائية مقطوعة المكان، أو مختلفة من حيث الفكر، والبشر، والثقافة، حتى إن شهدت تلك المراحل نفسها تلاشياً لبعض هذا، وسطوع بعضٍ آخر، وهيمنته. 

وقفنا على كمٍّ صار يتنازع النص ويفرض وجوداً فيه، وإن لم نَرَ هذا الوجود ذاته عند التطبيق

هنالك كان الخطاب النقدي العربي - هو الآخر- يهيم بكل هذا ويشغل نفسه به، متتبعاً أعلامه، ومن هم دون هؤلاء الأعلام، بل متتبعاً كلَّ من يكتب عنواناً جديداً، حتى لو كان ذلك في مستوى محدودٍ في ثقافته، مادام غريباً عن ثقافتنا. 
ومع هذا، فلسنا بصدد نوع من تعميم، أو حصر لهذا المنقول، بوضعه - جميعاً - في سلة واحدة، وإنما تلك إشارة ونوع من تدليل، يقفان بنا - لاشك - على شيءٍ من تصور واستجلاء رؤى.
إن المتابع للخطاب النقدي العربي في السنوات الأخيرة، يراه وقد حفل بكمٍّ وافرٍ من المناهج والتيارات الغريبة الوافدة، جلبها إليه انفتاحه على الثقافات الحديثة المختلفة، وتَمَثُّله العميق لمعطياتها أحياناً، واكتفاؤه بالمحاكاة السطحية لها في أحيان أخرى، وإذا كانت الحداثة، وما بعدها، بما أفرغته من معطيات حضارية، قد شغلت الأذهان زمناً ليس بالقصير لدى المثقفين العرب، أو على الأقل بين قطاعات واسعة مهتمة بقضايا الفكر والأدب، فمما لاريب فيه، أن بعض هذه المعطيات الحضارية قد خلَّف طبائعه على فكرنا الحديث، وسيظل هكذا لفترات بعيدة، وإذا كانت هذه النظريات، وتلك المناهج، نتاجاً لثقافة إنسانها، وعصرها، وبيئتها، فإنها قد تجاوزت كلَّ هذا إلى ما جاورها من ثقافات، من منظور وحدة المعرفة ومشاعيتها بين المجتمعات، مهما تباعدت أوطانها. وإذا كان الخطاب الأدبي - في عصره الأخير - قد انتابه شيء من التيه والتشتت، طبقاً لانحصار الرؤية، أو انفراجها إزاء نظرته إلى الآخر؛ فإن ذلك - وإن اختلفنا مع بعضٍ منه - دالٌّ على الثراء الفكري والثقافي الذي أحدثته تلك المعارف في كثير من جوانبها وأنساقها المعرفية والإبداعية.
بدأ هذا بالفكر الكلاسيكي، مروراً بـ (النقد الحداثي)، و(ما بعد الحداثي)، في تداخل رأيناه، تراءى مرة في (نظرية)، ومرة في (منهج)، وقد يكون في (نظرية) بلا (منهج)، أو مصطلح عبر تنظير، وقد نطالعه (مذهباً)، أو (تياراً)، وربما يصير (مدرسة)، أو (اتجاهاً)، أو (جماعة)، سواءٌ أكان (حداثياً)، أم بعد (حداثي). مسميات أرهقت لا مَنْ اقتربوا منها وصاروا مخلصين لها، وإنما أصحابها أنفسهم، أولئك الذين أنتجوها وصدَّروها إلى الآخرين، والحق أن هذا كله قد تكشَّف في ثقافته، لا ثقافة هذا الآخر، الشغوف دائماً، والحفيّ بهذا المنقول، ولقد تراءى ذلك في اختلاط، وغموض، وتداخل، فما بالنا وقد سيقت بعض الكتابات العربية (الناقلة) كأنها ألغاز وطلاسم، لا يخرج منها القارئ (المتلقي) بشيء ذي بالٍ، إذ جاء بعضها عبر دوائر، أو خطوط، وقد تكون في أسهم، أو مربعات، لا نراها إلا في حقول ليس من بينها حقول الأدب، وكان بعضها الآخر نوعاً من ترجمات وحسب، لا ترجمات من لغة إلى لغة - وإن حَدَثَ هذا - وإنما تراءى ذلك في خلط منقول، امتصه صاحبه - في نوع من مراوغة مقصودة، أو غير مقصودة - من أعمال الآخرين، دون إشارة إلى لغته الأولى، أو مَنْ نقل عنهم.
وتعليل هذا، أن ذلك بدا - في كثير منه - كأنه من (لغة الخواص)، أو (النخبة)، لا التي أبدعته، وإنما الناقلة، أياً كانت (الأيديولوجية) التي شكلتها، سواء من ثقافتها، أو الفكر الذي باتت تنتمي إليه، مع أنها لم تشارك في صنعه، بوصفه صدى ومنتجاً لأصحابه، عصرهم، واقعهم، لا واقع ذلك المتطلع إلى هذا الآخر، بالعكوف على كل ما يصدر عنه، كون هذا نوعاً من (قداسة)، في الوقت الذي لا يرى في ثقافته شيئاً، ولو يسيراً، يمكن البناء عليه.
ومهما يكن من أمر، فقد بدت (النظريات الأدبية) من الكثرة بمكان، وكذلك مناهجها، كونها تعبيراً حياً عن ثقافتها، وليس المستهلكين لها، ومادمنا لسنا من منتجيها الأصليين، فلا يحق لنا نقدها، أما إذا كان لنا شيء من ذلك، فإنه يتحقق كونها - في الوقت نفسه - أدوات نقدنا أيضاً، بوصف الأدب العربي جزءاً من الأدب العالمي، وفرعاً فيه.
فإذا تجاوزنا هذا، رأينا للنظرية نظرية، وللمنهج شبيهاً له، يدور في فلكه ويحتذيه، وإن اختلف المسمى وتباين التطبيق، إذ لم يخرج هذا من دائرة قرين له؛ وقد ينسخه نسخاً في اسم وشكل جديدين، حتى إنه يمكن القول: إن هذا يكشف عن نوع من (اللامنهجية) في هذه (المنهجية) نفسها.
وإذا كان من المعلوم أن النظرية تحمل في طياتها جملة من القواعد، والفرضيات، والمعارف، كونها مقدمات، وإضاءات للمنهج، بوصفه - أي المنهج - يحمل (إجرائية) يمكن تطبيقها في دراسة النصوص، عبر خطوات علمية مقننة مؤطرة، لا تتغير بتغيّر تلك النصوص واختلاف أجناسها، فإن ثمة خلطاً، وتداخلاً، انتاب تلك المفاهيم في أحايين كثيرة، وإذا كنا بصدد نوع من تمثيل، فإن (المنهج البنيوي) قبلتنا؛ بوصفه يقوم على نوع من (فرضيات) منهجية واضحة، وكذلك (المنهج التاريخي)، و(المنهج الأسلوبي)، و(منهج التناص)، في حين لم نجد هذا ظاهراً في (مسميات) أخرى، فقد تأتي مرة بوصفها منهجاً، ومرة كونها نظرية، وعند التطبيق لا نرى شيئاً هنالك. 

literature
د. عبدالعاطي كيوان 

ولقد بدأ هذا بالفكر الكلاسيكي عبر (نظرية المحاكاة)، مروراً بالرومانسية (نظرية التعبير)، والواقعية على كثرتها وتباينها (نظرية الانعكاس)، إلى غيرها من مسميات ضاق بها قاموس القرن العشرين، وإن جرَّنا هذا إلى نوع من إشارة، وشيء من تدليل على هذا المخزون الهائل من تلك النظريات، وهاته المناهج.
تشتمل الدراسة على مدخلٍ وخمسة فصول، في المدخل تأصيل للنظرية، والمنهج، من حيث المفهوم، الوظيفة، التطبيق. في الفصل الأول (النظرية الأدبية ومناهج النقد)، (من الشكلانية إلى التلقي)؛ عرض المؤلف لهذا الكمِّ المتنوع من المناهج والنظريات، في قراءة محايدة، لا منحازة، وإن عبَّرت عن قناعة لها، وفكرٍ هو بها ألصق، تراءت في نوع من (تلقٍ)، سواء من منظور هذه الرؤية الخاصة، أو من منظور (تلقي الآخرين).
هنالك عرض لكلِّ نظرية ومنهج على حدة؛ حيث بدأ الباحث بـ(الشكلية)، مروراً بـ(البنيوية)، و(الأسلوبية)، و(السيميولوجيا)، إلى (التناص)، و(التأويل)، و(التلقي)، على أن النظرة إلى تلك المناهج والنظريات قد تختلف باختلاف أدواتها وتناولها، فإذا كانت الأسلوبية تطوراً للفكر (الشكلاني)، (والبنيوي)؛ فإن الأمر يختلف في (التناص)، و(السيميولوجيا) الأقرب من حيث التوسل (بالعلامة)، غير أنه يختلف كل الاختلاف عن (التأويل) من حيث التعامل مع المعنى، ومعنى المعنى، أما إذا استثنينا الجانب (العلامي) من (السيميولوجيا)؛ عندها أصبحنا بصدد (منهج بنيوي) خالص.
ويأتي الفصل الثاني تحت عنوان: (النسوية والنظرة في المرآة)، وكان هذا العنوان نفسه مدخلنا إلى (القراءة)؛ كونه (تناصاً) مباشراً، وإشارة دالة إلى مفاهيم ذلك الخطاب.
أما الفصل الثالث، فقد جاء بعنوان: عَوْدٌ على بَدْءٍ: (من التوليدية التكوينية إلى النقد الماركسي)، إذ تقصينا ذلك جميعه، وتوسعنا في شروحاته، عبر (مقارنات) ناقدة، بدأناها بـ(النقد التاريخي)، ثم كيف كانت تفريعاته وامتداداته المتشابكة، تلك التي لا تكاد تبتعد بمتلقيها عن مرتكزات ذلك الأصل. 
وإذا كان الفصل الرابع: النظرية الأدبية (بين قديم كان وحديث قائم)؛ فقد جاء هذا بوصفه نوعاً من تأصيل لما كان.
أما الفصل الخامس والأخير: (النظرية الأدبية في النقد العربي القديم)، (قراءة في جماليات التلقي) فقد توقف الباحث فيه - في نوع من الإيجاز - عند دراسة لبعض الأكاديميين العرب خلال تلقيهم ما في الخطاب النقدي العربي من (نظريات) قارَّة، تقصوها بالنقد، والشرح، والتحليل؛ كونها لم تختلف كثيراً عن مفاهيم عصرنا في هذا الباب، بوصفها نوعاً من (تلقٍ)، أو (قراءة على قراءة).
وثمة مناهج أخرى تجسد هذا الاختلاط وتكشفه لقارئه، يأتى فى مقدمتها (التداولية وتحليل الخطاب)، كونهما يقومان فى - الأصل - على مناهج لا يجمع بينهما جامع، وإذا كان (تحليل الخطاب) يقوم – فى كثير من الأحيان - وبخاصة فى التطبيقات العربية على ثلاثة مناهج دفعة واحدة: (الأسلوبية، التناص، التداولية)، فإن الأخيرة تمثل إشكالية كبرى، كونها تتداخل مع عديد من نظريات ومناهج جمة.
يقول الباحث: غير أن هذا نفسه، وإن كنا لسنا بصدد نوع من سرد لما كان، ينقلنا مرة أخرى إلى الحديث - بشيء من توسع - عن مناهج الأدب ونظرياته، كون هذا ما يعنينا في المقام الأول، وإن وقفنا على كمٍّ صار يتنازع النص ويفرض وجوداً فيه، وإن لم نَرَ هذا الوجود ذاته عند التطبيق.