عروبة ديب روح حاضرة من خاصرة الشرق

الروح حاضرة حية في كل زاوية، وعيناها المندهشتان لم تهدآ عن الدوران منشغتلين باللوحات الملونة أو ببقايا الألوان المطروشة هنا وهناك.
حقائبهم غير المرئية طافحة بحزن ثقيل لن يفهمه أحد
كل ما حدث كان قاسيا لدرجة لا يمكن احتماله

قصت ورسمت وشكلت خريطة التائه المشتاق لرائحة الورد الجوري وعبق الذكريات؛ حمّلتها الحياة قصصا وحكايا فجسدتهم بصدق كما السنين وأفعالها، غادرت البلاد ولاحقتها لعنة الحنين ولوعة المشتاق، وبغصة مخنوقة حلمت بالعودة، لتجسد ذلك أعمالاً مشغولة بألوان بلاد الشمس وتكويناته وزخارفه وتشكيلاته.  
لابنة الستة عشر عاماً جناحان وصلت بهما الأرض بالسماء؛ تذوقت الشعر وأحبت القراءة وكتبت القصص القصيرة، وبتشجيع من والداها وأساتذتها حلمت بمستقبل صحفية. لتذوقها الرسم ألح عليها أصدقاؤها لمرافقتهم إلى معهد أدهم إسماعيل للفنون التشكيلية، المعروف عنه تألق أساتذته وإبداع طلابه، حيث الروح حاضرة حية في كل زاوية، وعيناها المندهشتان لم تهدءا عن الدوران منشغتلين باللوحات الملونة أو ببقايا الألوان المطروشة هنا وهناك،  وبدخولها المكان شعرت بالإنتماء، استوقفتها المنحوتات الطينية وتعابيرهم البارزة مطولاً، وازدحمت بذهنها الكثير من الأسئلة، منها من وجدت لها أجوبة وأخرى بقيت عالقة كنهايات العاشقين، فسجلت دروس رسم ونحت. 

fine arts
أحلم بالعودة

تجربتها بعمر الورد مهدت طريقها للإنتساب لمعهد الفنون التطبيقية قسم النحت التابع لجامعة دمشق، بعد حصولها على الشهادة الثانوية، وكطفلة أتقنت فن اللعب شغفاً ومتعة ولأكثر من 22 سنة بدون ملل؛ أحبت عملها بمادة الصلصال، مشتغلة على أكثر المواضيع التي تقض الفؤاد وتنغل بالأفئدة وتمنع العين عن الإطباق وتفتك بالأجساد قهراً وبؤساً وألماً، صورت التعابير الإنسانية الأكثر تعبيراً على وجه الإنسان بين غضب وفرح وحزن معلنة البداية والنهاية، وبقلب العاشق جسدت الحب، وصورت الأمومة كمرآة لقلبها، وحفرت بين أطراف أصابعها وكف يديها معنى الصداقة تعبيراً عما يجول بداخلها فالفن رسالة وتعبير بالنسبة لها.
التقاء الأرواح
لم يزعجها تأثرها بريشة زوجها الفنان التشكيلي حمود شنتوت، إنه أساتذها سابقاً؛ الذي تظللت بظله ودفأت قلبها بوجوده، وأغنت تجربتها الفنية التشكيلية، رغم محاولاتهما العمل بمكانين مختلفين وخوضهما لتجارب فنية مختلفة. انتقال مرسم الفنان شنتوت سهل افتتاحها لمركز تدريبي لتعليم الرسم للصغار والكبار بين عام 2007 - 2012، قدرتها على الإمساك بخيوط التدريب متجنبة الإنزلاق لمصيدة الملل والتكرار أعطى لتجاربها الفنية نكهة خاصة وزاد من حماسها. 
الفن الساكن
ليس بالأمر الهين هجر الروح، فللمكان قدسية تعصرك بابتعادك عنه؛ سافرت إلى بيروت عام 2012 ولأربع سنوات توقفت عن تقديم أعمال نحتية جديدة، لضيق المكان وصعوبة توفير المواد، مكتفية المشاركة بأعمالها السابقة، لكن لم تتوقف عن الفن الساكن فيها، حيث لجأت ومن منزلها؛ لقص الرسومات الشرقية والموتيفات التراثية من المجلات والأقمشة التي تعشقها، والمعشش فيها رائحة البسط والسجاد بتشكيلاته وتكويناته البسيطة وغير المتكلفة، ووظفته بأعمال فنية، بما يعرف بفن الكولاج، اعتيادها على زيارة الأسواق الشعبية والتراثية سهل من مهمتها.
ووضحت "بأن كل ما حدث كان قاسيا لدرجة لا يمكن احتمال ألمه؛ الحرب لا توفر أحداً في خبطها العشوائي، حدثت عدة تفجيرات بجوار منزلي، حيث نزلت قذيفة على بيتنا الريفي الذي قضينا فيه أعذب ذكرياتنا وأيامنا بصحبة أصدقائنا، كنا نائمين وكادت تقضي القذيفة علينا، فقررنا إغلاق معهد الفن الذي كنا نملكه دون خطه مسبقه".
لا يشغلها الحديث بالسياسة بقدر انشغالها بالإنسانية؛ اللجوء والتهجير يشغلها تشكيلياً وإنسانياً، إنها من الذين اضطرتهم الحرب دون مقدمات لترك كل شيء وراءهم والمغادرة بحثاً عن الأمان، وجدت الأمان ولم تجد الراحة؛ ما أسهل قرار الرحيل وما أصعب الإندماج بأعمار تعشق مغازلة عقارب الساعة بعد مسيرة حافلة بالعطاء.
وبينت "منذ تسع سنوات بدأت الحرب في سوريا، وانقلبت حياتنا رأسا على عقب، عشت سنة من أصعب سنين حياتي، كانت الامور تتسارع على نحو لم أستوعبه. البلاد تحترق؛ قررنا أنا وزوجي كما قرر مئات الآلاف الهجرة، وكان قرار مغادرة المدينة من أصعب قرارات حياتي، من الصعب هجر المدينه التي عشقتها أكثر من أربعين عاما، وحققت فيها معظم أحلامي، أحببت وتزوجت وأنجبت وتركت الفن لسنوات وعدت إليه، كان كل شيء رائعا. قبل مغادرتي مع أسرتي بأيام كنت أهيم في شوارع دمشق ودموعي على خدي، كأنني لن أراها مرة أخرى، ما أصعب أن تفقد مكان ذكرياتك".
التطوع 
الألم ينخر بالأضلع ويهاجم الفؤاد بأقوى سلاح له، وهو سلاح قلة الحيلة؛ لم تترك لنفسها وقتا للتفكير فخلال أقامتها ببيروت تطوعت مع ابنتها في إحدى المنظمات الإنسانية لعلاج السوريين من مآسي الحرب بالرسم، وفور وصولها لبلاد الفن تطوعت لتدريب الأطفال السوريين على الرسم لتفريغ طاقاتهم السلبية والتعبير عن أنفسهم. 
من زياراتها لمخيمات اللاجئين صرحت "سمعت خلالها قصصا مريعة من نساء أرامل وثكلى، كان الألم رفيقي، إنهم ملايين السوريين يعيشون في المخيمات في دول الجوار في خيام في العراء وسط ظروف مناخيه وصحيه سيئة، الأطفال بلا مدارس يعملون مهنا مختلفة، وأية مهن؛ يتسولون لمساعدة عائلاتهم. صور بؤسهم لن تفارق خيالي. أصبح هاجسي منذ ذلك الوقت الحديث عن حق هؤلاء الناس في العودة إلى بلدهم".

شهادة الميلاد
انتقلت إلى فرنسا عام 2016، وشاركت بمعارض جماعية لأول مرة تجربتها الفنية الجديدة التي تعنيها وتشبهها بشكل شخصي، بعد أربع سنوات من المحاولة والشغل، كما أقامت هذا العام معرضها الفردي الأول، الذي حمل عنوان مواد في المهجر، بيوم اللاجئ العالمي لما له من أثر عميق بقلبها. ضم المعرض ثلاثين عملاً فنياً مشغولاً من الأقمشة السورية الفلكورية الشعبية أو الورق الملون، ومعجون بألوان النور والشمس لبلادنا، وصممت عملاً تركيبياً على شكل حقائب حمل عنوان الرحيل، لم تعد الحقيبة مكانا لجمع الحاجيات، إنها شهادة الميلاد والهوية، والرائحة العالقة من آخر ضمة أم لأبنائها، من شهقة مبلوعة لخوف الموت وحيداً وبعيداً في البلاد الباردة.  

fine arts
حقائب ثقيلة من الذكريات والفجائع 

مذاق مختلف
لحظة عابرة مسروقة من حلم العودة لحياتها السابقة، تجعلها تسأل نفسها هل ما تعيشه حلم؟ وبسماعها لأصوات النقل السريعة القادمة من بعيد، تترك السؤال معلقاً، وتحبس أنفاسها استعداداً لحجز مكان لها، كغيرها من الناس الذين لا يؤرقهم شيئاً بحياتهم سوى الوصول إلى أشغالهم في الوقت المناسب، محافظة على أفضل عاداتها من تأقلم وحب التعلم ورغبة بالعطاء، فهي إنسانة لا تعترف بالعجز وهي تشعر بالنبض. تصل لمرسمها المشترك مع مجموعة فنانين بباريس، وبالرغم مما عاشته تفرح بقدرتها على الحلم مجدداً، سعيدة بعطائها وبتجاربها الجديدة في هذه البلاد التي لا تشبهها ولا تتقاطع مع من في أعمارها، فنحن أبناء أمة اعتادت على غلي القهوة عدة مرات وهز الحبق مع كل إشراقة صباح. 
آمالها
وبخط يدها كتبت عن آمالها في الوقت الحالي "لقد مضى تسع سنوات، ولم يحرك أحد من أصحاب القرار ساكناً من أجل هؤلاء الناس الذين لاحول لهم. بعضهم فضل المغامرة بحياته وسافر مع أبنائه بالبحر من أجل الخلاص من حياة المخيمات البائسة.  في أعمالي أصور هؤلاء الناس الذين خرجوا بالرغم عنهم بسبب الحرب هائمين على وجوهم يحملون على ظهرهم حقائب ثقيلة من الذكريات والفجائع ولا يعرفون إلى أين يسيرون وما ينتظرهم، حتى إن وجدوا مكاناً جديداً للعيش سيبقون بلا جذور في هذا المكان لأنهم اقتلعوا من جذورهم بالرغم عنهم، ربما نجوا من الموت ولكنهم دائما وأبداً لن يغادرهم ألم الماضي، سيحملون حقائبهم غير المرئية طافحة بحزن ثقيل لن يفهمه أحد كما لن يفهم حلمهم بالعودة، كذلك حال حلمي مع عائلتي بالعودة". 
يذكر أنها أقامت الكثير من المعارض الفردية والمشتركة في العديد من دول العالم وحاكت الوجع السوري، كما أنها شاركت بالعديد من الملتقيات الفنية في أماكن مختلفة في العالم العربي والعالمي، وعملت في العمل التطوعي للمتضررين من الحرب وخاصة الأطفال، حاليا تعمل فنياً وتشكيلياً على موضوع التهجير الذي تعرض له الشعب السوري بعد الحرب والمرأة خصوصاً.