عزالدين ميرغني يقرأ المشهد الشعري السوداني الحديث

الباحث يلاحظ ركاكة الشعر السوداني في بداياته المتواضعة، ورغم هذه الركاكة فإنه كان يمثل العفوية والتعبير الصادق عن ذات الشاعر السودانية الأصيلة.
النقلة من الشعر العمودي إلى الشعر التفعيلي، هي بمثابة الانتقال من البداوة إلى المدنية
بظهور الأصوات الشعرية النسائية في السودان أصبح للشعر واقعه القوي في المجتمع السوداني
من يملك موهبة الشعر يستطيع أن يمتلك اللغة السردية المحفّزة للقارئ الذي تأسره الجملة الشاعرية الجميلة

حاول الباحث د. عزالدين ميرغني أن يعود إلى جذور الشعر السوداني وهوية ذلك الشعر، وهل هو يمثل الذات والهوية السودانية؟ أم هو شعر تقليد ومجاراة للشعراء العرب في زمانهم؟ 
ويجيب ميرغني - في بحثه المنشور في التقرير الأول لحالة الشعر العربي 2019 الذي أصدرته أكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف السعودية – بأن الشعر السوداني حتى العامي منه، ومنذ دولة الفونج القديمة، كانت فيه نفحة سودانية خالصة مصدرها، أنه ولد في اللهجة الدارجة، فألفه الناس، فارتقى بذلك في يسر إلى الفصحى، حسبما ذكر الشاعر محمد المهدي المجذوب في تقديمه لديوان "أشجان وألحان" للشاعر محمد علي. ويعزز هذا القول ما جاء في كتاب "أصول الشعر السوداني" للناقد عبدالهادي الصديق بأن الشعر السوداني المكتوب لم يعرف لغة أخرى يكتب بها إلا اللغة العربية، وحتى الشعراء السودانيين الذين كتبوا بالعامية، إنما كتبوه بلهجات العرب المختلفة.
بالإضافة إلى أن ما يميز السودان هو تعدده الثقافي من خلال موروث حضاري قديم قبل دخول العرب والإسلام إليه، تمثَّل في الحضارات النوبية والمروية القديمة، وهذا التنوع الثقافي جعل الخطاب الشعري والمكتوب باللغة العربية يتعدد في معانيه وموضوعاته، وتظهر فيه الخصوصية الثقافية أكثر من غيره من الأجناس الأدبية الأخرى.
غير أن الباحث يلاحظ ركاكة الشعر السوداني في بداياته المتواضعة، ورغم هذه الركاكة فإنه كان يمثل العفوية والتعبير الصادق عن ذات الشاعر السودانية الأصيلة، بل قد خرج من دائرة التقليد الأعمى والصنعة التي تجعل شكل القصيدة مقيدا ومقلدا لشاعر آخر، ليس من بيئته التي نشأ وترعرع فيها، ويوضح الباحث ميرغني أن أغلب الشعر السوداني القديم سواء كان شعر المتصوفة أو غيرهم، قد حافظ على بصمة الثقافة الأفريقية، وهي نابعة من بيئة المكان الجغرافية المتوارثة قبل دخول العرب إلى السودان.

ظهور قوي للشعر النسائي في السودان، حيث لاحظ الباحث أنه في فترة ازدهار الشعر السوداني الحديث (عصر الستينيات والسبعينيات والثمانينيات) كان الصوت الشعري النسائي محتجبا تماما إلا بعض الأشعار الخجولة والمتواضعة

ويشير الباحث إلى تأثير المكان والبيئة التي يعيش فيها الشاعر فهما اللذان يعطيانه الهوية والمرجعية الثقافية التي يستند إليهما، وعلى سبيل المثال يقول الشاعر صلاح أحمد إبراهيم:
أنا من أفريقيا .. حرارتِها الكبرى وخط الاستواء
شحنتني بالحراراتِ الشموس
وشوتني كالقرابينِ على نارِ المجوس
لفحتني فأنا منها كعودِ الأبنوس
ويرتحل بنا الباحث ميرغني من المشافهة إلى الكتابة في الشعر السوداني، حيث كان يميل إلى الخطاب الديني الصوفي، وتأكيد الهوية العربية الإسلامية، ولكن بظهور الدواوين المنشورة بدأ هذا الشعر ينزع نحو الجمالية ومحاولة تأكيد الذات أكثر من مسألة البحث عن الهوية للأمة كلها. ثم جاءت ثورة التفعيلة في العالم العربي، وتأثر بها الشعر السوداني وظهرت بداياتها في سنوات الستينيات وحتى الآن. وهنا يذكر الباحث أن تقنية التفعيلة أتاحت للشاعر السوداني – مثل غيره من الشعراء العرب – الحرية في التنوع، لكنه يخطئ حين يقول (ص 215) إن بعض الشعراء بنوا قصيدتهم على تفعيلة واحدة كما يبنى بحر البسيط، ومن المعروف أن بحر البسيط من البحور المركبة التي تعتمد على تكرار التفعيلتين مستفعلن فاعلن، فهو يأتي على هذا النحو:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعِلن ** مستفعلن فاعلن مستفعلن فعِلن
والملاحظ أيضا أن شعراء التفعيلة عموما لم يستخدموا تفعيلات البحر المركب إلا نادرا، وربما يكون هذا الأمر موجودا في الشعر السوداني التفعيلي حيث يقول ميرغني: "ومنهم من بناها على بحر مركب كما يبنى الشعر العمودي، ولكنه راح ينوع في تشكيلاته الوزنية"، ويتابع الباحث: "ومنهم من جعل التفعيلات في قصيدته تتلاحق من غير نظام ولا قاعدة، ومنهم من بنى قصيدته على شعر التفعيلة والشعر العمودي معا، أو على شعر التفعيلة وقصيدة النثر معا". ويؤكد أن جيل الشباب من الشعراء السودانيين في الأعوام الأخيرة تنازعتهم نصوصهم الشعرية بين تقنيات التفعيلة وقصيدة النثر، والكثير من بناها على تفعيلة مولّدة لم يألفها العروض التقليدي من قبل. وكنت أودُّ أن يضرب أمثلة شعرية على ما طرحه من قضايا وزنية أو موسيقية، ولكنه لم يفعل.
ويرى الباحث أن النقلة من الشعر العمودي إلى الشعر التفعيلي، هي بمثابة الانتقال من البداوة إلى المدنية، فنشأت الكثير من التيارات الشعرية، منها تيار الانتماء للثقافة العربية الإسلامية، وتيار يدعو للغابة والصحراء، وتيار يدعو للأفرقة، وآخر للعروبة، ويوضح أن هذا التصنيف أضرَّ كثيرا بجماليات النص الشعري بعيدا عن الأنثربولوجي الثقافي، مشيرا إلى أن شعراء التفعيلة من الشباب في جيل ما بعد الثمانينيات قد ثاروا على المضامين أكثر من ثورتهم على الشكل، عكس شعراء قصيدة النثر الذين ثاروا على الشكل والمضمون.
وعن مسيرة الشعر السوداني بين الكم والكيف عام 2018 - باعتباره العام الذي ارتكز عليه تقرير حالة الشعر العربي الذي بين أيدينا - يوضح الباحث د. عزالدين ميرغني أن ما نشر في إحصائية غير رسمية من دواوين في داخل السودان في هذا العام لا يتجاوز الثلاثين ديوانا، في حين وصل عدد الروايات المنشورة في ذلك العام السبعين رواية، وهو يفند هذا الأمر بقوله قد يكون هذا عصر الرواية، ويلاحِظ أن بعض الشعراء في السودان ترك نشر الشعر ليتفرغ للرواية، بل صار البعض يعرِّف نفسه كروائي وليس كشاعر، إلى جانب أن البعض يستسهل كتابة الرواية، وأن دور النشر نفسها ترحب أكثر بطباعة وتمويل نشر الروايات أكثر من الشعر، كما يلاحظ أن هناك الكثير من المضامين والثيمات تتحملها بنية الرواية أكثر من بنية الشعر، بالإضافة إلى ما يؤكد عودة الشعر تدريجيا إلى الشفاهية، وتوجيه الموهبة الشعرية لكتابة شعر الأغاني، لكنه يشير من ناحية أخرى إلى أن من يملك موهبة الشعر يستطيع أن يمتلك اللغة السردية المحفّزة للقارئ الذي تأسره الجملة الشاعرية الجميلة.
وعن نقد الشعر في السودان ومواكبته للحركة الشعرية السودانية، يشير الباحث إلى أن أول كتاب صدر في الأدب السوداني بالوسائط الحديثة سنة 1923 هو كتاب "شعراء السودان" الذي أعده سعد ميخائيل وحوى تراجم وقصائد مختارة لسبعة وثلاثين شاعرا من شعراء السودان ممن ينظمون بالفصحى، موضحا أنه بعد أربع سنوات من صدور هذا الكتاب بدأت الاتجاهات التجديدية في الأدب السوداني في الظهور، وذلك من خلال كتابين صدرا في سنة واحدة 1927 وهما كتاب "أعراس ومآتم" للأمين علي مدني، وكتاب "الأدب السوداني ما يجب أن يكون عليه" للشاعر حمزة الملك طمبل.  

The case of Arabic poetry
دور النشر لا تحبذ نشر الكتب النقدية

ويوضح الباحث أن مسيرة النقد السوداني منذ ذلك الحين وحتى الآن، وخاصة في مجال نقد الشعر قد سارت بطيئة ومتعثرة وغير مواكبة للمنتج الأدبي بعامة، والمنتج الشعري خاصة. وهو ما جعل الإبداع السوداني يدور في فلك المحلية ولا ينطلق إلى المحيط العربي الكبير، ففقد المبدع السوداني البوصلة التي تقوده إلى طريق الإبداع الصحيح، مؤكدا أن المنجز النقدي في مجال الشعر هو الأقل والأضعف منذ ما قبل الاستقلال وحتى الآن، ولعل السبب يعود في ذلك كما يذكر الباحث إلى الانعزالية الأكاديمية، والانقطاع عن مواكبة مدارس النقد الحديثة، وأن معظم الرسائل الأكاديمية عن شعراء قدامى وليس محدثين، بالإضافة إلى أن الشعر العربي الحديث لا يُدرس في أغلب الجامعات السودانية، وأغلب الكتابات النقدية عن الشعر السوداني – على قلتها – هي مقالات صحفية متفرقة تفتقد المعرفة الجيدة والمتخصصة في الإبداع الشعري فتأتي فجة وضحلة وليست عميقة. يضاف إلى ذلك أن دور النشر لا تحبذ نشر الكتب النقدية.
كما يتحدث الباحث عن دور الإعلام في مسيرة الشعر السوداني قديمه وحديثه، سواء الصحف التي كان لها دور كبير في نشر الشعر الجيد، أو الإعلام المسموع حيث قدمت الإذاعات السودنية العديد من الأصوات الشعرية الجديدة، أو الإعلام المرئي الذي قدّم العديد من الشعراء والأصوات الشعرية الجديدة للمشاهد، مشيرا إلى لجوء الشعراء وأغلبهم من الشباب إلى تكوين الروابط الأدبية والأندية الشعرية وهو ما يمثل الإعلام الشعبي، ومنها ينتقل الباحث إلى حضور الشعر السوداني الحديث في الفضاء الإلكتروني وإيجابياته وسلبياته، مؤكدا أن النشر الإلكتروني لا يكون بديلا أبدا للنشر الورقي، مشيرا إلى أن قارئ النص الإلكتروني هو قارئ مزيف، لأنه قد لا يكون قد قرأ النص حقيقةً، وقد يكون قد مر عليه مرورا سريعا، وقد يكون إعجابه به مجاملة، ونقده انطباعيا سريعا.
ويتوقف الباحث عند ظاهرة لفتت انتباهه وهي الظهور القوي للشعر النسائي في السودان، حيث لاحظ أنه في فترة ازدهار الشعر السوداني الحديث (عصر الستينيات والسبعينيات والثمانينيات) كان الصوت الشعري النسائي محتجبا تماما إلا بعض الأشعار الخجولة والمتواضعة. ولكن ابتداء من التسعينيات ظهرت أصوات شعرية قوية مثل الشاعرة روضة الحاج. ويؤكد الباحث أن الدارس للدواوين الشعرية في الأعوام الماضية وحتى العام 2018 يجد أن للمرأة الشاعرة نصيبا كبيرا في النشر وفي مجال التدشين والظهور الإعلامي، مما يجعلها تعبر عن نفسها وعن قضاياها الاجتماعية ودورها المهم في المجتمع أصالةً وليس وكالة، ويبدو أن هذا الأمر شغل الباحث فوضع  كتابا (لا يزال مخطوطا حتى تقديم بحثه الذي نعرض له) يحمل عنوان "شعر المرأة السودانية في ميزان النقد الحديث"، مؤكدا على أنه بظهور الأصوات الشعرية النسائية في السودان "أصبح للشعر واقعه القوي في مجتمعنا، وسينهض بجناحين بعد أن كان بجناح واحد" على حد قوله.
وإذا كان نقد الشعر خافتا في السودان، وهو ما جعل بيت الشعر بالخرطوم يأخذ على عاتقه إقامة ملتقى دوري يحمل عنوان "ملتقى الخرطوم لنقد الشعر السوداني"، فإن للنقد أيضا مآخذه على راهن الشعر السوداني ومنها: طغيان العامية في النصوص الشعرية الحديثة، ويشير الباحث إلى أن العامية السودانية أخذت من اللغات النوبية والبجاوية ولغات دارفور غير العربية، موضحا أن 80 % من الدواوين الشعرية التي نُشرت في عام 2018 كانت مكتوبة باللغة العامية، وهو مؤشر يرى الباحث أنه ينبغي الالتفات إليه عند دراسة الخطاب الشعري السوداني.