علي عمر ينحاز إلى الذات المدركة ويخضع لها
عدنان الأحمد، الرجل المؤسسة، الرجل المثال للمثابرة والتحدي، المثابرة نحو آفاق يضعها في نصب عينيه، ثم يغدو نحوها حتى يلامسها فعلاً لا قولاً فقط، والتحدي مع الذات ومع الزمن، مع الذات كمصدر ليصوغ طقوسه والتي بها يخترق حديقة أحلامه ويجرها إلى الواقع كي تكون كما رآها هو، والتحدي مع الزمن، بأن الإنسان يملك من الطاقات التي نفخها الرب فيه من مخزوناته، ما يجعله قادراً أن يحول اللاممكن إلى الممكن، قادراً على كسر المستحيل ورميه في غياهب الواقع مهما كان هذا الواقع مرّاً، عدنان الأحمد طالما يملك من البصمات الروحية في نفسه فهو سيبقى قوياً، ويبقى البحث عن الجمال والإبداع والإبتكار هاجسه الأوحد، أسوق هذا الكلام وأنا أتابع معه مشاريعه الكثيرة والكبيرة التي يعجز عن تحقيقها بعض المؤسسات الرسمية لدول ما، وهو مازال يملك من الهمة على متابعة مشاريع كان يقوم بها قبل أكثر من عقد ونيف حين كان في حلب، المدينة التي يعشقها وتعشقه، وليس آخر تلك المشاريع ما كان يحمل عنوان "رؤية تشكيلية شابة" قدم عدداً لا يستهان به من أسماء شابة باتت الآن لها حضورها ومساحتها من الفضاء التشكيلي العام، وعلى ذات المسار وبعد أن حل به المطاف في إستانبول، بقي مواظباً على تقديم وجوه شابة تحمل من شروط الصعود الكثير ضمن رؤيته التشكيلية الشابة، وهو الآن يقدم إسماً آخر، لا يغامر به، بل يعرف أين يكمن النزيف الجميل ليضع يده فوقها، ليفرج عنها في الوقت المناسب وفي المكان المناسب، نعم يقدم إسماً يحمل من التمرد ما يغري حلم الأحمد، وأقصد هنا تحضيراته لإطلاق معرض الفنان الشاب علي عمر "القامشلي 1986" تحت عنوان "ذات" ما بين 08-30-10-2022، في دار وغاليري الكلمات في اسطنبول، وهو إضافة إلى مثابرته وإستمراريتها في تقديم مشروعه القديم الجديد، فهو يصر (وهذا جميل جداً) أن يكون كل خطوة من خطواته ترسيخاً لشعاره الذي يعمل له دوام بناء جسور من الثقافة وبالفن بين الشرق الأوسط وتركيا، سنترك عدنان الأحمد ومشاريعه الجميلة بعد أن نشد على يديه بأن ما تقدمه في هذا الزمن الرديء هو بحد ذاته تحدّ كبير، وهو بالتالي إنجاز كبير سيكون رصيدنا حتى في أيامنا الحالكة، أقول لندع الآن عدنان الأحمد مسافراً بين مسافات أحلامه علّه يلقي القبض على بعضها، وسنذهب إلى التجربة التي سيقدمها لنا في الأيام القليلة القادمة أقصد تجربة علي عمر الذي يرتكز على وجوه لكنها وجوهه هو، وجوه تخصه هو .
علي عمر يكرس الجزء الأكبر من تجربته على الوجوه بوصفها مرايا للروح، فلا مهرب أمامه حين يترجم معاناة وتعب وحكايات تلك الروح إلا هذه المرايا التي يستخدمها كأدق وسيلة لإدراك الحقيقة المخيفة على نحو هادىء أو مفاجىء، الحقيقة التي يلاحقها الإنسان منذ ولادته إلى مماته دون أن يلامسها تماماً، فيحزم حقيبته بخيارات لا يمكن تفاديها، بمفاتيحها وما تجعلها تجتاز التجربة بالطرق التي اخترعوها وإن كانت فريدة بفرادة الأشخاص، ولا تتوقف على ما تطرحه من أنماط مقنعة أو غير مقنعة، فالأمر في غاية الإرهاق، وعلى نحو عام تمكن علي عمر خلال تجربته القصيرة نسبياً من العثور على سلوكيات غريبة حقاً، تذكره بوعورة الطريق الذي يمضي فيه، وبسلسلة الضغوطات المتتابعة عليه زمانياً ومكانياً، فبغية حصوله على مزيد من النقاط غير العشوائية، يضيء مصابيحه ليجتاز التجربة واكتشافاتها بنجاح، دون أن يزيح أي هدف له جانباً، صغر هذا الهدف أو كبر، فأفكار مخيفة تجتاحه، وتعمره بنوبات قلق، ويخيل له أن حاجته إلى فعل شيء حيال ذلك القلق شديد الضرورة، فيخطو داخل فضاءاته ويفرغ ذلك الإضطراب وذلك القلق في وجوهه التي تحمل كل آثار مخاطره التي يواجهها في هذا النوع من الخلق والإبداع، ولا يريد أن يعود إلى بره، فلإختياراته سبل كثيرة بوسعه أن يختار واحداً منها أو أكثر للتعامل مع ألمه الكبير بممارسة الصبر ومحاولة فهم قرائي فهماً أفضل وهو يعوم بألوانه في ألم المخاض ومعاناته، وهذا بكل بساطة قد يحزنه في بادىء الأمر، فالألم فظيع، ولكن بصرخة الوليد وبروز وجهه يترك كل الأمور جانباً ويعيش متعة الخلق والقدرة على الإنجاب الذي يمكنه من قول فعله، وفعل قوله، أي أنه يستطيع فعل كل شيء، وخياراته كثيرة، والمفارقة أنه يطلق الروح في وجوه لدرجة يجعل أصواتها مسموعة أكثر لكل قارىء ورائي.
من الواضح أن علي عمر عانى ألماً شديداً، أو أنه يعاني كثيراً من تلك الآلام التي تواجه معظم الناس في حياتهم وعلى نحو أخص، الذين ينتمي إليهم ويعيش معهم، وهذا أمر محتوم وليس في ذلك لائمة ما، فوجع البلاد كبير وطويل، ونتيجة لذلك، وبوصفه ينبوعاً من الأحاسيس تفرض عليه مسؤوليته كفنان أن يكون مخلصاً وصادقاً لإنفعالاته وقناعاته وأفعاله، وحين وقوع الألم يكون الأسرع في تحمل مسؤولية ذلك، ويستولي عليه وجوهه التي ترافقه، فيبدأ بمحاوراته معهم حتى يتلبسهم ذلك الألم وتلك الفظيعة، فلا يلقي اللوم على الآخرين، فقط يلوم نفسه حتى تبدأ ريشه بتلوين وخط كل ذلك، وتبدأ النتائج الإنفعالية والنفسية لتلك الوجوه بالحضور، وبسرد حكاياتها ووجعها حتى تصبح رؤيته قادرة على إرسال تلك الإشارات لمشهده البصري حتى يكتمل، وصحيح أن الجانب المشمس من الحياة قد يكون أعرجاً، أو بعين واحدة لشخوصه، إلا أنها في حالة مكوث وسكون وحيرة قد تقبل على الحياة في أحيان كثيرة مهما كانت هذه الحياة سيئة لئيمة، وهذا نوع من حب الحياة والإنخراط فيها مهما تجنبتنا تلك الحياة.
وجوه علي عمر ليست بورتريهات عادية، ولا مسالك منطقية لها بقدر ما هي إعادة صياغة لحالات تحن الإقتراب من نقاطها الإنفعالية التي تعبر تعبيراً مناسباً عن المرتبطة منها وبما تشعر بها من غضب أو تعب، فهي ترسم أسئلتها الصعبة، محفزاً عمر على القدرة على فعل شيء ما من أجل ذرف الدموع أكثر وعلى أكثر من مستوى، وهذا يمنحه قدراً أكبر من الحرية التي تستحق جهده المبذول وأكثر، الحرية التي تجعله يتصرف معظم الوقت كما لو أنه وحده موجود في هذه الحياة، ويمكن قراءة ومحاكاة حكايا وجوهه إستكمالاً للنقطة السابقة، فهي تقدم مقولات فكرية وفلسفية حديثة وراهنة إنطلاقاً من الأمر الممكن، فهو ينتج معرفة معاصرة ومتعددة الأبعاد في ظل ثنائيات الذات (الذات : عنوان معرضه) والموضوع، الدال والمدلول، فهو ينحاز إلى الذات المدركة ويخضع لها، ثم ينحاز إلى الموضوع المدرك، ويجمع في مكوناته الأساسية بين الوعي واللاوعي، أو بين العقل والوحي، وهنا يبقى الواقع بكل ترساناته، وترسباته في الخارج، وروح الإرادة وتطلعاته هي التي تعكس جموح الذات المدركة لديه وروحها، وهذا بحد ذاته يشكل الحافز الأهم له لتجاوز المألوف والبحث عن المختلف، يشكل الدافع والمحرك لتوغلاته في بحثه الجمالي / المعرفي، وهذا بالضرورة يدفعه لترتيب محاوره وما تفرع عنها من تساؤلات وإشكاليات تخدم هدفه الذي يمضي إليه.
علي عمر لا يرسم البورتريهات، بل ينحتها، باحثاً عن الحكمة المتعالية فيها، ينحتها بتعبيرية مجنونة، غاضبة، حتى تغدو قابلة للنطق في كل زمان وكل مكان، تحكي قصتها الطويلة جداً، الموجعة جداً، وهي متمسكة بكل مكوناتها، تحكي وهي مترفعة عن ذلك التعب الذي فيه، فتتجاوزه بالسيرورة والدوام إلى موقع بين الثبات والتغيير، إلى موقع من الممكن أن يشغل فيه موقع الأصالة والأولوية، موقع ومبحث الإنسان بما هو إنسان في السياق ذاته الذي يمضي فيه لمنطلقات بحثه حيث التداخل بين جوانبها كثير، وحيث حضوره في المشهد الجمالي يشكل مقوماً أساسياً وملازماً لمنتوجه في بعديه المعرفي والفني في المرحلة الراهنة على الأقل، نعم ثمة إمكانية لدى علي عمر في إحياء وتشذيب وتجديد آليات تفكيره وبحثه إنطلاقاً من رؤية معاصرة ليست لها قطيعة مع الأجواء والمقولات الراهنة، بل تعوم فيها بما يتلاءم مع روح العصر، ولديه من الفرص ما لا تعد لإعادة تفعيل ثوابته للوصول إلى نتاجات معرفية جديدة مستمدة من قراءاته لمنظومات جمالية جديدة وفهمها، وتوظيفها لاحقاً في معالجاته الفنية الخاصة.