"عندما تزهر البنادق" تأجيج للذاكرة الفلسطينية

رواية بديعة النعيمي تتناول بشكل مختصر وسريع تسلسل أحداث وتطورات القضية الفلسطينية ابتداءً من الضغط على الدولة العثمانية.
قرية دير ياسين تعرضت لاقتحام العصابات الصهيونية
قرية اغتصبت على حواف بنادق خانتها رصاصاتها

إن مقارنة سريعة بين المذبحة النازية لليهود، والمذابح اليهودية الصهيونية للفلسطينيين، تؤكد البون الشاسع بينهما؛ فمع أن المذابح النازية المعروفة باسم «الهولوكوست» انتهت وتم التعويض عنها أضعافًا مضاعفة، وكتبت عنها آلاف الكتب، وأخرجت مئات الأفلام، وما زال الزخم الإعلامي والسياسي والقانوني والفني والثقافي يتدفق لتبقى حية في الأذهان، ولتشعر العالم بمسؤوليته عن هذه المذابح، وضرورة رعاية وحضانة ودعم نسل هؤلاء، على الرغم من التشكيك الكبير في عدد الضحايا المزعوم، وتورط أقطاب الصهيونية في هذه المذابح ودعمها لضمان هجرة اليهود إلى فلسطين، وكسب الدعم الدولي لمزاعمهم وأطماعهم.
وفي المقابل، فإن المذابح التي تستهدف الفلسطينيين وما زالت مستمرة على يد ضحايا المذابح النازية، لم تحظ بما تستحق من فضح وكشف ونشر على مستوى عالمي، وكل ما تم بشأنها جهد محدود موجه للعرب في معظمه، مع أن الكارثة ما زالت حية، والقضية مستمرة، والألم والتشرد والتعذيب والتهجير والحصار على أشدها، وما أبشع أن تتحول الضحية إلى جلاد وسفاح، والمظلوم إلى ظالم شرس.
إن القضية الفلسطينية حية في الأذهان الفلسطينية والعربية والإسلامية وربما الإنسانية، ولكنها حياة عاطفية باهتة، مفرغة من المعرفة والحقائق، ويصدق ذلك أيضًا على الأجيال الفلسطينية الشابة خارج فلسطين التي تتفاعل مع قضيتها دون دراية كافية بتاريخها ومعطياتها ومفاصلها، وثمة تقصير واضح بشأنها في المجالات كافة ومن جميع الأطراف، وتأتي رواية «عندما تزهر البنادق/دير ياسين» للروائية الأردنية بديعة النعيمي، إضافة محمودة لإبقاء جمر الذاكرة متقدًا، وتعيد للإذهان مذبحة «دير ياسين» ومثيلاتها، وكل فلسطين «دير ياسين»، وفي كل يوم «دير ياسين» جديدة.
تتناول الرواية بشكل مختصر وسريع تسلسل أحداث وتطورات القضية الفلسطينية ابتداءً من الضغط على الدولة العثمانية، وانتهاء بهزيمتها ودخول القوات الإنجليزية، وتسارع الهجرة اليهودية واعتراف الولايات المتحدة بوعد بلفور، مما يعني دعم الوجود اليهودي على أرض فلسطين، وشرعنه الهجرة إليها، وتصاعد الأحداث بالمظاهرات والاشتباكات والاعتقالات والاعتداء على القرى الفلسطينية وتزايد حركة الاستيطان والثورة الفلسطينية وغيرها من الأحداث التي سبقت انسحاب القوات الإنجليزية وتسليم فلسطين للعصابات الصهيونية.
لم تأت الأحداث السابقة بشكل مباشر، بل من خلال تصوير الحياة في قرية «دير ياسين»، هذه القرية الوادعة، وأهلها المسالمين وأعمالهم البسيطة، وعلاقاتهم الاجتماعية الوثيقة، وارتباطهم بالأرض، وسعيهم طلبًا للرزق. وكان أهل القرية كغيرهم من قرى فلسطين يتابعون بقلق تطورات الأحداث وتصاعدها، ويتناقلون الأخبار، واهتمت النساء أيضًا بذلك على غير عادتهن، فما يحدث يهدد مصير كلٍّ منهم، ولا يفرق بين كبير وصغير ولا بين ذكر وأنثى، فالكل مستهدف، وكانت ديوانية الحاج أسعد ملتقى الرجال؛ يجتمعون ويتناقشون ويفكرون. وعلى الرغم من أنهم ارتبطوا باتفاقات عدم اعتداء مع جيرانهم المستوطنين اليهود، إلا أنهم لاحظوا أن هؤلاء لا عهد لهم، ويتحينون الفرص للانقضاض، خاصة وأن القرى الأخرى المحيطة بالقدس قد تعرضت للعدوان، ولذا قرر أهالي «دير ياسين» التزود بالسلاح، وحصلوا بعد جهد على بنادق قليلة وذخيرة محدودة جلبها شبابهم من مصر. 

novel
الحقائق لا تتغير

وفي فجر التاسع من أبريل/نيسان عام 1948، تعرضت القرية لاقتحام العصابات الصهيونية، فقتلت كل من طالته رشاشاتها ومدافعها من الرجال والنساء والأطفال، ودمرت البيوت، وحاولت حرق جثث الشهداء، وفر القليل من أهل القرية على أقدامهم، فقد خذلت أهل القرية بنادقهم المتواضعة، وذخيرتهم الشحيحة.
«سكنت الجلبة في القرية بعد ظهر ذلك اليوم، وانتهت المعركة بمجزرة تكدست بها الجثث في الطرقات وداخل البيوت ولم تجد من يدفنها، فقامت العصابات بمحاولة لحرقها، وكانت محاولة فاشلة فانتشرت رائحة الدماء مع رائحة شواط الأجساد. 
غادر على جمر الألم من غادر إلى قرية عين كارم، وتشرد أيتام القرية في شوارع القدس يبكون أبًا وأمًا، ومنهم من بكى عائلته بالكامل، نعم بعض العائلات لم يخرح منها حي واحد.
كانت شمس ذلك اليوم قد أشرقت عن صباح رمادي قاتم على قرية كانت بين فكي كماشة، فمن جهة عصابة شتيرن والإرغون بدعم من العصابة الأضخم الهاجاناة، ومن جهة ثانية نفاد الذخيرة.
قرية اغتصبت على حواف بنادق خانتها رصاصاتها...»
سارت الرواية في خطين سرديين؛ الأول تصاعدي ابتدأ من 1920 وتوالي الأحداث والتصعيد المستمر، والتسخين على الأرض، وانتهاء بمذبحة «دير ياسين» الأشهر على الأرض الفلسطينية، والخط الثاني  تمثل بصوت زينب حفيدة الحاج أسعد، التي تشكل وعيها مبكرًا وهي طفلة، وتأثرت بمن حولها وخاصة جدها وأعمامها، وخرجت من المذبحة إلى مصح نفسي، جراء الهول الذي عاشته، والجريمة البشعة التي رأتها رأي العين، التي تتعارض مع كل القيم الإنسانية، ولا يقبلها عقل سليم، ولا مبرر لها ابتداء، فأي عرف يبيح استباحة قرية وإبادة أهلها وتدمير بيوتها دون ذنب أو جريرة؟ واختتمت الرواية بتشابك الخطين السرديين سنة 1958، في مشهد يصور نتائج النكبة وآثارها المدمرة وما أحدثته على الأرض والناس من تغيير واختلاف كبيرين.
استعادت زينب في المصح ذاكرتها شيئًا فشيئًا، ومن خلال ما تذكرته سدت فجوات الأحداث، وأبانت عن مشاعر الفجيعة والنكبة والفقد والوجع والجرح الدامي، عن مشاعر الضياع والتشتت والتشرد، عن مشاعر الفلسطيني المعذب المستباح، بين آلام لا تهدأ، وبين آمال لا تخبو، فالنجاة من المجزرة، بشرى بالعودة مهما طال الزمن، ما دامت نساء فلسطين ولَّادات، وما دام الزيتون يشع نورًا يضيء الطريق لمن ساروا عليه. ولكن من الضروري جدًا أن تبقى الذاكرة متوهجة، نعم، قد يعتريها الضعف والنسيان، ولكن لا بد أن تستعاد بأي وسيلة؛ بالكتابة، بالفن، بالحكي، بالسينما، ... حتى تتناقلها الأجيال، وتستعيد حقها وأرضها وكرامتها مهما طال الزمن، وتجبر العدو ونهب واغتصب وغير وبدل، «فلن يضيع حق وراءه مُطالب»، مع التأكيد أن لا لقاء مع عدو يرى وجوده في محو غيره، ويعتبر الفلسطيني عبد مسخر لخدمته، فالحقائق لا تتغير مهما طالها الزيف والتحوير والتزوير والتلفيق والتطبيع.
وبعد؛؛؛ فإن رواية «عندما تزهر البنادق/ دير ياسين، عمان: دار فضاءات، 2020، 179 صفحة» لبديعة النعيمي، بلغتها الجميلة، وسردها السلس، وفنياتها الموفقة، جهد مقدر ومشكور، لتأجيج الذاكرة الفلسطينية وإبقاء القضية حية في النفوس، فقرية «دير ياسين» هي فلسطين التي تعرضت وما زالت تتعرض للمذابح والمجازر، وسياسة الإبادة والتهجير، على مرأى ومسمع من العالم كله، تضعه أمام مسؤولياته، عسى أن تستيقظ إنسانيته يومًا ما. وهذه الرواية هي الثالثة للكاتبة بعد روايتيها "فراشات شرانقها الموت" 2017، و"مزاد علني" 2018.