عندما تفقد الحياة بريقها وتطوى الأقدار

انهيار قيمي ونفسي يحيط بنا في سنين العوز وقلة المروءة العجاف.

يشعر ملايين البشر، أنهم أمام طوفان حياة مقفرة، جافة، ليس لها طعم أو لون رائحة أو مذاق، بعد إن طغت القيم المادية والأنانيات الضيقة، الى حد القرف، فوق كل القيم والإعتبارات والعادات والتقاليد والاعراف.

يشعر الملايين في كل أنحاء الدنيا، وفي العراق على وجه التحديد، أن الثقافة أصبحت عالة على أصحابها، وسلعة بائرة، بل كاسدة، ويعيش المثقف حالة إفتراق وأسى خطيرة، تصل الى حد تمني أنه لو كان أميا، لكان له أفضل، وربما عاش حياة أكثر سعادة مما هو عليه الآن.

اختفى العلم والعلماء والفلاسفة والمفكرون، ولم يعد هناك منظرون أو من يضعون للأجيال نظريات ومعالم تفاؤل وأمل، بأن يكون بإمكان الوعي والثقافة أن تقدم لهم خدمة في حياتهم، حتى تحول العلم الى مصيدة للمغفلين.

ويعاني مثقفونا وأدباؤنا وكل كوادر الحياة وخبرائها، بمختلف مسمياتها، من الإهمال والحرمان والعوز، وإضطر كثيرون منهم الى الهجرة خارج بلده، عله يظفر بحياة أفضل، دون جدوى، ولم يعد من يعير لهم إهتماما، وكأنهم أشباح غادروا زمنهم بسرعة، برغم أنهم رموز مؤثرة في عالم الإبداع والعطاء الإنساني.

حتى العلاقة بين أفراد العائلة تدهورت تماما، وأصبح الإفتراق واللامبالاة بينهم وبين أقرب مقربيهم، وكان كل واحد منهم يعيش في عالمه، وفي عزلة قاتلة، لم يشهد لها التاريخ مثيلا.

حتى علاقة الأبناء بوالديهم تحولت الى علاقات مادية صرفة، ولم يعد لإعتبارات صلة الرحم بينهم من وجود، إلا ما ندر.

الصداقة إختفت، أو أصبحت من ذكريات الماضي، وفي حدود ضيقة جدا، وربما يعد أصدقاء هذا الزمن على أقل من أصابع اليد الواحدة، أما الباقون فهم أرقام على اليسار، ولم تعد لها قيمة، وتعتاش على الصدف، وعلى بقايا صلات عانت من التأكسد والإنحدار.

أما الحب وصلات المحبة وأسس الخطوبة والزواج، فلم تعد لقيمها وعادتها من وجود، سوى المادية القاتلة والأنانيات الضيقة في قواميس هذا الزمان، وكل يبحث له عن أية موظفة أو حتى عاملة خدمة، لمجرد أن يكون بمقدورها تمشية حياته معها، على طريقة "جفيان شر ملا عليوي".

الطلاق والإفتراق أصبح هو الظاهرة أو الشبح الذي يهدد كيان الأسر، ويمحو وجود العائلة، وبقايا علاقاتهم الآدمية في أدنى مستوياتها، ومن بقي متزوجا من الشباب الجدد يتمنى لو فارق الحياة قبل أن يدخل "العش التنكي" كما يصفه الكثيرون.

حياة إكتسحت الصحراء معظم معالمها ومساحاتها، ولم تعد للخضرة وللجمال وللأنهار، من معنى، وإن وجدت فليس بمقدور البشر التمتع بها، بعد أن إنشغل الكثيرون بثقل الحياة ووطأتها، حتى تحولت حياة الكثيرين منهم الى جحيم.

وأصبحنا الآن نعيش في غابة، يحكمها الفاسدون والعصابات ومن أصحاب السوابق والرذيلة، وهم من يحكموننا بإسم الدين، ويعتلون عرش الخلافة، وقد باعوا الدين وقيمه والأخلاق وإعتباراتها في سوق النخاسة.

كثيرة هي اللعنات التي تنصب على تلك الحياة. وتبدو للكثيرين وكأننا نعيش عالمها الأخير، حيث أن "نهاية الدنيا" أوشكت على القدوم...

وقد يبقى الخالق، جلت قدرته وحيدا في هذا الكون، وهو الواحد الأحد، وربما يعيد إنتاج بشر الكتروني بلا عواطف أو مشاعر أو عقول، وقد يكون أهون عليه من خلق بشر يحتربون ويتقاتلون من أجل لا شيء ربما، وكل يحمل سكينته ليذبح الآخر على هواه.

أجل.. نهاية الدنيا وشيكة، أو أصبحت قاب قوسين أو أدنى من التلاشي، ويذهب بنو البشر الى الآخرة، وهم مثقلون بهموم الدنيا، وما فعلت بهم الأقدار من مصير لا يحسد عليه.

وربما يودع الكثيرون الدنيا، وينتقلون الى الرفيق الأعلى، وهناك تبدأ رحلة الصراع الرهيبة، والتهديد بالنار أو الترغيب بالجنة، حيث يقوم الملائكة بفرز البشر وتوزيعهم بالعدالة على جنات، بحسب الدرجات التي حصلوا عليها، فهناك من يدخل جنات عدن وعالم الحوريات وحور العين، وهناك من يدخل جنات الدرجات الأولى والثانية والثالثة والرابعة، ويرزق من بقية من لم يلتفت اليهن أحد في الدنيا، والبعض الآخر في أطراف الجنة، وربما يحصل على "حورية مجقلمة".

أما من يكمل أو يرسب في إمتحان الحياة، يدخل مرغما الى النار، حيث يلاقي سدنة النار بإستقباله، وهو يشوون الأجساد على نار تشوي الوجوه، و"بئس الشراب وساءت مرتفقا"، حيث لا يوجد هناك نظام للدور الثاني أو الثالث، ولا تفيده شهادة جامعية مزورة أو إشتراها بالسحت الحرام، أو أكل الربا أو سرق خزائن الأوطان، أو كان هاربا من الدفاع عن سور الوطن، ولم تهمه أعراض البشر أو كرامة الأوطان.

أما القتلة والمجرمون وأرباب السوابق والعصابات، ومن سفكوا دماء الأبرياء، فهؤلاء يدخلون الدرك الأسفل من النار، وهم يبقون ينتظرون لزمن لا علم لنا به، بأن يشملهم أمر ديواني أو عفو آلهي، أو أن تنزل عليهم رحمة وعطف والتفاتة الواحد القهار.